أسئلة الذاكرة في الصحافة

جمال المحافظ

في بدايات التسعينات، انتعشت الكتابة الصحفية حول الذاكرة السياسية الوطنية بشكل ملحوظ، واتسمت ما كانت نشرته الصحف، بجرأة كبيرة في تناول قضايا كانت في دائرة المحرمات، بسبب ما كان مفروضا على المنابر الصحفية من «خطوط حمراء» والإفراط في ممارسة الرقابة الذاتية لدى معالجتها.
هكذا تنافست الصحافة المكتوبة، خلال هذه المرحلة، على تقليب صفحات الماضي، بالتركيز على أحداث ظلت طي الكتمان، منها الاغتيالات التي جرت عقب الحصول على الاستقلال وذهب ضحيتها بعض رجالات المقاومة، وعناصر من منظمة «الهلال الأسود» ومحاكمة قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذين توبعوا سنة 1963، بتهمة محاولة قلب النظام، كما نشرت الصحف تفاصيل عن ملفات أخرى كأحداث ثالث مارس 1973 واغتيال القائد الاتحادي عمر بنجلون، وتفاصيل انقلاب الصخيرات سنة 1971، والمعتقلات السرية منها تزمامارت، واختطاف المهدي بن بركة ، وعائلة أوفقير، ومذكرات المعارض ابراهام السرفاتي وزوجته الحقوقية كرستين دور.
وكان لافتا للانتباه، الإشارة في هذه الملفات المعززة بشهادات وصور لأشخاص رحلوا وآخرين ما زالوا قيد الحياة، ويتحمل بعضها جانبا من تدبير الشأن العام مرة بالتصريح، وبالتلميح أحيانا، الى أسماء كانت فاعلة في هذه الأحداث أو شاهدة عليها.
وحظيت هذه الحفريات الصحافية باهتمام متزايد من لدن الطبقة السياسية ومعها فئات واسعة من الرأي العام، و مكنت من إحداث نقلة نوعية في التفكير والبحث، فضلا عن مساهمتها في توسيع قاعدة القراء، وسجلت انتعاشا ملحوظا في الإقبال على الصحف. وشهد الأداء المهني تطورا واضحا، واعتماد البعض من الصحفيين في تحليل المادة الصحفية مقاربة تستند على قواعد المنهج التوثيقي، في الوقت الذي تعزز فيه المشهد الصحفي والإعلامي بالتحاق جيل جديد بمهنة المتاعب، وسع من قاعدة الصحافيين خاصة المتوفرين على تكوين عالي.
وإذا كانت الصحافة، قد تمكنت من نفض الغبار عن ملفات الماضي، وطرح تساؤلات حول ظروفها وتداعياتها، فإنها أثارت في المقابل جدلا واسعا، حول وظائف الصحافة، ودور الصحفي في تناول هذه الأحداث، التي عادة ما اعتبرت اختصاصا خالصا للمؤرخين الذين لبس بعضهم خلال تلك الفترة جبة الصحافة، وذلك باعتبار أن تحرير المادة الصحفية، يختلف عن الكتابة التاريخية، أولا لتعاملها الفوري مع الأحداث، واعتماد أدوات ومنهجية إعلامية بإماطة اللثام، وإنعاش ومواكبة أحداث ووقائع الماضي، وتحويله إلى مادة إعلامية تكون في مستوى إدراك فئات القراء المختلفة.
وساهمت المكتسبات التي تحققت في التحولات الإيجابية التي شهدها المجال الحقوقي والسياسي والاجتماعي، نتيجة التحولات الدولية في بداية وأواسط التسعينات، في خلق هذه الدينامية الإعلامية، والتي أفرزت ميلاد منابر إعلامية جديدة، وسعت من العرض الصحفي، الذي احتكرته الصحافة الصادرة عن الأحزاب السياسية، مما فتح أبواب التنافس بين الصحف على مصراعيه. فهذه التحولات خلقت واقعا جديدا، وخلخلت يقينيات سادت لردح من الزمن حول بعض فصول وأحداث الماضي، والتي أعيد ترميمها في ملفات الصحافة.
