يظهر استخدام مفهوم العائق الإستمولوج ي في حقل العلوم التجريبية والرياضية مألوفذا، فقد بيّن باشلار في دراسته لتطور المعرفة العلمية، وخاصة الثورة العلمية المعاصرة في مجال الميكروفيزياء والرياضيات اللاإقليدية، أن ذلك ما كان يمكن ليحصل دون تجاوز العوائق الإبستمولوجية، هذه العوائق التي عملت المعرفة اللاعلمية على غرسها في بنية الوعي، بما في ذلك الحس المشترك، الملاحظة المباشرة، البداهة، اليقين، التطبيق العملي (…) في حين أن المعرفة العلمية المعاصرة تقوم على مبادئ وأسس جديدة مناقضة تماما لما سبقها.لقد أصبحت المعرفة تقوم على منهج البناء العقلي للحوادث بالإنطلاق من الفرضي إلى التجريبي.
هذا كله يخدم توجهات أبو زيد لأنه وحسب تعبير نيتشه: “ما لا يقتلني يزيدني قوة”، ولأن كثيرا من الناس لا يعرفون للإبداع طريقا إلا وهم محاطون بالخطر، عندها تنجلي كامل قدراتهم. وهذا ما جعل نيتشه يتكلم عن نقل البطولة إلى ميدان المعرفة يقول: «أحي كل العلامات التي تعلن مقدم عصر أكثر رجولية وشراسة، عصر سيعرف قبل كل شيء كيف يرد الاعتبار للشجاعة لأنه سيمهد الطريق لعصر ارفع منزلة، وسيركز القوة التي سيحتاجها هذا العصر الآتي- عصر سينقل البطولة إلى داخل ميدان المعرفة وسيخوض حروبا حبا في الفكر وفي آثاره… إن سر تحصيل الخصوبة الكبرى ومتعة الوجود الكبرى، صدقوني؟ يتطلب أن نحيا حياة خطرة…» 36. وهو في صالحه كذلك لأن التكفير يؤدي أحيانا مفعولا عكسيا. فبدلا من أن يصرف الناس عن بعض المؤلفات يجعلهم يقبلون عليها.ويعطي علي حرب مثلا عن فتوى الخميني في حق سلمان رشدي قائلا: «… وفي رأي أن فتوى الخميني أعطت مردودا عكسيا، إذا هي صنعت لرشدي شهرته وأسهمت في ترويج الرواية بحيث صار الكل متشوقا إلى الإطلاع عليها..»37. وهو في صالحه أيضا لأن ذلك لم يغير من مواقفه، فربما جعله ذلك أكثر حذرا وأكثر حيطة، وأكثر تخوفا أحيانا أخرى. لكن أكثر ثقة بأفكاره وقضاياه. حيث يقول: «بعد أربعة سنوات كاملة من الحياة في الغرب الأوروبي، وفي مناخ عامي وأكاديمي مغاير كما وكيفا، وبرغم الظروف الكريهة التي ألجأتني قسرا للرحيل إلى منفاي، ما تزال كثيرا من قناعاتي الأساسية في السياسة والاجتماع، والثقافة والفكر، تكتسب ثباتا.» 38. ويقصد بالظروف الكريهة ظروف محاكمته. وخاصة قرار الفصل بينه وبين زوجته.لأن من النتائج المترتبة على الحكم بالردة، أن المرأة المسلمة لا يحق لها الزواج مع مرتد. وبالتالي لم يكن له من خيار آخر غير الهجرة إلى بلاد الغرب، إذا ما أراد أن يحافظ على علاقته مع زوجته.
