مساهمة في النقاش العمومي حول النموذج التنموي …
منير الشرقي
شروط الانتقال نحو مدن ديمقراطية ، عادلة و مستدامة… !!
شهد المغرب تحولات عميقة في بنياته الديمغرافية والسوسيو مجالية والاقتصادية والثقافية منذ الاستقلال ، وكان لابد لهذه الديناميات المتداخلة والمتفاعلة من إفراز مطالب وحاجيات وانتظارات جديدة للمواطنين وللأجيال الجديدة ، مع ما يستتبع ذلك من إشكالات مجتمعية ضاغطة تؤسس لسقف جديد من الحقوق والحريات التي تحتاج اليوم إلى إرادة سياسية منصتة ، وإلى سياسات عمومية ناجعة وموارد مالية كافية للاستجابة لها في الأمد القريب والمتوسط ، كما تتطلب هذه التحولات استشرافا و تخطيطا عقلانيا وإبداعا ذكيا لحلول ناجعة في المستقبل تحفظ كرامة الإنسان وترفع من جودة الحياة وتقوي منسوب الثقة في المؤسسات .
الضغط الديمغرافي القادم …
يوجد المغرب اليوم في طور انتقال ديمغرافي متقدم ، بعد أن عرف نظام ساكنته تحولا عميقا خلال نصف القرن الفارط ، و ينحو هذا الانتقال إلى تطور متسارع . ذلك أن التوقعات والإسقاطات توحي باستمرار هذا الاتجاه ، إذ من المرتقب أن يتجاوز عدد سكان المدن 26 مليون نسمة سنة 2030. .. و بالتالي فإن سرعة النمو الديمغرافي بالمدن المغربية « قد ترفع من الضغط على الموارد ، وتنتهي إلى تقليص مفعول المجهودات المبذولة في ميدان التنمية الاقتصادية والاجتماعية . وهو الأمر الذي لا يمكن إغفاله في أية عملية تقويم للمجهود التنموي المبذول بالبلاد في السنوات الأخيرة» . ويطرح هذا النمو الديمغرافي لسكان المدن تحديات كبرى منها الحد من مظاهر التمييز ذات الصبغة الاجتماعية والمجالية ، والإدماج الاقتصادي و الاجتماعي للمهاجرين الحاليين والمستقبليين القادمين من القرى ومن بلدان افريقيا جنوب الصحراء ، كما يطرح تحديات ذات الصلة بحكامة المدن والبرامج الرامية إلى تنميتها .. ذلك أن تنمية المدن اليوم تتجاوز المنظور التقليدي الذي يحصر مجهود التنمية في البعد الاقتصادي فقط ، بل يتجاوزه ليشمل ما هو اقتصادي وما هو سياسي واجتماعي وثقافي ، وبذلك أصبح الأمر يتعلق بالتنمية الإنسانية … بهذا المدلول لم تعد التنمية تقتصر فقط على مجرد تلبية الحاجيات الاقتصادية الأساسية للإنسان ، بل أصبحت تهتم بالقضايا السياسية والاجتماعية والثقافية ،والعلاقة بين المواطن والسلطة الحاكمة ، وما يرتبط بذلك من قضايا الحرية والشرعية والمشاركة والتمثيلية وسيادة القانون والمساءلة والمراقبة ، و بالتالي أصبح الأمر يتعلق بتوسيع خيارات المواطنين لتحقيق العيش الكريم والحرية و العدالة والكرامة الإنسانية .
وإذا كان التشريع المغربي لا يتحدث عن المدن ، بل يتحدث عن الجماعات الترابية ، فإن المدينة تبقى مهما اختلف حجمها أو وظائفها أو أنشطتها عبارة عن تنظيم سيوسيو مجالي ، متحرك وديناميكي ، قد لا يتطابق بالضرورة مع تعريف قانوني ساكن وموحد و شمولي ، كما قد لا يتناغم مع الوحدات المجالية التي ترسمها مختلف الأجهزة الإدارية كإطارات ترابية لتوطين تدخلاتها …وقد شهد المغرب في هذا السياق إحداث عددا من الجماعات الترابية من أجل ضبط و تأطير التوسع الديمغرافي والمجال الترابي المغربي ، إذ ارتفع عدد الجماعات الترابية من 801 جماعة سنة 1959 منها 66 جماعة حضرية و 735 جماعة قروية ، إلى 1503 جماعة منها 221 جماعة حضرية و 1282 جماعة قروية حسب معطيات رسمية للمديرية العامة للجماعات الترابية بوزارة الداخلية .
