في التغيير والتنوير والشبكات 16- روحانية طه عبد الرحمن وأسئلة التاريخ (3)

انطلقنا في هذه العمل من إقرارنا بحاجة ثقافتنا ومجتمعنا لروح الأنوار ولمختلف القيم التي ترتبط بالحداثة والتحديث، من أجل مزيد من ترسيخها في قلب التحولات الجارية في عالمنا. ولا يتعلق الأمر هنا بفلسفة الأنوار في أبعادها المرتبطة بزمن التأسيس، التي بدأت إرهاصاتها الأولى في عصر النهضة في القرن السادس عشر، وتواصلت إلى نهاية القرن الثامن عشر، بل إن قيم الأنوار اتسعت وتطورت في سياق الانتقادات التي طالت مبادئها وقيمها، بعد ذلك وطيلة القرن العشرين وإلى يومنا هذا، الأمر الذي منح مشروعها امتدادات ووضع أمام بعض مبادئها تحفظات ومراجعات، حيث اغتنت وتطورت وحصل كثير من التنسيب الإيجابي لبعض مبادئها ومقدماتها. الأمر الذي مكَّن المشروع الأنواري من رسم حدوده، كما مكَّنه من مواصلة مساعي تطوير أفقه ومنحه صلابة نظرية.

 

