الفيلسوف محمد المصباحي يستدعي الفكر الرشدي لمواجهة كورونا : ابن رشد مجرد استعارة ورمز للعلماء والفلاسفة المسلمين المؤمنين بقدرة العقل

خصصت «جمعية أصدقاء الفلسفة» في شخص الفيلسوف عزيز حدادي المناضل الرشدي حتى النخاع، عبر صفحته على الفايسبوك، نهاية الاسبوع الماضي، موضوعا غاية في الأهمية والراهنية، بالنظر إلى ما أفرزته جائحة كورونا من ضرورة الاهتمام بالبحث العلمي وبالإنتاج العقلي عموما من خلال أهم المدارس الفلسفية التي انتصرت للفكر والعقل في مسار الإنسان والإنسانية، المدرسة الرشدية التي تتوفر اليوم كل الأسباب لعودة إشعاعها وإشعاع الدرس الفلسفي داخل المدرسة المغربية، استعادة تتم من زاوية الانطلاق من الأصول في اتجاه الانفتاح على الفلسفة الغربية والاستفادة منها.
الحلقة استضافت الدكتور محمد المصباحي الذي يرجع له الفضل في تأسيس المدرسة الرشدية بالمغرب، الفيلسوف صاحب «إشكالية العقل عند ابن رشد»، «الوحدة والوجود عند ابن رشد»، «من أجل حداثة متعددة الأصوات»، كما استضافت الباحث في الفلسفة والناقد السينمائي محمد شويكة والباحث أستاذ الفلسفة عزيز عبقري عن فرع جمعية مدرسي الفلسفة بالصخيرات.

 

