سؤال الثقافة والمعمار بالدار البيضاء

التجريف والترييف وصناعة الإنسان؟

 

من أجل الإضاءة على تاريخ مدينة الدار البيضاء، خاصة في الفترة الكولونيالية، وفي محاولة لاسترجاع طابعها المعماري والهندسي الذي تميزت به والذي يتجه اليوم الى الاندثار وسط إعصار الإسمنت ومنطق السوق، اختارت جمعية «كازا ميموار» التوقف عند هذا الماضي لدق ناقوس الخطر حول ما يلحق هذه المدينة من ترييف وتزييف لطابعها التاريخي والاجتماعي والمعماري. هكذا استضافت الجمعية في لقاء عبر صفحتها على الفايسبوك ن الناقد والباحث في التراث يحيى بن الوليد والفنان التشكيلي والصحفي شفيق الزكاري في جلسة حوارية لامسا فيها تاريخ المعمار بالمدينة، والحاجة الملحة للسؤال الجمالي اليوم في مجال الهندسة المعمارية وسط إكراهات السوق والطلب الاجتماعي المتزايد على السكن.

 

ممَّ تكتسب مدينة الدار البيضاء خصوصيتها وسحرها وسط باقي المدن المغربية وخاصة العتيقة؟ وما الذي يجعل مدينة تصهر العديد من الأعراق واللهجات والعادات، محط جذب كل حالم بالاستقرار؟ هل هي مظاهر الحداثة وجاذبية فرص الشغل، أم أن للأمر علاقة بجوانب أخرى قد لا ينتبه إليها المواطن العادي الذي يضغط عليه صخبها، وتثقله وتائر الحياة السريعة بين ظهرانيها.
لعل هذه الجوانب هي ما دفع المعماري والباحث في الثقافة رشيد الأندلسي إلى إصدار كتاب حولها بالاشتراك مع الناقد والباحث المهتم بالتراث والنقد الثقافي، الأكاديمي يحيى بن الوليد، وهو الكتاب الذي اختارا له من العناوين» الدار البيضاء: الهوية والمعمار1912-1960»، وفيه يقدمان قراءة للتاريخ الحديث للمدينة الذي عرفت موجة نزوح من مختلف المناطق والفئات: البروليتاريا، المثقفون، الرأسماليون ، الفلاحون، النقابيون ما جعلها مختبرا للحداثة والمعمار بالمغرب من خلال توافد أشهر المهندسين المعماريين عليها في الفترة الكولونيالية.

بين هاجس الإسكان
وصناعة المعنى

في تقديمه للكتاب، أوضح التشكيلي شفيق الزكاري أن الكتاب السالف الذكر، ونظرا لطابعه الحواري بين مهندس وباحث في التراث، يطرح أسئلة مهمة حول مدينة الدار البيضاء منذ سنة فرض الحماية إلى بداية الاستقلال، وهو ما يجعله كتابا مرجعيا في ذاكرة البيضاء والمغرب لكونه تطرق الى العديد من النقط خاصة الهجرات التي تمت نحو المدينة الكولونيالية بامتياز، فترتها، فالأسئلة التي وردت فيه تثير عددا من الخبايا والقضايا المتعلقة بالمعمار والفضاءات الخارجية في علاقتها بالإنسان وبكل ما هو تراثي، وهو ما عبر عنه الكتاب بكون «ما يصنع المدينة ليس هو الإسكان، بل المعنى المتسرب في الأشكال الهندسة المعمارية»، لأن المعمار بشكل أو بآخر يقدم صورة عن ثقافة المجتمع وعن أنساق التفكير والفعل السائدة داخله، كما يجيب عن أسئلة الجمالية لكونه يترجم علما وتقنيات وفي نفس الوقت هو بنيان ثقافي.
من جهته اعتبر الباحث يحيى بن الوليد أن العودة في هذه الظرفية الدقيقة اليوم من تاريخ المغرب، إلى طرح هذا الموضوع، تعني أن الجائحة أعادتنا بشكل قوي الى التاريخ غير البعيد أي تاريخ القرنين 19و20، وهو ما يجعلنا أمام لحظة فارقة ولحظة تأسيسية للتفكير في علاقتنا بهذا التاريخ وأحداثه، وعناصره.
أما بخصوص الكتاب المشترك بينه وبين المعماري رشيد الأندلسي»الدار البيضاء: الهوية والمعمار»، فيرى بن الوليد أنه يتعدى المجال البحثي المحض لأنه صدر بعد تفكير ودراسة عميقين استندت إلى قراءات لأكثر من 100 عنوان ما بين أبحاث وحوارات ودراسات ومونوغرافيات لأن الأمر لا يتعلق بحوار تقليدي، بل بأسئلة مركبة تحمل أفكارا ورؤى تتقاطع أحيانا كما تتوافق في أخرى، خصوصا مع باحث ومعماري من طينة الأندلسي ذي الثقافة الفرنسية الذي اعتاد لعقود مخاطبة النخبة فقط، إذ نجده في هذا الكتاب ولأول مرة يخرج من هذا المربع الفرنكفوني ويخاطب المواطن المغربي باللغة الأكثر تداولا أي العربية وهذا كان رهانا آخر راهن عليه الكتاب، خصوصا في ظل ندرة هذا النوع من الكتابات عن تاريخ المدن باللغة العربية.
وأشار بخصوص هذه الكتابات التاريخية إلى أن ما كان سائدا منها ظل مرتبطا بالقرن 19 ، وبلغة لا تراعي التحولات التي طرأت في حقل الدراسات الثقافية والنقدية عموما، وهي التحولات التي بدأت مع إدوارد سعيد في «الاستشراق»، والتي فتحت جبهة جديدة لا تتعامل مع الاستعمار بمنطق الحروب والديبلوماسية وموازين القوى، ولكن بكونه حاملا لثقافة ومنها الهندسة التي تحمل بدورها ثقافة وتصورا للحياة ولفن العيش.
في هذا الكتاب الذي نقرأ في تصديره «إن الدار البيضاء ليست البوابة التي دخلت منها الحداثة إلى المغرب، بل إن الدار البيضاء هي التي كانت صانعة لحداثة المملكة»، يطرح سؤال الخصوصية بالمقارنة مع مدن أخرى كتطوان وطنجة والذي جعل الاختيار يقع على الدار البيضاء كموضوع للكتاب.سؤال يجد إجابته في التراكم المعماري الكولونيالي الموروث الذي أفرزته الهجرات نحو هذه المدينة ،خصوصا في 1947 بعد تضاعف عدد سكان المدينة إما هربا من الفقر أو من سلطة القياد أو من مخلفات الجفاف والمجاعات. كل هذا جعل الدار البيضاء تفرض هذه الجاذبية التي جعلتها تسمى وقتذاك «فرساي المغرب» رغم وجود مدن تاريخية بالشمال وبطرازات هندسية مختلفة، إضافة إلى الحظوة التي تأتت لها بفعل اختيارات ونفوذ المقيم العام ليوطي الذي اختارها بما تتوفر عليه من امتيازات كمجال لخلق مجتمع رأسمالي، ولهذا جلب مهندسين ومعماريين مرموقين أمثال هنري بروست وماريوس بوير وأدريان لافورك والذين وجدوا في المدينة الغول مختبرا لابتكاراتهم الهندسية التي كانت تستعاد في مدن أوربية حسب الخصوصيات، كما انتبه ليوطي إلى دور الصناعة التقليدية. ورغم أن إسبانيا كانت ظاهرة استعمارية كذلك، إلا أنها لم تشتغل كثيرا على هذا الجانب لاعتبارات جيواستراتيجية نابعة من مصالحها.
وأضاف مؤلف «الخطاب النقدي المعاصر» أن استراتيجية الاستعمار بنيت على ثالوث:المعمار: الطرق والجسور والمستشفيات، ثم الطب من خلال إدخال تقنيات الطب الحديث، بالإضافة الى الدعارة المفتوحة لفائدة عمال الموانئ والجيش.