إشكالية حقوق الإنسان
في المدينة
إن إشكالية حقوق الإنسان في المدينة أو الحق في المدينة كما يتم تعريفه حسب المواثيق الدولية المؤطرة للحق في المدينة هي « الاستخدام العادل للمدن بما يتوافق مع مبادئ الاستدامة ، والديمقراطية ، والمساواة والعدالة الاجتماعية . و هو حق جماعي لجميع سكان المدن…»باعتبار المدن فضاءات جماعية ضامنة للحقوق ، وذلك عبر الولوج العادل والمنصف إلى الخدمات التي تحفظ كرامة الانسان ، و ترفع من جودة الحياة. وقد ابتدأ هذا المسلسل في صيغة تبني عدد من المواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان منها : الميثاق الأوربي لحماية حقوق الإنسان في المدينة ، بسان دوني – فرنسا 2000 ، والموقع عليه من طرف أزيد من 350 مدينة أوربية . وكذا الميثاق الدولي للحق في المدينة الذي حرر من قبل الحركات الاجتماعية المجتمعة في المنتدى الاجتماعي العالمي في يورتو ألكري بالبرازيل سنة 2001 ، وميثاق الحقوق و المسؤوليات في مونريال بكندا سنة 2006 ، و ميثاق مكسيكو من أجل الحق في المدينة سنة 2010 ، وميثاق حقوق الإنسان في كوانكجو بكوريا الجنوبية ، وتوصيات المنتدى العالمي بمراكش حول الحق في المدينة 2014، ومؤتمر الأمم المتحدة الخاص بالإسكان والتنمية الحضرية بسورابايا بأندونيسيا سنة 2016 . ويعرف الحق في المدينة بأنه حق جميع السكان الحاليين والمقبلين على الإقامة في مدن منصفة وشاملة للجميع ومستدامة ، وهي مدن خالية من التمييز القائم على أساس نوع الجنس أو العمر أو الصحة أو الدخل أول القومية أـو الأصل الاثني أو الوضع كمهاجر … مدن ذات مواطنة شاملة لجميع السكان ، سواء كانوا مقيمين بصفة عابرة أو بصفة دائمة ، مواطنون متمتعون بحقوق متكافئة .. ، مدن ذات مشاركة سياسية ملموسة في بلورة السياسات الحضرية والتخطيط الترابي ذي صلة بالحاضر و المستقبل. .مدن قادرة على الوفاء لوظائفها الاجتماعية من سكن وخدمات وفرص حضرية …مدن تتسع لكل التعبيرات الثقافية و الاجتماعية والسياسية ، مدن منفتحة تقبل التعدد وتعزز التماسك الاجتماعي ، و تحمي التنوع البيولوجي و تحافظ على نظامها الإيكولوجي ..
في الحاجة إلى تأصيل الحق في المدينة في التشريع المغربي
باستقرائنا للتشريع المغربي المؤطر لتدبير المدن ، لا نجد تأصيلا صريحا للحق في المدينة في مختلف النصوص التشريعية والقوانين المنظمة للمدن، كما لا نجد إحالة صريحة في الاستناد على المواثيق الدولية ذات الصلة بالحق في المدينة في مختلف السياسات العمومية أو الترابية الموجهة للمدن، وإن كان المشرع الدستوري قد أعلى من قيمتها وسموها على القوانين الوطنية. لكن بالمقابل نجد تطابقا بين التوجهات والمبادئ الأساسية للحق في المدينة والالتزامات المعبر عنها في الدستور المغربي من قبيل الالتزام الصريح ببناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، والعزم معلن بتوطيد وتقوية مؤسسات حديثة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، وإرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة . كما ورد في تصدير الدستور تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء، وحظر ومكافحة كل أشكال التمييز، بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الانتماء الاجتماعي أو الجهوي أو اللغوي أو الإعاقة أو أي وضع شخصي آخر مهما كان. وضمن التزامات المملكة ، فإن الدستور المغربي رفع من سمو الاتفاقيات الدولية على التشريعات الوطنية كما صادق عليها المغرب. وتشكل هذه الالتزامات ذات المضمون الحقوقي خيارا لا رجعة فيه بمقتضى أسمى قانون ببلادنا . لذلك من المطلوب أن تطبع، بالضرورة، هذه الالتزامات بمبادئ وقيم حقوق الإنسان النصوص القانونية المؤطرة للجماعات الترابية والتشريعات ذات الصلة بإدارة وتدبير المدن.
التزام المغرب بتحقيق أهداف التنمية المستدامة..
الالتزام الثاني الذي يشكل مقدمة لترسيخ وتأصيل الحق في المدينة هو تبني المغرب للاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة تنفيذا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1/70 الذي صادق عليه المغرب كذلك بتاريخ 25 شتنبر 2015 ، والمتعلق بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة 17 ، والتي من بين أهدافها « جعل المدن والمستوطنات البشرية شاملة للجميع وآمنة وقادرة على الصمود والاستدامة «(الهدف 11). وتبعا لذلك اعتمد المغرب استراتيجية وطنية للتنمية المستدامة 2015 – 2030» تقضي باعتماد أهداف التنمية المستدامة في السياسات العمومية و الترابية ببلادنا . وقد أكدت الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة على إدماج الجماعات الترابية في نهج التنمية المستدامة وتحسين التفاعل معها وتعزيز الإطار القانوني وآليات المراقبة بإصدار قوانين جديدة لدعم التنمية المستدامة.
