التيمات الموضوعاتية في رواية « نوميديا» لطارق بكاري

“نوميديا” أسلوب شاعري رائع يأخذك من أول وهلة ويدفعك لقراءة الرواية، هي بوح وشلال من الكلمات الهادئة والجميلة، يضعك أمام الحكي: قصة مراد الوعل وعشيقاته، ويأخذك إلى عالم ساحر لتندهش من قوة السرد ودفء العبارة وهي تصف جمال قرية اغرم، واحتفالا بالجسد في نزواته ولذائذه، وعذاباته، هي استراحة للقارئ ليستمتع بمخزونها الشعري الجميل، ويستمتع ببوح ذات متعبة وهي تستسلم لدواء الطبيب بنهاشم، وبحث الفرنسية جوليا، التي جعلت جسده امتدادا لنزواتها ولتشبع رغباتها منه، ولتستفيد من موته.
وحياة مراد التعيسة والعائدة من حرب الخسائر، والمحتفية بهزائمها المتكررة، لتتحمل العذابات وتحمل مأساة الإنسانية، تشبه حياة الإنسان المعاصر التي تجرعت الهزيمة واستسلمت في صمت ولامبالاة، راضية مستكينة للقضاء والقدر. إنسان مثقل بالهزائم الكبيرة والمتتالية.
يتأرجح إيقاع السرد المتذبذب بين تيمات عديدة متناقضة توضح نفسية السارد المتعبة والهزيلة، بين ألم ويأس، حياة وموت، وبين عشق وجنون، وضياع وخيانة، ووجع وفقدان وحزن وكراهية.  ليتحرك القلم السارد وهو يدور بين هذه التيمات كمحاولة منه للبوح الشاعري، عله يشفى من عذابه، أو يبرأ من مرض حبه للفتاة الأمازيغية الخرساء نوميديا، فتصبح أفعاله بعد ذلك محاولة انتقام من كل شيء، أو مقاومة ضد كل شيء من أجل النسيان. ليصبح الحب وهما وخيانة مع جوليا وذكرى قديمة مع خولة، ومحاولة نسيان مع نوميديا.
كل هذه التيمات الموضوعاتية، تسيطر على هاجس السرد وتوجهه حتى نهاية الرواية، وهي احتفاء صارخ بكل هذه المعاني: الحب والكراهية والألم واللذة، والضياع والخيانة، هي هواجس تصيب عادة الإنسان المعاصر، مرتبطة بهمومه ونفسيته، نعالج هذه التيمات في ما يلي:
تيمة العشق والحب:
تحضر تيمة العشق بشكل كبير في فصول الرواية، إذ نجدها مثلا مع جوليا الفرنسية مغامرة لإشباع رغبة ونزوات الجسد الجنسية، فيتحول هذا العشق إلى عذاب لا نهاية له، لا تسكنه إلا أقراص الطبيب بنهاشم، فتتكون الخطاطة كالتالي:
عشق____  نزوة اللذة،  _____ عذاب وألم، ____ استنزاف الجسد _____ تسكين الوجع ____ استعمال  أقراص مهدئة.
تكمن وظيفة الجنس هنا في مقاومة المرض الذي نخر جسم مراد الهزيل، بل متنفسا له للهروب من حبه الفاشل مع الفتاة الأمازيغية نوميديا يقول:
“الجنس هو البديل الحقيقي لكل محاولات الحب المجهضة… “. الجنس قوة بناء منحطة على حد قوله.
كما تحضر أيضا تيمة الحب في حكاية خولة ونوميديا؛يقول: ” حينما ضلعت نوميديا إلى صدري، تيقنت أنني يمكن أن أنسحق بسهولة أمام جمالها.. فقد أدركت أن حبها  لا محالة قاتلي!..”.
هكذا إذن يتحول الحب الأول الذي عاشه مراد إلى قاتل محترف أمعن في تعذيب مراد وقتله مرات عديدة، سواء بواسطة حقن جوليا، أو حينما ينغمس في تسكين أوجاع وهو يرتمي في أحضان عشيقاته.

تيمة الموت والقتل :
تتكرر في الرواية بشكل كبير، لأن السارد البطل جعل منها نهايته الحتمية المنتظرة، كيف لا وهو قاتل أرنب في صغره وقاتل خولة الغارقة في حبه، هذا القتل المتعدد في الرواية جعل منه فعلا بديهيا يمارسه مراد في أحلامه.