علاقة المهندس والمثقف؟

هل يمكن إقامة علاقة تكاملية بين المثقف والمهندس؟ وكيف يمكن أن تنصهر الرؤية والفكرة بالتطبيقي والعلمي؟
الأكيد أن تجارب سابقة أثبتت أن بإمكان المعمارأن يغتني من الشعر والكتابة والمثقف عموما. فقد سبق للشاعر المهدي أخريف أن ألف كتاب «الشعر والمعمار» بالاشتراك مع المهندس عبد الواحد منتصر، وهو نفس الرأي الذي يعضده يحيى بن الوليد مؤكدا أن صداقته برشيد الأندلسي ساهمت في تسهيل هذا العمل، كما أن إقامته لسنوات بالبيضاء مكنته من الالتقاء بالنخبة الثقافية وخصوصا اشتغاله بالنقد الثقافي الذي جعله يكتب في الأدب والأغنية والمعمار والتشكيل كونها نصوصا ذات أنساق، الشيء الذي حمسه لهذه التجربة بهدف إبراز الرؤى الكامنة في المعمار بهذه المدينة.
هذه العلاقة لا يمكن الجزم بالتقائيتها دائما، بدليل أن العديد من المعماريين اليوم لا يدمجون رؤى واقتراحات المثقفين والتشكيليين في تشكيل المعمار بالمدينة اليوم، إما بسبب الخصاص أو لعدم اقتناع هؤلاء بأهمية الفكرة. وهنا يبرز دور المثقف في لفت الانتباه الى هذه الجزئيات دون أن يحصره اهتمامه على القضايا الكبرى للبلاد فقط.

غياب الجمالية: إكراه
أم اختيار؟

سؤال الجمالية في المعمار خصوصا في مدينة الدار البيضاء اليوم، حسب الباحث يحيى بن الوليد، سؤال شديد التعقيد، لتداخل عدة عناصر في الأمر. فالمهندس الناجح هو من يدمج التشكيل ويكون مطلعا على العلوم الاجتماعية ليخرج بنموذج هندسي وتصاميم تستجيب للشرط الاجتماعي وفي نفس الوقت للشرط الجمالي، وهذا من الصعوبة بمكان خصوصا في ظل إكراهات السوق التي تفرض على المهندس الالتزام بهاجس الأسكان أولا، ما يؤثر على اختياراته الجمالية، لذا نلاحظ يوما عن يوم استنبات بنايات هجينة خصوصا ما يسمى بالسكن الاقتصادي أو المقابر العمودية التي تخلو من أية جمالية. فالمهندس اليوم مطالب بتبسيط العمارة وإعطائها في النفس الوقت جمالية وهو ما ينتفي ويتعذر، أضف إلى ذلك طبيعة المهندسين المشتغلين بالمجالس البلدية والجماعات.
هذه الوضعية أي إهمال مواصفات المعمار الجمالية، هي مصدر العديد من المشاكل الاجتماعية وخصوصا بهوامش المدن، لذا يطرح سؤال: أي إنسان يمكن أن نصنعه في ظروف سكن لا تستجيب لشروط العيش الكريم وتحتكم الى منطق الإسمنت والتجريف والربح السريع.


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 20/05/2020