قصص قصيرة من زمن كورونا

يوميات متسول

قضى معظم ليلة أمس في مطاردة الفئران داخل غرفته في سطح العمارة، بالكاد نام سويعات قليلة، قبل أن يرن هاتفه بقوة .. إنها السادسة صباحا، بمجرد ما استيقظ من نومه تفقد فخاخه المدسوسة .. حصيلة ذلك الصباح، فأر واحد عالق تحت السرير المهترئ، وأخرى في عداد الهاربين .. تأمل الكدمات في ما تبقى من مرآة متشظية ثم زفر بقوة ..طفق في فتل شاربه الكث.. حك صدغه ومطّ شفته السفلى حتى تورّدت ..أطبق شفتيه المتدليتين على السيجارة ورشف ما تبقى من قهوة الليلة الماضية .. سعل بقوة حتى كاد يختنق ..
كورونا فرضت عليه طقوسا جديدة في التسول .. يتوجب عليه مغادرة البيت باكرا والعودة باكرا كذلك .لا مطاعم ولا مقاهي ولا أسواق هذه المرة… خلال الحقبة الكورونية التسول محدد زمكانيا .. وكل دقيقة يضيعها في المكان غير المناسب، ستكلفه المكوث يوما كاملا بأمعاء فارغة .. وفي هذه المرة بالذات، ينبغي عليه إخفاء سعاله المستمر .. وأي هامش خطأ سيجر عليه حنق المارة .. مسار الذهاب والإياب محدد سلفا، حتى لايقع في شرك مساءلة رجال السلطة.. كانت وجهته هذا الصباح سوق بيع الخضار والسمك..
وفي طريقه داخل الأزقة الملتوية المحاذية للشارع ، عشرات الأفكار كانت تتراقص ، على نحو طفولي، في ذهنه .. هنا كان يستجدى الناس على أطراف السويقة ! أمام هذا المطعم كان يتناول الحساء وبقايا الدجاج المشوي ! أمام بوابة المسجد تلك كان تنهال على كفه الممد عشرات الدراهم .. عند آخر لفة قبيل أن يعرج على الشارع الرئيس ، استل الكمامة ، ثم أخذ مسافة الأمان من أول شخص صادفه في طريقه.. أخذ يطوف ؛ على نحو لولبي ؛ حول المارة ، قبل أن تخور قواه من فرط الإرهاق ..

مشهد الشارع

أكاد لا أتعرف على ملامح الوجوه من مسافة آمنة، كمامات زرقاء، بيضاء، مناديل وخرق شفافة حتى، سحنات سمراء مصهورة تزفر الهواء ببطء لافت ..مشهد الشارع الآن أقرب إلى حفلة تنكرية رتيبة، اصطفت جموع النساء والرجال، في طابورين متوازيين، أمام البقال الذي مافتئ يلوك أمام مسامعهم متلازمة مسافة الأمان المطلوبة….رجل مسن يمسك بعربة يدوية، ينتظر بشغف زبونا مثقلا.. شرطيان منهكان يجوبان الشارع بلا توقف.. يبدو أنهما يطلبان من المارة تصاريح الخروج من البيت..
أربعيني يتخلص من مخاطه بجانب شجيرة الليمون، ثم ينتصب فجأة بمحاذاة الأخيرة…جدران كامدة تفوح منها رائحة البول ..صرير ميزان الخضار لا يتوقف وامتعاض زبنائه من غلاء الأسعار كذلك..أكتاف متدلية تتجشم عناء حمل قفة ملتهبة، قبل أن تذوب شيئا فشيئا وسط الثقب الأسود… أجساد منهكة تعود أدراجها إلى البيوت قبل أن تحرر في حقهم مخالفة خرق حظر التجوال..

ليلة بالسطح

خرق صرير المزلاج صمت السطح.. اندفع صوب كرسي مائل.. عدل جلسته وأخذ يعد ماتبقى من سجائر في جيب «الجاكيط» .. كانت تلك آخر سيجارتين يتناولهما قبل أن يأوي إلى فراشه .. كان يتملى حشوة التبغ وهي تحترق .. لماذا ترتبط النار دوما بالنهاية؟! ولماذا ظل الإنسان يعبدها لقرون طويلة؟!، لماذا يستقوي بها بشر ويخشاها آخرون؟!، انتبه فجأة إلى تآكل السيجارة .. عب الدخان بأناة، قبل أن يزفره بقوة إلى الأعلى، كان يرقب بطرف محجره زوج جوارب يرفرف على السلك .. مد يده باتجاهه ثم دسه في جيبه .. قذف العقب بالسبابة فهوت من السطح..
شبك يديه وهز رأسه إلى السماء..ضوء آلاف النجوم ينزّ بلاتوقف، كأنما كانت تلح على البوح بأشياء ما.. أسئلة كثيرة بدأت تجوس ببطء في ذهنه.. انتابه ارتخاء عضوي .. أخذ يتملى نوافذ البيوت المجاورة.. زمن كورونا زمن الانزياح بامتياز.. بالليل بدت المدينة مسجاة.. والناس يتلون المرثية بكبرياء وعلى أقساط طيلة فترة الحجر الصحي .. حظر التجوال فرض على المدخنين اعتلاء السطوح وتدبر أمر السيجارة في حلكة الليل .. أزلج الباب وتسلل عبر الدرج..


الكاتب : يوسف عيادي

  

بتاريخ : 24/04/2020