برهان غليون، مفكر سوري ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر وأستاذ علم الاجتماع السياسيّ في جامعة السوربون بباريس. اختير رئيسًا لأوّل مجلس وطنيّ سوريّ جمع أطياف المعارضة السوريّة بعد انطلاق الثورة السوريّة في مارس 2011.
له مؤلّفات عديدة بالعربيّة والفرنسيّة. حاصل على شهادة دكتوراه الدولة في العلوم الإنسانيّة وأخرى في علم الاجتماع السياسيّ من جامعة السوربون في باريس.
على الرغم من التطورات الكبيرة التي شهدتها ساحة الحرب المشرقية المتعدّدة الأطراف في الأشهر القليلة الماضية، لم تتقدّم القضية السورية كثيرا. يمكن الإشارة، في هذا السياق، إلى التطور اللافت للموقف الأميركي تجاه طهران، منذ مجيء الرئيس ترامب إلى السلطة، وبشكل خاص منذ تولي الفريق اليميني مقاليد السياسة الخارجية، ونقل محور الجهد والمواجهة من القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) إلى تحجيم الدور الإيراني الجيوسياسي، بدءا من وضع حد لأحلامها النووية وصناعة الصواريخ الباليستية. وإيران هي القوة الرئيسية التي تتناقض مصالحها بالمطلق مع أي حلّ يمهد لتطبيع الحياة السياسية والاجتماعية في سورية، ويفتح طريق المصالحة الوطنية.
ولا تقل عن ذلك أهمية نتائج مواجهات الشهرين الماضيين في ريف حماة وحلب وإدلب، والهزائم المتكرّرة التي تعرضت لها قوات الأسد على أيدي فصائل أكثرها من الجيش الحر، على الرغم من الدعم الروسي الكثيف لها بالطيران الحربي، حتى اعتبر بعض المحللين أن تثبيت حدود وقف النار في المواقع الراهنة، وحرمان المحور الروسي الإيراني الأسدي من أي إمكانية للتقدم، يشكلان هزيمة عسكرية وجيوسياسية لروسيا التي حلمت بأن تكون دولة الانتداب الوحيدة على سورية.
ومن هذه التطورات، وفي السياق نفسه، يدخل تشديد العقوبات على طهران وحرمانها من الحد الأدنى من مواردها النفطية، كما يدخل تراجع دول عربية وأوروبية عن عزمها الذي لم تخفه، حتى أشهر معدودة من هذا العام، على إعادة العلاقات مع منظومة الأسد، والسعي إلى تأهيلها السياسي من جديد، على أمل إعادة تجنيدها ضد الحركات الإسلامية السياسية التي أصبحت البعبع الذي يسكن مخيلات النظم التسلطية العربية، ويقضّ مضاجعها.
ولا يقل أهميةً في هذه التطورات تنامي الصراعات بين أطراف الحلف الروسي الإيراني الأسدي ذاته، والمعارك التي تدور بين الدولتين على احتلال مواقع السلطة والقرار، الأمنية والعسكرية، والتنافس على وضع اليد على الموارد الاقتصادية، ولا التخبّط الذي يشهده نظام القتلة، نتيجة الضربات المؤلمة التي يتعرّض لها، وبداية انفكاك حاضنته الاجتماعية عنه، على مختلف انتماءاتها الطائفية والمناطقية، نتيجة فقدانها الأمل بمخرجٍ قريب، ينقذ رهاناتها ويجنبها الإفلاس القريب.
وفي المقابل، ومن الطبيعي أيضا في مثل هذا الوضع، والتعثر المستدام في إيجاد حل سياسي ينهي الحرب، ويخرج البلاد من النفق المظلم الذي وضعت فيه، أن تبدأ بعض القوى السياسية التي عملت في دائرة السلطة أو المعارضة باسترجاع أنفاسها، والتفكير في العودة إلى القتال، ولكن هذه المرة من خلال وحدات مقاومة صغيرة هنا وهناك، وأن تستعيد روح الثورة التي اعتقد كثيرون من أبنائها أنفسهم أنها خمدت، وخفت اتقادها من جديد، كما تشير إلى ذلك التظاهرات والمظاهرات التي تخرج من وقت إلى آخر، حتى في مناطق السيطرة الروسية الإيرانية ضد الأسد وبقائه، كما حصل في أكثر من مدينة ومنطقة سورية.
أقول على الرغم من كل هذه التطورات والمؤشرات الإيجابية المؤهلة للاستمرار والتطور بشكل أكبر، لتغلق أي أفق للتفكير في إمكانية تأهيل النظام، أو تثبيت الأسد في الحكم، فإنني لست متفائلا في حصول أي تقدم في حل القضية السورية التي هي، قبل أي شيء آخر، قضية شعب قدم ملايين الضحايا من الشهداء والمعتقلين والجرحى والمهجّرين، من أجل تأكيد حقه في سيادته على وطنه، ورفضه أن يتنازل عن حقوقه وحرياته وكرامته، وأن يقبل بتحويل هذا الوطن إلى مزرعة عبوديةٍ لأسرةٍ تعمل لصالح الدول الأجنبية، وتستقوي بها على شعبها، أو إلى مناطق نفوذ لهذه الدول ذاتها.
مصدر القلق والخوف وضعف التفاؤل هو استمرار النخبة السياسية السورية المعارضة التي التحقت بالثورة، أو انشقت عن الأسد، أو التي هي في طريقها إلى أخذ مسافتها عن نظامه، في تبعثرها وانقسامها، وعجزها عن الخروج بنفسها من حالة التخبط والإحباط التي لا يبدو أن لديها القوة والحنكة اللازمتين لتجاوز عقباتها في القريب، والانتقال إلى مرحلةٍ جديدةٍ تمكّنها من تنظيم نفسها، والتعاون في ما بينها، على بلورة مشروع سياسي واضح، ومقبول لدى أطرافها، ولدى الجمهور المتطلع إليها، والعمل بجد وثقة على إنجازه، فالذي يهيئ لقيام الدولة وتوحيد المناطق المتناثرة والمتباعدة التي انفصلت عنها، أو استقلت بنفسها، بسبب الحرب الطويلة وانقطاع التواصل في ما بينها، هو وجود نخبة موحدة، أي تعمل على مستوى البلاد، وتفكر على هذا المستوى الشامل أيضا. ومن دون هذا النمط من النخب السياسية، لا يمكن إقامة دولة، ولا إعادة بنائها، إلا كما حصل للأسد والنظم الملكية المطلقة التي سادت في القرون الوسطى، أي على أساس القوة والشوكة، وتوفر الوسائل لتجنيد جيشٍ قوي من المرتزقة، المحليين أو الأجانب، والتي كانت فكرة الجيش الانكشاري التابع مباشرة للسلطان، والمستقل كليا عن المجتمع والرعية، التجسيد المثالي والأقصى لها. وهو ما لا تملك نخب المعارضة أي وسيلةٍ لتحقيقه.