الجائحة أعادت طرح مفهوم وحدة العقل البشري

اختار الفيلسوف المغربي محمد المصباحي الحديث عن فلسفة ابن رشد والفكر الرشدي، انطلاقا من الأزمة الحالية التي تعيشها الإنسانية متمثلة في فيروس «كورونا». هذا الربط استقاه المصباحي مما وسم الصراع بين ابن رشد وخصومه من المدرسة الأشعرية وعلى رأسهم الغزالي والذين أنكروا السببية أي أن تكون للطبيعة أفعالها والحال، يقول الدكتور المصباحي، أن أفاعيل الطبيعة اليوم أصبحت تهدد حياتنا وصحتنا واقتصادنا ولا نعلم بعد مآلاتها في االقريب العاجل أو البعيد الآجل.
وفي سياق الحديث عن مذهبي الأشعرية والرشدية، اعتبر المصباحي أن الأمر يرتبط برؤيتين متناقضتين:
– رؤية متشائمة لا تؤمن بالإنسان والطبيعة وتنفي وجودهما الفعلي، وهي الرؤية الأشعرية.
– رؤية متفائلة تؤمن بالإنسان والعقل وبالعلم وهي الرؤية الرشدية.
بخصوص العلم الذي تمجده الرؤية الرشدية، يرى صاحب «جدلية العقل والمدينة» أن جائحة كورونا اليوم مكنتنا من إعادة اكتشاف شيء رائع فيه وهو أنه رغم كل التقدم الحاصل في المعرفة والقدرة على التغلب على العديد من المشاكل التي يطرحها المجتمع والتاريخ، فإننا مازلنا في حاجة الى المزيد من المعرفة والبحث، وهو ما يجسده التسابق وصراع العلماء والباحثين في إعطاء تفسير لهذا الوباء وهو ما يمكن اعتباره مصدر اطمئنان على مصير العلم رغم أنه لا يقينية في العلم، لكن هذا اللايقين يشير الدكتور المصباحي يكمن بداخله يقين آخر هو الإيمان بانتصار العلم في النهاية مادام يمسك بزمام الأشياء في العالم.
تردد العلم اليوم وتصارع مدارسه يعيدنا إلى التفكير في فلسفة ابن رشد وأهمية العقل، وابن رشد كما يرى المصباحي هو «مجرد استعارة ورمز لسائر العلماء والفلاسفة المسلمين الذين سبقوه أو جاؤوا من بعده»، إلا أن أزمة كورونا مكنتنا من الانتباه إليه والى عنوان أهم كتبه «الكليات» وهو عنوان يلخص فلسفة ابن رشد كما يسعفنا اليوم، والآن، في النظر لهذه الكارثة الصحية الكونية في شموليتها . هذا النظر حسب المصباحي يتطلب البحث عن» الكليات» في إطار نظرة شاملة وجامعة باعتبارها أزمة صحية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية وبالتالي فالبحث عن حلول لها ينطلق من البحث في أسبابها واستشراف مخلفاتها وآثارها، أي أن الوباء إذا كان كليا ، يجب معالجته بشكل كلي كذلك.
بالنسبة للعقل الذي تعلي من شأنه الفلسفة الرشدية، اليوم فيروس كورونا يذكرنا بشئ أهم بخصوصه وهو وحدة العقل البشري، وهو المذهب الذي أثار زوابع كثيرة في العصور الوسطى منذ القرن 13 والذي يعود اليوم ليطرح هذه الإشكالية من جديد من طرف بعض الدارسين لابن رشد مثل المفكر الفرنسي جون باتيست ودولبيرا حيث نظّر الاثنان لهذه الأزمة من خلال التحليل النفسي وهذه النظرة التحليلية أعادت إحياء مفهوم وحدة العقل البشري وأعطته بعدا جديدا. فالجائحة ذكرتنا بأن هناك عقلا بشريا واحدا.. عقل يبحث في كل المختبرات العالمية عن لقاح، رغم اختلاف الأجناس والثقافات والديانات. وهو درس بليغ من فلسفة ابن رشد الذي طالما خاض صراعات بين رؤى جالينوس وأبقراط وأرسطو في مجال الطب لينتصر في النهاية للمذهب البرهاني في الطب.
في كل ما حدث ورغم فجائعيته، يرى صاحب» الوحدة والوجود عند ابن رشد» أن هناك مكسبا مهما تحقق وهو عودة الفكر الرشدي وعودة ابن رشد من وراء حجاب، وذلك بعودة مفهوم وحدة العقل البشري وبقدرته اللامتناهية على حل المشاكل البيولوجية المطروحة شرط تظافر جهود الإنسانية لحل لغز فيروس «كورونا».
إن عنصر المفاجأة وسرعة الانتشار التي صاحبت ظهور الفيروس الذي يهدد وجود ومصير البشرية والأرض، يعطي الانطباع بأن الطبيعة تنتقم من الإنسان الذي لم يكتف بتخريب غاباتها وأجوائها ومياهها، بل امتدت أبحاثه العلمية الى مجالات تعتبر محظورة نوعا ما (التعديل الوراثي، ربط البيولوجيا بالتكنولوجيا، الاستنساخ، تغيير الخلايا الجذعية…) وهي أمور، كما يرى المصباحي، تهدد مصير الإنسان، لكنه انطباع لا يمكن الركون إليه واعتباره رد فعل أو عقاب مقارنة بضعف وهشاشة هذا الفيروس. ضعف لا يمنع من الاعتراف بكونه استطاع أن يخلخل وجودنا وأن يحدث قلقا كبيرا وهزة فكرية من أهم سماتها التخلي عن التراث والاتكال على المعلومات المتدفقة علينا، وهي المعلومات التي أبرزت بشكل جلي عدم الاطمئنان الى لانهائية الأشياء، سواء كانت هذه المعلومات حلا أو تفسيرا لكون هذه الأخيرة تتناقض وتتصارع ولأن العلم يتقدم بالحوار واختلاف المدارس في المعالجة والمقاربة والتأويل.
أمام هذا الكم الهائل من المعلومات التي تقصفنا كل دقيقة، يدعو المصباحي الى التحلي حيالها باليقظة للتمييز بين الأشياء، محيلا إلى الفكر الرشدي في زاوية من زوايا فكره القوية وهو تصديه للتفكير الجدلي الكلامي في النظر للأمور حيث يحذر ابن رشد في هذا الصدد من اتباع هذا النمط في التفكير لأنه لن يؤدي الى المعرفة بل إلى دغدغة أحلام الجمهور.
«نحن أمام وضع جديد وعلينا أن نكون حذرين لأنه يمكن أن يحدث اللامتوقع إذا لم نلتزم بالبرهان بمعناه الواسع» يقول الفيلسوف محمد المصباحي، مضيفا أن تحدي كورونا هو تحد كبير لأنه يأتي بعد سلسلة من الاكتشافات العديد في الطب والتكنولوجيا وعلى رأسها اكتشاف الفيروس في القرن 19 واكتشاف الكائنات اللامرئية وهي الاكتشافات التي جعلت الإنسان أكثر معرفة بعالم الطبيعة والأوبئة والأمراض، لكن ما حدث اليوم بعثر كل الحسابات وجعلنا أمام حقيقة واحدة هو عدم امتلاكنا لكل معرفة يقينية بالأشياء رغم أن الأوبئة والأمراض ليست ظاهرة حديثة.
الحذر الذي تحدث عنه الدكتور محمد المصباحي لا يتوقف عند الجانب الصحي، بل يتعداه إلى مناحي الحياة الأخرى، فقد يكون مدعاة لانتشار نزعات عنصرية خاصة ضد الآسويين أو الأفارقة كما قد يدفع إلى تعزيز نزعات الشعبوية السياسية، وقد تستغل بعض الأنظمة السياسية ظروف الاستثناء وحالة الطوارئ المفروضة اليوم على سكان العالم للمزيد من إحكام قبضتها الأمنية على الشعوب كما يحدث في بلدان أوروبا الشرقية.
ورغم كل ما خلفته أزمة كورونا من مآس، إلا أن الفيلسوف يدعو إلى الإبقاء على جذوة التفاؤل متوقدة، كون أبناء ابن رشد المغاربة يستطيعون مواجهة هذه الأزمة برؤية كلية وبتعبئة شاملة، وهو ما أفرزته التجربة بالمغرب خصوصا من طرف أجهزة الدولة وخاصة جهاز الصحة.

