دراسات قرآنية.. «كلام الله» في القرآن: متلفـّظ أم متلفـّظون؟ 2

التفكير في النص القرآني، وشرحه وتفسيره وحصر معناه، ليس انشغالا عربيا، فقد دأب المستشرقون، ومعهم الدارسون القرآنيون، على محاولة تفكيك الخطاب القرآني وارتياد علومه ومباحثه ولغاته، وتحديد نوازله ومفاتيح فهمه، وذلك في مواجهة التيارات الدينية التي تحاول فرض أساليبها بمنطق استغلاقي واحتكاري وإيماني، لا يستقيم الآن مع تعدد المناهج وطرق البحث العلمية التي تنبني على التشخيص والتحليل والتدقيق والتمحيص واستدعاء القرائن العلمية المادية والتاريخية.

 

يقول:‏ “أليس لله قال للسموات والأرض‏:‏ ‏{‏اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ أتراها أنها قالت‏:‏ بجوف وفم وشفتين ولسان‏؟‏
وقال‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏79‏]‏ أتراها أنها يسبّحن بجوف وفم ولسان وشفتين‏؟‏ ولكن الله أنطقها كيف شاء، وكذلك الله تكلم كيف شاء، من غير أن نقول‏:‏ جوف ولا فم، ولا شفتان ولا لسان‏.” (7)‏.
ومن اللافت أن يرى ابن تيميّة في هذا” الإخبار غير المألوف” الذي هو أسّ الاستعارة وكنهها “حقيقة لغويّة”
لا يقتصر الأمر بالطبع على الخمر، فإنّ آيات كثيرة يمكن إدراجها في هذا البند، لعل أشهرها الآية 51 من سورة الأحزاب: “تُرْجِي مَنْ تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْك مَنْ تَشَاء وَمَنْ اِبْتَغَيْت مِمَّنْ عَزَلْت”، وقد تلت الآية 50: “وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ… الآية”. وإنه ليتعذّر تفسير الآيتين المذكورتين بدون أسباب النزول، بسبب خصوصيتهما المفرطة والمتعلقة بالنبي. يحدِّث الإمام أَحمد عن عائشة أَنها “كَانت تَغِير من النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسولِ للَّه صلىا للَّه علَيه وسلم قَالَت ألا تَستَحيِي الْمرأة أَن تَعرض نفسها بِغَير صداق؟ فأنزل للَّه عزّ وجل “تُرْجِي مَنْ تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْك مَنْ تَشَاء” الآية”. يقول القرطبي في تفسيره للآية إن النبي كان مخيَّرا في أزواجه إن شاء قسم (عدل بينهن) إن شاء ترك القسم (ميَّز بينهن.) فخص النبي بأن جُعِل الأمر إليه. وهذا كما يمكن للقارئ أن يرى أنّ ثمّة أمورا تخصّ فردا واحدا، ولا يمكن أن تخصّ غيره ولا بالأحرى أن تعمّ. ولا يفوتنا أن نذكر هنا عبارة عائشة الشهيرة التي شكّكت بنزاهة الوحي، حين قَالَت “إِني أَرى ربك يسارع لَك فِي هواك”، وهو ما يفسره القرطبي على أنه “قول أبرزه الدلال والغيرة… والغيرة يغتفر لأجلها إطلاق مثل ذلك”.‏
وسنضيف إلى الحالات الخاصة حقيقة أن بعض الآيات نزلت تلبية لرغبة أفراد. أخرج البخاري عن أنس قال: قال عمر(ابن الخطاب): وافقت ربّي في ثلاث. قلت: يا رسول لله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى، فنزلت: “وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى” (البقرة: 125). وقلت يا رسول لله: إنّ نساءك يدخل عليهن البرّ والفاجر، فلو أمرتهنّ أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب، واجتمع على رسول لله صلى لله عليه وسلم نساؤه في الغيرة، فقلت لهنّ: “عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنّ”(التحريم: 5)، فنزلت كذلك.
ومعروفة قصة عبد لله بن أبي سَرْح الذي كان يكتب الوحي للنبي، ثم ارتدّ ولَحِق بالمشركين. وسبب ذلك فيما ذكر المفسّرون أنه لما نزلت الآية 14 من سورة المؤمنون ونصها “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ” دعاه النبيّ فأملاها عليه، فلما انتهى إلى قوله “ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ” عجِب عبد لله في تفصيل خلق الإنسان فقال: تبارك لله أحسن الخالقين، فقال النبي: “هكذا أُنزلت عليّ”، فشكّ عبد لله حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقاً، لقد أُوحي إليّ كما أُوحي إليه، ولئن كان كاذباً لقد قلتُ كما قال. فارتدّ عن الإسلام ولحِق بالمشركين، فنزلت الآية 93 من سورة الأنعام: “وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى للَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ للَّهُ”.
والنقطة التي يمكن الوصول إليها من هذا البحث، هي أنّ أسباب النزول وهو علم إسلامي معترف به من قبل الغالبية العظمى من الباحثين والمفكرين الإسلاميين يقرّ بنسبية عدد كبير من الآيات وخاصة تلك التي تتعلق بالأحكام،. هذا الإقرار يمكن أن يكون المدخل إلى فهم جديد للأحكام العامة، سواء أكانت أحكاما اجتماعية (الزواج، الحجاب، إلخ)، أو جزائية مثل حدود السرقة والزنا، إلخ. ولست في هذا البحث بمبتعد عما كان الباحث الإسلامي الجليل محمد شحرور قاله في كتابه “الكتاب والقران قراءة معاصرة، عندما رفض مبدأ الترادف في القرآن وميّز بين المفاهيم: فالقرآن ليس هو الفرقان والرسول لا يعني النبي والإنزال ليس هو التنزيل والعباد ليسوا هم العبيد، إلى ما هنالك. ويقوم جهد شحرور على التمييز بين أمّ الكتاب والمتشابهات انطلاقا من الآية 7 من سورة آل عمران ” هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ للَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ”. ويرى شحرور أن الكتاب المنزل على محمد يحتوي على آيات محكمات هي أمّ الكتاب تعبّر عن رسالته، وآيات متشابهات هي القرآن الكريم، والسبع المثاني وهي تعبّر عن نبوّة محمد، وآيات لا محكمات ولا متشابهات هي عبارة عن تفصيل للكتاب.


الكاتب : منصف الوهايبي

  

بتاريخ : 19/06/2020