يتوخى الباحث من مختلف جهوده إقامة فكر إسلامي جديد، يستطيع متى أُنجز وتَحَقَّقَ أن يُحصِّن اليقظة الجارية في العالم الإسلامي، ويمنع التقول فيها والتحامل عليها. نحن إذن أمام اختيار واضح تحضر فيه  الفلسفة في بعدها الأداتي، لتمكننا من بناء سقف نظري، داعمٍ لمشروع في النهوض الديني والتجديد الديني. وضمن هذا السياق، يبلور طه عبد الرحمان ما يسميه شروط التجديد، محدداً إياها في شرطين أساسيين: شرط التجربة الإيمانية، التي تتيح نفاذاً عميقاً للذات في طريقها نحو التخلُّق، وشرط التعقل، وهو يتمثل في أدوات النظر المنهجية التي تمكن التجدُّد من السند العقلي.يتوخى الباحث من مختلف جهوده إقامة فكر إسلامي جديد، يستطيع متى أُنجز وتَحَقَّقَ أن يُحصِّن اليقظة الجارية في العالم الإسلامي، ويمنع التقول فيها والتحامل عليها. نحن إذن أمام اختيار واضح تحضر فيه  الفلسفة في بعدها الأداتي، لتمكننا من بناء سقف نظري، داعمٍ لمشروع في النهوض الديني والتجديد الديني. وضمن هذا السياق، يبلور طه عبد الرحمان ما يسميه شروط التجديد، محدداً إياها في شرطين أساسيين: شرط التجربة الإيمانية، التي تتيح نفاذاً عميقاً للذات في طريقها نحو التخلُّق، وشرط التعقل، وهو يتمثل في أدوات النظر المنهجية التي تمكن التجدُّد من السند العقلي.لكن الأمر المحير هنا، هو أن نقد الباحث للمقاربات التراثية والمقاربات المدافعة عن الحداثة في فكرنا، يَصطنع كثيراً من الجهد المنطقي، وكثيراً من الحماسة أثناء مواجهته لقضايا تمثيلية جزئية. فعندما تكون الغاية البعيدة لمشروعه، تتجه لإبراز محدودية العقل الفلسفي “العقل المجرد” بلغة الكاتب، يكون من حقنا أن نتساءل ونحن نقرأه، كيف يمكن إنتاج مقالة فلسفية بهدف هدم صروح تاريخ الفلسفة؟لا يخفي طه عبد الرحمان غاياته البعيدة من مشروعه في النظر، فهو يروم أولاً وقبل كل شيء تجديد العقل بواسطة العمل الديني، أي بواسطة تجربة في القرب حاصلة بفعل التخلق القائم على تجربة شخصية في المعاناة الروحية. إن الفلسفة هنا تحضر كأداة، تحضر في صورة الوسائل التي تمكِّن من إثبات عمق هذه التجربة. إنها تحضر كلغة، كما تحضر كجهد منطقي مبتكِرٍ لأدواته المخصوصة ومفاهيمه المنحوتة، من أجل بلوغ السَّداد المأمول، المؤيد بالممارسة الإيمانية المفعمة بروح الدين، أي بدين الحياء، الدين الذي يَهَبُ الذات خَلاَصها المأمول، ويمنحها القرب الأقل بعداً.. القرب من واهب البعد والقرب..لا يمكن في نظرنا، تجديد الفكر الإسلامي بمفاهيم مماثلة للسِّجِل الوارد في مصنفات طه عبد الرحمن، حيث تحصل الرؤية الذاتية العجيبة، الرؤية الخاطفة للعين، ويحصل الرضى بالحال عن الحال، بعد نعيم التجربة وصفاء السريرة ومتعة البصر والبصيرة، ثم بلوغ مقام التخلق العميق والجماليات العليا، ذلك أن هذه الأمور تعد شأناً خاصّاً، إنها أحاديث الباطن بلغة الباطن، وهذا النوع من التفكير يركِّب كما قلنا النصوص الجميلة، لكنه لا يصلح لعلاج علل التاريخ وأزماته الاجتماعية الكبرى.         يخصص طه عبد الرحمن كتابه المعنون بؤس الدهرانية (2014) لنقد ما يسميه بآفات فصل الأخلاق عن الدين في الفكر الحديث والمعاصر، وذلك من خلال نقده للفلاسفة والمفكرين الذين ساهموا في بلورة عمليات الفصل المذكورة في أعمالهم، يتعلق الأمر على سبيل التمثيل، بكل من روسو وكانط وإميل دوركهايم ولوك فيري.. وهؤلاء في نظره يجسدون الرؤية العلمانية التي تروم بلغته تأليه الإنسان لنفسه.. ومقابل ذلك، يبني جملة من التصوُّرات يطلق عليها نعت الائتمانية. ولمعرفة محدودية قراءته لروسو، يمكن أن نقارن انتقاداته في الكتاب المشار إليه لبعض أعمال روسو، بالمحاولة الهامة التي قَدَّم بها عبد الله العروي ترجمته لنص دين الفطرة لروسو، حيث حاول إبراز حاجة فكرنا اليوم لخيارات روسو الفلسفية في مسألة الموقف من الدين. إذا كان  طه عبد الرحمن، كما وضحنا، يمارس نقداً خارجياً لفلسفة الحداثة كما تبلورت في الفكر المعاصر، فإن الجابري يرى أن العودة إلى تجربة التخلق الصوفي تتجه في روحها العامة إلى تزكية قيم الطاعة والتواكل، وذلك بترك التدبير التاريخي، وترك المصالح المرسلة للبشر العاملين في التاريخ، وهو الأمر الذي قامت النزعات الإصلاحية السلفية من أجل مقاومته في مطلع عصر النهضة، حيث دافع المصلحون المستنيرون على ضرورة ترك أخلاق العبودية الطرقية، من أجل مواجهة مصيرهم التاريخي بالإقبال على الحياة وعلى العمل، وتحصين السعي في مَنَاكِب الأرض بأخلاق التاريخ التي تبلورها مواثيق العمق الجماعي التاريخية والنسبية.يعتبر طه عبد الرحمن أن الحركات الإسلامية التي تروم الإصلاح، تتميز بمغالاتها في الاختلاف المذهبي وتتناسى دور التجربة الإيمانية الحية في الترفع عن الصراعات المذهبية، تتميز بكونها حركات بدون إطار تنظيري ومنهجي مُحكم، إنها بلغة طه عبد الرحمن بدون “تبصر فلسفي مُؤَسِّس، وهي تشير بدقة إلى مرماه في موضوع التدعيم النظري لخياراته، حيث يحمل الإسناد الفلسفي في أعماله مفهوم البصيرة والتبصير، ويحيلنا في النهاية إلى أفق في العمل الديني مغاير للمواقف السائدة. أفق يتأسَّس في إطار التجربة الصوفية بطقوسها ولغتها، ومختلف القيم التي بنت في دروب الإيمان.نعتقد أن علاج إشكالات التاريخ لا يَكون إلا بالعقل المجرد، عقل التاريخ المسنود بتجارب البشر في التاريخ، أما لغة القرب وشق الصدر والإشارات اللطيفة، والرؤية التي تبصر دون أن تبصر، وتصيب دون أن تصيب فإنها لغة الشعر الجميل لغة الأذكار واللطائف، إنها لغة قد تساهم في إغناء الوجدان والمخيلة، وقد تثري اللغة، وتدبر أحوال الفرد المتوحد مع ذاته ومع العالم، لكنها لا يمكن أن تساهم في تدبير وصناعة التاريخ. ولعل طه عبد الرحمن يتفق معنا هنا، خاصة وأنه يرفض نزعات تسييس التخلق الروحي، لأنها تروم في نظره حيازة السلطة، سلطة الأبهة والمجد في الأرض، في حين أن المنزع التَّخَلُّقي العميق كما يراه يُصَوِّب نظره نحو القرب، يجاهد ليبلغ مقام السداد والمشاهدة بغض الطرف والتزكية، بعد تخطيه لمراتب العقول الشائعة، وامتلاكه في النهاية لطمأنينة القلب، فَتُفْتَح أمامه أبواب النور والنظر، أبواب البهاء والفناء..

 


الكاتب : كمال عبد اللطيف

  

بتاريخ : 13/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *