في ضرورة الانتقال من مجتمع سلطة جزافية إلى مجتمع سلطة واعية

الدكتورعزيز بعزي

تفضي مجمل المحاولات التي تنكر لزوم استحضار البعد الثقافي بشكل جلي في العملية التنموية إلى التيه خارج سياقاتها التاريخية والواقعية؛ مما يدفعها بعد الوقوف عند الحصيلة السلبية – الحتمية، والمتوقعة معا من خلال الإدراك التام للمجريات السابقة – إلى الأخذ بعين الاعتبار، كل ما من شأنه على الأقل الحد من درجة تفاقم مرتبة التيه؛ المؤدية إلى زوال البصيرة الثقافية، أو الحضور الثقافي المطلوب .
كل هذا يحصل لمَّا يكون التيه اللاإرادي المرفوض مجتمعيا، والمفتعل من قبل سلطات كيفما كانت توجهاتها،أحد تجليات واقعنا. لذا تبرز المقاومة بشكل لاشعوري في الغالب، كوسيلة لحماية الحقوق الطبيعية؛ وهي عادة يطلق عليها العدل الطبيعي، كما يرى توماس هوبز، وهذا ما ندعو إليه على اعتبار أن العدل الطبيعي يقوم على تحقيق حرية كل واحد في العمل بكامل قوته، وكما يحلو له من أجل الحفاظ على طبيعته الخاصة، أي حياته الخاصة، ومن ثم القيام بكل ما يبدو له حسب تقديره الخاص أنه أنسب وسيلة لتحقيق هذا الغرض.
فالحقوق الطبيعية تتجلى للإنسان في أربعة، وهي حق البقاء أو المحافظة على الذات، والحق في استخدام مختلف الوسائل التي تؤمِّن الحق السابق (حق البقاء)، وحق تقرير أنواع الوسائل الضرورية التي تكفل حق البقاء ودرء الخطر، وحق وضع اليد على كل ما تصل إليه.
لذا، فحق البقاء عموما لا تنفصل مقوماته عن وجود الحرية الكاملة للإنسان في التصرف الذي تحركه بشتى السبل سلط تشبه جيش احتلال؛ حيث أضحى الشعب عدوا لها إلا في الحدود التي تقتضيها المصلحة الضرورية، وهذه السلط كما يبدو في أصلها لا علاقة لها حقيقة بشعوبها، وهذا ما سيظهر لنا من خلال ما بينته في الفقرات الموالية .
لنتأمل مليا ما قامت به وزارة الثقافة الفرنسية سابقا، فقد أنجزت بكل ثقة كاملة، وفقا لمخططاتها المستقبلية، وبشكل عملي دراسة شاملة، مستوفية لشروطها الموضوعية بالتمام والكمال، تعود مقتضياتها الأساسية إلى الجهود المضنية النابعة من الجمعية الدولية المستقبلية حول «استشراف مستقبل التنمية».
وقد كان من نتائج المناقشات والدراسات المستفيضة حول «أية ثقافة في المستقبل؟» أن اتضح لمعظم الباحثين أن هناك إستراتيجيتين للثقافة نلخص مضمونهما في ما يلي: أ- إستراتيجية الاستقالة: وهي في الحقيقة إستراتيجية تتخلى فيها الفئات الشعبية عن كل منافسة للنخبة في مواجهة التقلبات داخل المجتمع، أو محاولة السيطرة على زمام حركتها. وبلا خلاف فإن هذه الإستراتيجية تزيد من تأزم الوضع القائم، وتنتهي بمزيد من تمركز السلطة، والإدارة بيد النخبة، ومزيد من الغرق للمجتمع تحت طوفان المشاكل الناجمة عن الآثار السلبية غير المعالجة للتقلبات، وانحصار اتخاذ القرار، وتحديد البدائل في أيدي زمرة منعزلة من الفاعلين وأصحاب القرار.
ب- إستراتيجية التجنيد: وهي إستراتيجية تجند فيها جميع الضمائر الواعية في المجتمع، للتمكن من الوصول إلى مستوى حضاري نوعي، وإلى المشاركة الفعلية للفرد في صياغة حياته، والاهتمام ببيئته، ومحيطه الاجتماعي، وإسهامه في تقويم ذاته، والتأثير إيجابا في تطوير مجتمعه، وإصلاحه بشكل يجعل من تقلبات ذلك المجتمع ظاهرة طبيعية توظف لصالح تطوير المجتمع، وليست هوسا يشل فعالياته، ويحد من طاقاته.
