الفكرة التي لا تموت…اقتلها

أحد الناصري

وأنا أحاول كتابة أي فكرة بخصوص أي موضوع أجدني أكتب قبلها لفظ «قد»، ثم أتمم ما أود قوله، لا أكاد أجزم في الجواب عن أي سؤال، أو أقر بأي موقف مطلق وإن كان شخصي، أؤمن بالفكرة التي تتملكني لحظتها ولكن أؤمن أكثر بالحقيقة، ولا أستطيع  أن أنتصر لفكرة قد أغيرها غدا أمام حجة دامغة.
الأفكار التي نتبناها تتغير دائما بتغير تجاربنا اليومية، فضاءاتنا التي نتشاركها، طبيعة الكتب التي نقرأها، نوعية الناس الذين نصاحبهم…كيف لك مثلا أن تنتصر لمعتقد مصيب بإطلاق دون أن تعنّف رمزية معتقد آخر، إذا كانت كل المعتقدات مطلقة صائبة وإن تعددت، ستتساءل انطلاقا من ماذا هي صحيحة؟ ما المعيار الذي به أنير طريق الحقيقة، وإذا كان معيار العلوم الدقيقة ليس واحدا، هل نستطيع إنصاف الغلوم المتعلقة بالإنسان ومعارفه ؟
لا نملك إلا أن تتسامح مع كل الديانات وتأخذها جميعا على محمل الحب، فلا يمكن لدين يجد فيه معتنقه ارتياحا عظيما إلا أن يكون دينا أعظم، وإن اختلف عن معتقدي.
كيف لك أن تصنف النساء الأجمل باختلاف ألوانهن وأعراقهن وانتماءتهن وأشكالهن، دون أن تبخس إحداهن لمجرد أن أسنانها كبيرة، وقد ينتهي بك الأمر يوما إلى أن تقع في شراك عشقها.
كيف لك أن تصنف الذوق الأرقى لمجرد أنك تمتثل للقاعدة الصباحية وتحقق انتشاءك بصوت فيروز العذب، ثم تأخذ سيارة طاكسي وتجد أن صاحبه يستلذ بسماعه لصوت حجيب المبحوح الذي يزيح  التعب عن يومه ويستبدله له بمزاج نشيط.
لكن كيف لك أن تنعت ذوق القراء بالسطحي لمجرد أنهم يقرؤون كتبا تقول عنها مبتذلة وتعبر عن مستوى سطحي، كرواية «في قلبي أنثى عبرية» وتقتنع بأنك الأعمق لأنك من أصحاب دوستويفسكي وتولستوي، أو لمجرد أنك تقتني كتبك بعناية بالغة ثم ترتبها في رفوف مكتبتك، فتبصر مدى رقي ذوقك الأدبي والفلسفي، بالرغم من أنكما تحققان نفس درجة الاستمتاع؟
صحيح أن للعلوم الإنسانية مناهج علمية بها نستطيع مَعيرة(قياس) النص المقروء، ونميز بها بين الرديء والجيد، وأننا بالتأكيد لا يمكن أن نبخس أعمالا اتفق حولها النقاد والباحثون بأنها قوية وخالدة، بل ولا يحق لنا ذلك علميا ما لم نتسلح بالأدوات اللازمة إذا ما أردنا الانتقال من المعرفة العامية إلى المعرفة العالمة وتجاوزنا بذلك الأحكام الفردية المبنية على انطباعات الحس المشترك. وقد تتوصل إلى أنك فعلا كنت تعاني من جهل كبير عندما كنت تنتصر لموقف واحد وذوق وحيد دائما  وتبتعد عن خوض النقاشات التي تخص الأذواق، حينها تكتشف صدق نيتشه (وتقولون أيها الأصدقاء أنه علينا أن لا نناقش الأذواق و لا الألوان ؟ و الحال أن الحياة ليست سوى نزاع حول هذين).
لكن المؤسف أن هذا النزاع قد لا يوصلك لنتيجة أخيرة مريحة، أو يعري لك عن فكرة تابثة تحتضنها وتكمل حياتك مطمئنا، بل على العكس تماما، تدرك أن الفكرة التابثة ميتة وما الحياة إلا في التغير المستمر. تنتهي لأن تجد نفسك أخيرا تؤمن بحقيقة الاختلاف والتغير.
الأفكار الدوغمائيةلابد لها أن تشيخ يوما وتمرض، فإن لم تمُت، اقتلها. الفكرة قد تكون كحذاء مستعمل قديم وجب استبداله لكي لا تكمل طريقك معطوب المسير مجروح القدمين، أو كعلبة تونا منتهية الصلاحية وجب رميها وإلا أصيب ذهنك بتسمم حاد.
الحياة في الأفكار المتغيّرة وفيها أيضا تكمن الحقيقة، إنها تشبه عملية التقاطك لصور جميلة، لتبصر فيما بعد صورا أجمل منها.
الأفكار التي لا تضيء الطريق وتمنعك قدميك من المسير، تستوجب التخلي، في ماذا ينفعك مصباح لا يشتغل؟
أما اليقين الذي ننشده فلن نصله باستمرار أفكارنا وثباتها لقرون من الزمن. جميعنا نحتاح لسلّة مهملات نرمي بها أفكارنا البالية، وقد تصدم عندما تدرك أن مجتمعاتنا تحتاج إلى مكبٍّ ضخم يرمي به أفكاره وعاداته،لكي يستطيع تغييرها.

الكاتب : أحد الناصري - بتاريخ : 22/06/2020