لذلك وأمام التزام المغرب بالمقتضيات الأممية المتعلقة بأهداف التنمية المستدامة ، يبدو أن المشرع المغربي أضحى مطالبا ، بإنتاج نصوص قانونية تدعم الحق في المدينة طبقا للمعايير الدولية. وهي مناسبة لمراجعة النصوص المؤطرة للجماعات الترابية التي تبدو أقل من السقف الدستوري من حيث التوجهات والمرجعية الحقوقية ، بل إن القوانين التنظيمية ذات الصلة بالجماعات الترابية تبتعد إلى حد ما عن إعمال مقتضيات الحق في المدينة بكل حمولتها الحقوقية ، باستثناء المقتضى المنظم لبرنامج الأعمال التنموية المقرر إنجازها أو المساهمة فيها بتراب الجماعة تفعيلا للمادة 78 من القانون التنظيمي 14-113 المتعلق بالجماعات والمقاطعات «باب الاختصاصات الذاتية» والذي يشكل مدخلا لإعمال مبادئ الحق في المدينة، خاصة وأن المشرع قد أكد صراحة على إعداد برنامج عمل الجماعة بانسجام مع توجهات التنمية الجهوية ووفق منهج تشاركي، إذ تعتبر الديمقراطية التشاركية أحد المرتكزات الأساسية للحق في المدينة .
ومقارنة ما بين القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات والمقاطعات، والقانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات، فإن هذا الأخير قد حدد مرجعا واضحا ضمن المبادئ العامة لاختصاصات الجهة، حيث تناط بالجهة مهام النهوض بالتنمية المندمجة والمستدامة، انسجاما ، طبعا ، مع مقتضيات الدستور، وتنفيذا لالتزامات المغرب ذات الصلة بالتنمية المستدامة، وهو ما يمكن أن يشكل مدخلا لتفعيل الحق في المدينة عند إعداد برامج عمل الجماعات الترابية .
رهانات مدن اليوم
إن الجماعات الترابية ومجالس المدن مطالبة بتفعيل أهداف التنمية المستدامة ولاسيما الهدف 11 من أجل جعل المدن والمستوطنات البشرية شاملة للجميع وآمنة وقادرة على الصمود والاستدامة ، وهو المدخل الحقوقي لتفعيل الحق في المدينة الذي ينبغي اعتماده في إنتاج نصوص قانونية جديدة مؤطرة لتدبير المدن تساهم في تأصيل وتجسيد هذا الحق في بيئتنا التشريعية والمجتمعية ، وهو الأمر الذي ينبغي استحضاره و المغرب يدشن اليوم مرحلة جديدة من النقاش العمومي حول النموذج التنموي . إن المدن اليوم و عبر العالم ، بقدر ما تواجه تحديات كبرى، فإلى جانب التحديات الاقتصادية و الاجتماعية ، فإنها تواجه تحديات بيئية جدية، وإذا كانت المدن بمثابة أقطاب واعدة في مجال خلق فرص الشغل وتوفير شروط الرفاهية ،و تطوير التكنولوجيات وتحقيق التنمية الاقتصادية و الاجتماعية ، فإنها تبقى الجبهة الأكثر نجاعة في معركة مكافحة التغيرات المناخية ومواجهة الرهانات ذات الصلة بالتنمية المستدامة . والمغرب الذي انخرط في هذه الدينامية الدولية لمكافحة التغيرات المناخية ، والذي بدأ في التفكير في إعادة صياغة نموذجه التنموي ، مدعو إلى أن يضع عملية الانتقال نحو مدن ديمقراطية وعادلة و مستدامة ، في صلب نموذجه الجديد من أجل تحقيق الإقلاع الاقتصادي والاجتماعي لمجالاته الترابية و الرفع من جودة الحياة الحضرية ببلادنا ولن يتحقق ذلك إلا بمدن دامجة ، شاملة للجميع ومستدامة . كما أن تجسيد الحق في المدينة اليوم يحتاج كذلك إلى فاعلين ترابيين ونخب سياسية مسلحة بالمرجعيات وبالقناعات الحقوقية ومؤمنة بالقيم الكونية لحقوق الإنسان ، و هو المدخل الداعم لتحويل مدن اليوم إلى مدن ديمقراطية، عادلة، شاملة للجميع وآمنة وقادرة على الصمود والاستدامة .
الكاتب : منير الشرقي - بتاريخ : 19/05/2020