يمكن إذاً لمثل هذه الإستراتيجية عمليا تطوير الفكر والمنهج والمعرفة، بما يسمح لها بالانتقال من مجتمع ذي أغلبية صامتة إلى مجتمع ذي أغلبية فاعلة، تناقش ما تعيشه من مشاكل، والمشاركة في صياغة برامج الإصلاح.
هذه الإستراتيجية الصلبة على أية حال تسمح بالانتقال من مجتمع سلطة جزافية؛ تؤسس للهوان إلى مجتمع سلطة واعية، تؤسس لقوة التحكم في زمام الأمور كيفما كانت أحوالها.
هذا التصور كما هو ملاحظ غائب في واقعنا، ببساطة لانعدام الإرادة بسبب وجود آراء، ومواقف ليس في مصلحتها تحقيق ذلك، وباسم الاستبداد تحاول تكريس أبعاد التضليل المختلفة للمجتمع كله، والحق أن ضعف هذا الأخير يرجع إلى انعدام ما يسمى بالرؤية المحققة للتنمية الشاملة، والمفعمة بالقوة التي تحقق الوجود.
فجل الحركات الإصلاحية في العالم بأسره اعتمدت على رؤية بعيدة المدى للوصول إلى مبتغاها، و من ثم فبدونها كما ذهب المنجرة لا يمكن بناء إستراتيجية، وبدون إستراتيجية لا يمكن بناء سياسة، وبدون سياسة لا يمكن تحقيق التقدم في أي من ميادين الحياة. وعليه فإن الإفلاس السياسي الذي تعاني منه الأنظمة العربية والإسلامية راجع أساسا إلى الافتقار للرؤية، والتدبير الإستراتيجي لما تريد تحقيقه، وللأسف فنحن نجد أن المسؤولين في العالم العربي الإسلامي يعتمدون غالبا في دراستهم المستقبلية على الأجانب، وتقارير البنك الدولي …دون الاهتمام بما يكتبه خبراء بيئتهم لأن ما يهمهم هو البقاء في السلطة ( أصل الاستبداد حاليا)، والاعتماد على الطرق غير المشروعة للحفاظ على مواقعهم ( الفساد الأكبر)، وهذا ما يهدد بطبيعة الحال مستقبل مجتمعاتنا على الصعيدين الداخلي والخارجي.
حتى لا يكون مصيرنا التيه، – وحسب ما ذهب إليه المنجرة – فإن تشييد معالم الرؤية لا يمكن أن يشهده أي نظام عربي إسلامي يتسم بما يلي:
:أولا: التفقيرقراطية؛ أي حينما يغدو الفقر» نظاما للتدبير والحكم، وهو ما يفسر تفاقم هوة الفوارق من الاستقلال إلى يومنا هذا». ثانيا: الجهلقراطية؛ فلا يمكن تحقيق التنمية في ظل استفحال ظاهرة الأمية، والجهل في الوقت الذي نتحدث فيه عن مجتمع المعرفة.
ثالثا: الشيخوخقراطية؛ فنحن بحاجة إلى تحقيق الديمقراطية في توزيع الأعمار، فنحن محكومين بأناس شيوخ في حين أن ثلثي الجماهير شباب. رابعا: الكذبقراطية»؛ أي حين يغدو الكذب شكلا للحكم. فالكذب خطير؛ لأن ذلك الذي يكذب يبدأ في الاقتناع بأنه على حق وأنه لا يكذب، وحين يقوم المرء بذلك فإنه يفقد كل مصداقية». خامسا: الخوفقراطية؛ أي حين يصير الخوف وسيلة للحكم والتحكم.
لتجاوز ذلك فما علينا سوى طرد الفساد من بيئتنا حتى لا يتحول إلى غول يهدد سلامة وجودنا، لكن يبدو أن نمو الفساد في عالمنا أدى إلى اضمحلال مقومات التنمية الثقافية وميكانيزماتها المحركة للتنمية الشاملة، أما الغريب والمضحك والمبكي في آن واحد أن هناك من يرى أن الفساد يمكن أن يكون محركا للنشاط الاقتصادي حتى لا نبتعد عن تشريح كنه الفساد وأوهامه، ومادامت هذه الحقيقة بادية للعيان؛ فما علينا إلا أن ننتظر ما هو أسوأ بحكم أن الفساد بلا مراء مبدأ لا أخلاقي وغير مرحب به لأنه شر، ومكرس لسلطة جزافية، فبئس توجهها الحالي، وسيناريوهاتها المستقبلية الآثمة.

الكاتب : الدكتورعزيز بعزي - بتاريخ : 30/04/2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *