دراسات قرآنية : «كلام الله» في القرآن: متلفـّظ أم متلفـّظون؟ 6

– مسألة المؤلف: من هو المتكلّم؟
– يعقد ج. جينيت تحت مصطلح «صوت» سلسلة من الأسئلة،عُراها العلاقات القائمة بين” سلطات” ثلاث هي المؤلف والسارد والشخصيّة، وما يميّز إحداها عن الأخرى من فروق دقيقة وظلال خفيّة. وإذ نشدّد على هذين النعتين: “دقيقة” و”خفيّة” فمردّ ذلك إلى سؤال لا يمكن تلافيه في أيّ نصّ سرديّ وهو: أعلينا دائما إجراء هذا التمييز بين المؤلّف والسارد، وبخاصّة كلّما كان السارد نفسه شخصيّة في القصّة التي يرويها؟ وما إلى ذلك من أسئلة مثل: كيف نحدّ العلاقات ونرسم الحدود بين “الداخل” في العالم المحكي و”الخارج”؟ أو كيف نضبط الزمنيّة، ونحن نقيس الفارق الكبير تقريبا بين زمن الفعل السردي وزمن القصة(17)؟.
ثمّة في كلّ نصّ سرديّ ما يغري القارئ بإدماج الصوت السارد بمؤلّف النص، وبخاصّة كلّما توسّطت أنا السارد بين القارئ والقصّة.
فحضور ضمير المتكلّم في نظام النص، سواء أداره المؤلف بصيغة ” أنا ” أو على مقتضى أسلوب ” الالتفات ” من انصراف المتكلّم عن الإخبار إلى المخاطبة، وعن المخاطبة إلى الإخبار،إنّما هو من مقوّمات قراءة الألفة، إذ يمكن أن يدلّ حدسا أو ظنّا على تجربة عند القارئ هي تجربة ” التقبّل الذّاتي” أو إدراك الذات وتعرّفها.
وهي ليست متجانسة عند جميع القرّاء، ولكنّهم يتقاسمونها بنسبة أو بأخرى. و”أنا” هي بمثابة واصل أو رابط بين القارئ والنصّ. والقرّاء جميعهم يتوفّرون على هذه الملـَكة في إسناد الكلام إلى النّفس، والرّجوع إلى الذّاكرة من حيث هي قوّة نفسيّة تحفظ الأشياء وتستحضرها عند الاقتضاء. وواسطتهم في ذلك ضمير التكلّم في النصّ إذ يحيلهم على تجربة جسديّة ونفسيّة لهم علم بها وخبرة،أو هم يدركونها بالاختبار لا بالنّظر. وما نلاحظه في استعمال الضّمير ”أنا” أنّ المرجع هو سريرة المتكلّم الخاصّة أو دخيلته. ولعلّ في هذا ما يسوق إلى القول إنّ إدراك القول،أو الملفوظ يفترض اختزال الفرديّة لكي يتيح فهم الأمور المتعلّقة باستعمال “أنا” في هذا النّمط من تجربة القراءة القائمة على إيلاف النصّ والأنس به.
فمثل هذا الضمير يضعنا إزاء متلفّظ أو قارئ يمكن القول إنّه مفرد بصيغة الجمع ذلك أنّ “الأنا” التي تستوقفنا في النصّ ليست إلاّ الواصل الذي يمكن أن يكون “نحن”،أي هذه المجموعة غير المحدّدة التي تتّسع للمتكلّم أيّا كان؛ بما يسوق إلى القول إنّ القارئ متضمّن في “أنا” مثلما هو متضمّن في “نحن”.
إنّ “أنا” أشبه باسم لغير علم،يعقد صلة حميمة أشبه بوشيجة القربى،بين المتكلّم وكلامه،صلة أسا سها عند جاكوبسون علاقة تماثل:” إنّ كلمة “أنا” الدالّة على المتلفظ لهي في علاقة وجوديّة بالتـلفظ”. فهذا الضمير إذن ،رغم ذيـوعه وشيوعه “شديد الغرابة” وليس بالميسور محاصرته،لتعقّده وعدم ثباته.(18).
أمّا السارد بصيغة الجمع “نحن” فقد يحيل ـ وهذا ما لا نتنبّه إليه عادة، أو نغفله ـ على ما يمكن أن نسمّيه “بنية غياب بالمطابقة” بينه وبين ذاته. فالله يقصّ، ولكن لا أحد يجعل صفة “قصّاص” من أسمائه الحسنى، أو يتخذ منها اسم صفة يجاذب الاسم الجوهر مكانته(19).
ولعلّ هذه الصيغة المطّردة في النصّ القرآني،ممّا يتيح للسارد أن يحصر السلطة في شخصه من جهة، وأن يجعل الذهن يتركّز في الشخصيّات الرئيسة، من أخرى أي تلك التي يبسط عليها هذا السارد سلطته اللغويّة.


الكاتب : منصف الوهايبي

  

بتاريخ : 24/06/2020