وإذا كان التاريخ الوطني، يزخر بالعديد من الأحداث التي كانت الصحافة في صلبها، وأدت الثمن غاليا لجرأتها في الخوض في منعرجاتها، فإن نشر جريدة Le Journal ( لوجورنال) الأسبوعية، في عددها الصادر في 25 نونبر 2000 رسالة منسوبة للفقيه محمد البصري (1925-2003) أحد رجالات المقاومة، يقول فيها إن قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (خاصة عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفى)، «كانت على علم» بمحاولة الانقلاب العسكري الفاشلة التي قادها سنة 1972 الجنيرال أوفقير، خلقت جدلا واسعا بين مختلف الأطراف الحزبية والحكومية والإعلامية.
واختلفت الآراء حول نشر الجريدة للرسالة التي يعود تاريخها إلى سنة 1974، وسارعت المنابر الإعلامية الوطنية والدولية، إلى نقل ورصد مختلف ردود الفعل التي أثارتها هذه القضية، وتداعياتها وتأثيراتها على العلاقات بين الفاعلين، حيث تباينت المواقف وتنوعت التحليلات، وطرحت معها إشكاليات متعددة من قبيل حدود التماس بين الفاعل السياسي والصحافة، وأدوار الإعلام في مرحلة الانتقال الديمقراطي وزمن « التناوب التوافقي» الذي كان قطاره قد انطلق سنة 1998، بعد الإعلان عن « السكتة القلبية «.
وتمحور النقاش في هذه المرحلة، حول خلفيات نشر رسالة « الفقيه»، ومدى صحتها، ومضامينها وفضلا عن التساؤل حول توقيت نشرها ( زمن التناوب). وتبادل الفاعلون السياسيون في هذا الصدد الاتهامات، وتباينت ردود فعل الهيئات السياسية حولها منها المعني المباشر، الاتحاد الاشتراكى للقوات الشعبية، الذي وصف ذلك بأنه «هجمة ممنهجة على المؤسسات الدستورية للمغرب ورموزه الوطنية».
وفي نفس السياق، اتهم المكتب السياسي في بلاغ أصدره في 18 نونبر 2000 بعض المنابر الإعلامية بالإصرار على «تنسيق هجماتها بشكل مدروس ومتصاعد، تدرج من الهجوم الشخصي على الكاتب الأول الوزير الأول في حكومة صاحب الجلالة، إلى الهجوم على حزبه وحلفائه».
لكن كانت هناك آراء مخالفة لرأي الحزب منها مطالبة محمد الساسي عضو اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ( آنذاك) في مقال أسبوعية «المستقل» نشرته في يناير 2001 بعنوان « دفاعا عن الحرية» ب» التخلي عن نظرية المؤامرة لمهاجمة الخصوم» متسائلا عما إذا كان ترسيخ ثقافة صحفية جديدة « ممكنا بدون ثقافة سياسية جديدة» خاصة عندما « ننطلق من أن الشفافية، ليست دواء ناجعا، فإننا عمليا، ننال من العمل الصحفي الذي هو نص مفتوح على المراجعة والمراكمة وإعادة الصياغة»، علاوة على أن نشر الرسالة «كشفت جزءا من خيوط اللعبة السياسية في مغرب اليوم، ومواقع الفاعلين وتناقضاتهم، وطبيعة التوازنات التي يتم السعي لضبطها».
«قصة رسالة الفقيه» انتهت بمنع ثلاثة جرائد دفعة واحدة (اسبوعية لوجورنال و»الصحيفة» و» دومان» من الصدور، ليس بحكم قضائي، وإنما بقرار حكومي استند على الفصل 77 من قانون الصحافة الذي سيتم تعديله بعد ذلك سنة 2002، لكن قصص أخرى ظلت مفتوحة كأسئلة الذاكرة في الصحافة، ومسببات التوتر بين الفاعل السياسي والفاعل الإعلامي، فضلا عن إشكالية محددات الصحافة المستقلة، واستقلالية الصحافي.

الكاتب : جمال المحافظ - بتاريخ : 28/04/2020