أخيرا يمكن النظر إلى هذا الصراع القائم بين التنويريين والسلفيين، الصراع الذي يستخدم فيه كلا الطرفين آليات الإقصاء والنفي، يمكن النظر إليه على أنه طبيعي وضروري في نفس الوقت. لأن كليهما يحمل هم النهوض بالأمة العربية الإسلامية، وفق ما يراه مناسبا من الوسائل والمشاريع. وبما أن القرآن والوحي هو غالبا محور صراعهم من خلال تساؤلهم عن كيفية تدوينه، وكيفية تأويله وتفسيره، وعلاقته بالواقع والتاريخ، وطريقة نزوله، ومدى قدمه أو حدوثه، ونسبة المجاز والحقيقة فيه، وقيمة الأحكام الواردة فيه من حيث نسبيتها وإطلاقيتها، وعلاقته بالعقل والإيمان، وناسخ ومنسوخ، وترتيب النزول والتلاوة…كل هذا يدل على أهميته من حيث كونه نصا مؤسسا، ونصا مشرعا. وحسب سبينوزا فإن الناس لا تتصارع إلا على ما كان محبوبا عندهم. يقول : « …بالفعل، أبدا ما كانت الخصومات تولد بسبب موضوع ليس محبوبا، لأننا لن نحس بأي حزن إذا تلاشى، وأي حسد إذا امتلك من طرف الغير، وأي خشية، أي كره،وفي كلمة واحدة أي انفعال شديد للروح ».
هذا الانفعال الشديد للروح يظهر في حماس الاتجاه السلفي لتحقيق نموذج الخلافة والتطابق مع التجربة المحمدية. والمحافظة على الامتياز الذي يحتله النص الديني داخل الثقافة. وفي نفس الوقت هناك خشية كبيرة من تحقيق العلمنة. أما الانفعال الشديد للروح لدى الاتجاه التنويري فيظهر في الرغبة الملحة في تحقيق الحداثة والتحديث. والخوف من هيمنة رجال الدين وسيطرتهم على العقول الذي كان سببا في انتكاس مشروع النهضة والتنوير حسب نصر حامد أبوزيد. ويمكن في الأخير الاختتام بهذا النص المميز لسبينوزا، الذي يحدد طبيعة العلاقة التي يجب على المفكر إقامتها مع كل العوائق المحيطة به. يقول: «رغم أن قوى فكر وحيد هي بالتأكيد محدودة، وفعله محدود،فإن الإنسان الحر يجب عليه العيش بين الجهلة، الذين بسبب جهلهم نفسه معرضين لأخطر الأهواء: إنهم طموحون، غيورون، متكبرون. أفلا يمكن أن يعاني الإنسان الحر من كرههم ومن اضطهادهم؟ أليسوا عائقا للمحافظة عليها (الحرية)؟ أليس من الأحسن أن يتخلى عن خدماتهم وينسحب في العزلة؟ لا الإنسان الحكيم يعلم أن مجتمع الإنسان، حتى وإن كان جاهلا، هو من أول المنافع من أجل تطور ذاته وعقله، بين ضررين فإنه يعلم كيف يختار أقلهما» 40. هذا الإنسان الجاهل أو العامي الذي ركز عليه أبو زيد. حيث رأى أن عدم اهتمام المنظومات المعرفية المختلفة به هو الذي أدى إلى تفاقم أحكام الردة والتكفير. فالمتكلمون كالمعتزلة وجهوا اهتمامهم إلى الإنسان العاقل. أما المتصوفة والفلاسفة فركزوا على الإنسان العارف. وأخيرا فإن الفقهاء راعوا فقط الإنسان المطيع.أما الإنسان الاجتماعي غير العارف أو غير المطيع فقد تم إقصاؤه.حيث يقول: «.. فهو الإنسان” المفكر”عند المعتزلة، “العارف” عند الفلاسفة والمتصوفة، وهو “المكلف” المطيع عند الفقهاء.وفي معظم هذه التحديدات غاب الإنسان “الكائن الاجتماعي” – غير العارف أو غير المطيع-عن هذا الفكر»41. ومحمد أركون نفسه تنبه إلى الإقصاء الذي تعاني منه الجماهير الشعبية، من طرف المفكرين. بحيث تظل منغلقة داخل الثقافة الشعبية وحدها، رغم أنها هي تمثل الأغلبية المستهلكة للعقائد الإيمانية، واللاعقائد الخاضعة للبحث العلمي. وسبب هذا الإقصاء يرجع إلى عقلية القرون الوسطى، حيث كانت النخبة تدعو إلى إبقاء العوام بمنأى عن المناقشات العلمية. في حين أن الروابط التي يمكن أن يقيمها المفكر معها هي نافعة له أكثر مما لو عزل نفسه عنها. وحسب أركون كذلك يبقى كل من العنف، التقديس، الحقيقة، القوى الرئيسية التي لم يسيطر عليها الإنسان بعد والتي لا تزال حتى الآن تتحكم بكل أشكال وأنماط الوجود البشري.