ابن رشد سينمائيا

يعتبر الباحث في الفلسفة والناقد السينمائي محمد شويكة أن الحديث عن ابن رشد اليوم يتم من زاوية الحاجة الملحة إلى تحريك العقل فينا، خصوصا في ظل سيادة الخرافة وإن كانت جائحة كورونا اليوم أعادت للعقل تلك الحظوة التي كانت له وأعادت بالتالي الثقة في الشك الذي يعتبر مدخلا من مداخل التفكير العقلاني والحداثة.
واعتبر اشويكة أن احتكاكه بالفكر الرشدي انطلق منذ السبعينات من خلال قراءة الفكر الإسلامي والفلسفة وفقه الكلام، وكذا انفتاحه على «المقالات» و»جوامع الكون والفساد « و»التلخيصات» والشروحات وكتب الطب، مشيرا إلى أن المؤسف بالنسبة للجيل الذي اهتم بالفكر الفلسفي النقدي العقلاني، هو تلك الانتكاسة التي عرفها هذا الفكر الرشدي في العالم العربي بعد ازدهاره، الفكر الذي تعرض صاحبة لنكبتين: نكبة حرق كتبه ثم ترحيل رفاته من مراكش الى الأندلس.
وكمختص في النقد السينمائي، اعترف اشويكة أن السينما بمفهومها العربي والمغربي في سياقها الجغرافي، مقصرة في حق الفلاسفة الذين أسسوا للفكر العربي الإسلامي باعتباره فكرا إنسانيا . هذا التقصير يطال الشق الوثائقي كما الدرامي، مقدما العديد من العناوين السينمائية، على قلتها، التي اشتغلت على سير الفلاسفة كابن سينا ومحيي الدين ابن عربي، وابن رشد أهمها فيلم المصير للمخرج الراحل يوسف شاهين.
اليوم مع اكتساح فضاء الصورة والقصف المتواصل للوثائق السمعي البصرية الى درجة تماهى فيها المفهوم الافتراضي للواقع مع المفهوم الذي نعيشه على الشبكات العنكبوتية، أصبح الاهتمام بتقديم هذه التجارب الفلسفية مطلبا ملحا سواء على شكل وثائق سمعية بصرية أو أفلام لأنه يقدم الكثير للعقل والعقلانية كما يمكن أن يقدم إضافات لتطوير الأسئلة الفلسفية الكبرى التي انطلقت مع ابن رشد ومازالت تحتفظ براهنيتها، وأولها سؤال العقلانية في مواجهة الفكر المنغلق.

ابن رشد بأكسفورد

اختار أستاذ الفلسفة عزيز عبقري الإطلالة على فكر ابن رشد من خلال نافذة أوربا، وبالضبط من خلال اهتمام أوربا بفكر هذا الفيلسوف المسلم من أجل فهم الفكر الإسلامي في ظل توتر العلاقة مع هذا العالم، والتي بدون إنتاج فكر عقلاني، لا يمكن تجاوزه.
يرى عبقري أن الاهتمام الأوربي بابن رشد يترجمه ظهور تيار رشدي بعد وفاة ابن رشد بأقل من قرن وترجمة العديد من مؤلفاته، بالإضافة إلى الانفتاح على فكره بجامعات أكسفورد وإيطاليا وباريس.
وتوقف عضو مكتب جمعية مدرسي الفلسفة عند ثلاثة اختيارات ميزت تاريخ الرشدية بأوربا وهي:
الرشدية اللاتينية في القرنين 13و14
رشدية عصر النهضة بين القرنين 15و16.
الرشدية اليهودية من القرن 13 الى القرن17
بالإضافة الى ظهور الطباعة وأثرها في انتشار مؤلفات ابن رشد، وظهور عدد كبير من الترجمات القديمة والجديدة وهو ما يفسر المكانة التي احتلها الفكر والفلسفة الرشديان، والطلب المتزايد على أعماله من طرف الجامعات الأوربية والمفكرين طوال عصر النهضة.


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 07/05/2020