تيمة الجسد:
يرتبط الجسد في “نوميديا” بحالة مراد النفسية فهو جسد حزين وجريح يمارس نزواته مع عشيقاته بشكل نهم، وشره، فيتواتر إيقاع السرد ليشكل موسيقى تحتفي بمتطلبات الجسد، كأنه في رحلة للاستمتاع بمفاتن الجسد، ليجعلها حرية مطلقة، تستبيح جسد الغير وتضمه إليها بلا انقطاع يقول:
” وفي إحدى الليالي الماطرة، سهرنا معا في غرفتنا بالفندق نترجم بعض المقاطع الأدبية، غرقنا معا في أحاديث لا شواطئ لها، وكنت أراقبها وهي تغرق قلبها في كأس النبيذ.. ورغم أن قلبي كان مكتظا بعشق خولة، إلا أنني انزلقت أمام إغراءات جوليا المتكررة إلى سريرها.
كانت تلك الليلة خطأ فادحا، لم اكن أملك حياله سوى التمادي فيه إلى منتهاه..”.
إغراءات الجسد تدفع بمراد للمضي قدما، والانزلاق في نزوة لا نهاية لها، كأنه انتقام من الجسد، أو هما جسدان  يحتفلان بذواتهما بطريقتهما الخاصة.

تيمة الكراهية:
تيمة الألم: التعب والوجع الذي يعود  له كلما أتى لقرية إغرم، لتتحرك ذكرياته الحزينة من جديد، بحيث تصبح قرية اغرم ذاكرته وجرحه الأول لا يحيد عنها، ينزلق إليها شيئا فشيئا، وهو مفتون بجمالها وسحرها .
الألم والوجع لا يأتي هنا من مسبب حقيقي، بل هي سعادة موجعة نتيجة يأس ورتابة على لسان خولة.

تيمة الذاكرة:
تحضر الذاكرة في كتابات السارد بشكل كبير في جميع فصول الرواية، لتعبر عن المكان، اغرم، لأنه منبت مراد وطفولته، ليصبح المكان ذكريات متجسدة في كيانه تظهر لتطفو على سطح بنية السرد، إضافة للمكان الذي يؤثث فضاء السرد، تحضر المذكرات، خصوصا، مذكرات خولة التي حاول من خلالها مراد قراءة نفسه، واشتياقه لها، ليحتفي بالخطيئة التي ارتكبها في حقها، حين تركها وحيدة.
يقول: ” لماذا يا خولة كلما قرأتك انتفض الشوق في عيني دموعا؟ يا من تركت على الحواف الصعبة للموت، حينما أقلب صفحات ذاكرتك أو مذكراتك لا أجد سواي، سوى آثار قدمي المضمختين بالدم والخطيئة.. ص: 164.
لتكون ذكرياته مع عشيقاته، بالية وقديمة يقول:
يقول: ” تمنيت لو أن للذاكرة شفرات تحلقها وتزيح عنها أكوام الذكريات البالية والمتسخة التي تجثم فوقها… ص: 152.

تيمة الخيانة:
الخيانة هنا نتيجة حتمية لمغامرات مراد الوعل ولعبة جوليا العشيقة مع عشيقها، الخيانة واقع مر يستفيق عليه مراد بعد ليلة جنسية ملتهبة.
تيمة الجنون: الجنون في الرواية هو طيف نوميديا الذي يزور مراد ويقض مضجعه كل ليلة هو ذكراها الذي يصبح صور حقيقية تتراءى للبطل كل يوم وليلة.

هوامش:
أنظر المصدر:مبادئ في النقد الأدبي والعلم والشعر، أ.أ. ريتشاردز، ترجمة الدكتور محمد مصطفى بدوي، مراجعة لويس عوض وسهير القلماوي، منشورات المجلس القومي للترجمة، 2005،إشراف جابر عصفور. وأنظر أيضا مرجع الموضوعاتية: المنهج الموضوعي، نظرية وتطبيق، عبد الكريم حسن، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 1990، ص:39.
نوميديا، رواية، طارق بكاري الطبعة الثانية،2016 دار الآداب، بيروت، لبنان، ص:ص:187.
نفسه ص219
نفسه ص14
مراجع المنهج الموضوعاتي:
مبادئ في النقد الأدبي والعلم والشعر، أ.أ. ريتشاردز، ترجمة الدكتور محمد مصطفى بدوي، مراجعة لويس عوض وسهير القلماوي، منشورات المجلس القومي للترجمة، 2005،إشراف جابر عصفورالمنهج الموضوعي، نظرية وتطبيق، عبد الكريم حسن، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 1990، ص:39.


الكاتب : الحسين أيت بها

  

بتاريخ : 10/06/2020