الزجال المغربي أحمد لمسيح : مبدع المسافة بين بهاء الشعر وخذلان السياسة

1 – قامته وظلال التعاطي:

كلما قرأته غيرني.
كلما تعايطته استوطنني.
ألوذ بنصوصه.
أختلي بمواقفه.
فيتبدى على مرأى من دهشتي واثق الشعر. راسخ الرؤى.
كل قراءة له هي – في صميمها – اكتشاف لما يعلو على المحايث، ويؤسس للاستثنائي.
كل مقاربة لنصوصه – في جماع تمظهراتها – تؤول إلى القبض على الجوهر.
وتستدعي فيض حدوس.
القصيدة هنا رؤية راسخة في المابين.
أي تلك المسافة التي فيها يلتئم بعد واحد في بعدين:
أ – الأفق الجمالي الذي يؤسس للغاية الشعرية.
وهو عتبة تمنح للنص مشروعيته الفنية في التلقي الأدبي.
ب – الموقف الذي يعبر عن الانتماء الفكري.
وهو عتبة تعكس عمق حرية الرأي في المشهد الثقافي.
البعدان معا يتجسدان بمهارة وزخم وانسجام في التجربة الشعرية لعراب القصيدة الزجلية المغربية.

2 – حبر جمعه ودلالة مفرده:

هو يكتب القصيدة وينكتب فيها معا.
يصيغها بحبر الجمع.
تصيغه بدلالة المفرد.
هنا سر تأثيره الباذخ في كل من يقرأ قصائده دون مسافة.
دون وعي سابق ومعمم.
بصنيعه هذا ألج نصه مرفوقا بثلاثية ولعي معه:
أولا: شهوة التقصي.
ثانيا: عطش الاكتشاف.
ثالثا: رغائب التوغل.
ثم أغادر عوالمه الثرة المتداخلة متأبطا ما يعتريني من اختلاف.
مشرئبا نحو ما انطبع في دواخلي.
مع أحمد لمسيح لن تحافظ على ما كنته..!
ثمة في قصيده – مثلما في مسيره – شهوة عارمة للحياة.تلك الشهوة التي تجعله يحاور أدق الأشياء المستكنة في الثلاثية السرمدية:
– الإنسان.
– الواقع.
– الكون.
3 – عذرية حرفه ومعناه:

منذ مطالع الزجل عانق قصيدته المغايرة.
اختار صنيعه المتفرد.
ووقف على حدة.
في أوج التعميم أبى حبره أن يراود ما يحايثه.
استعصى على الجاهز.
ذهب توا إلى ما لم يتبلور بعد في رحم الكلم.
بلى.
تقصي المجهول غير المدرك، ظل دوما الهاجس الشعري لدى أحمد لمسيح.
كثر هم الذين لم تتورع أقلامهم عن الصلاة في محراب التجارب الزجلية المتاخمة.
أما هو – أحمدنا المحمود – فقد حافظ على عذرية حبره حتى النفس الأعلى للقصيدة.
ثم..
انتصر لهيبة التفرد.
واحتكم لتفرد الهيبة.
ذاك صنيعه الأجلى.
صنيعه الذي عبره التمع فينا.وسطع على شاشة القصيدة المغربية.

4 – جهارة قصيدته
وهمس مواقفه:

أسير..وأسير..ولا طريق.
هكذا جهر يوما أحمد لمسيح ليعلن عن مسافة ملتبسة بين القصيدة والموقف.
بين البهاء الشعري وتخاذل السياسة.
على مقربة من السياسة كان أحمد لمسيح.
لم ينغمس فيها إلا والقصيدة في يده.
والصرخة متأهبة للانطلاق دون هوادة.
لذلك ربح القصيدة، وكسب الموقف.اعتلى سدة الكلام وما انخفض سياسيا.
ذاك رهان خسره الكثير من الشعراء.
بيد أن أحمد لمسيح كسبه وخرج مرفوع الهامة الإبداعية.

5 – كلام يصطاد الكلام:

بدا لي من أول لقاء معه، محكوما بالحياة. مأهولا بالصفاء.
ينخرط في التداول اليومي بحنكة وروية.
يتوالج مع المستحدثات بتفوق لا يغالب.
دون أن يمارس السرية لا مع نفسه، ولا مع الآخرين الذين يتكاثرون من حوله، ويصغون فيه إلى كلام يصطاد الكلام.
وإلى قرب آسر لا يطاله ابتعاد.
حضوره الباذخ في مواقع التواصل الاجتماعي ( الفايسبوك ) يعكس يفاعة تفاعله مع زمنه وعصره.
من هنا لا أخالني تجاوزت يقين الحقيقة حين وصفته ذات لقاء احتفائي به في طنجة بأنه:
مبدع عابر للأزمان.مقيم في الأجيال.

6 – يتكاثر شاعرا وناثرا:

أحمد لمسيح مؤتمن دائم على الشعر والنثر.
طوبى له.
طوبى لنا به.

7 – قيد الوطن بقي:

عميق الانتماء كان أحمد لمسيح.
وارف المبدأ ظل قيد الوطن.
أدرك مبكرا أن الرهان معقود على القصيدة لا السياسة.
وأن فعل الشعر أقوى من شعار السياسة.
إنه ليس في منأى عن الوطن.
هو فقط ترك تخوم السياسة ليعانق أقاصي الانتماء.
كان حرا وهو داخل المواقع التي احتشدت به.
وهو حر الآن في المواقع التي يحتشد بها.
هي ذي الحرية التي بايعها شاعرنا الكبير أحمد لمسيح:
في البدء والمآل.
في يفاعة العمر وفي قمته.

8 – شاعرية القصيدة وإيديولوجيتها:

على مدى عقود ظلت القصيدة الزجلية المغربية سجينة الأفق الإيديولوجي، الذي خصم من رصيدها الشعري ورفع من رصيد منحاها السياسي.
وجاء أحمد لمسيح ليحررها من ثقل الإيديولوجيا، ويذهب بها صوب توازنها الخلاق والمؤثر والجميل.
هو لم يعمد إلى إفقارها من وعيها السياسي.
بل بادر إلى إثرائها بعمق شعري عبره تكون قصيدة لا بيانا..!!
من هنا لا محيد أمام أي دارس للتجربة الزجلية في المغرب سوى أن يضع أحمد لمسيح تحت عنوان بارز:
منقذ الزجل المغربي من ضلال الإيديولوجيا المتكلسة.
9 – ريادة بصيغة الإجماع:

ثمة الآن احتفاء أخاذ ونادر بالتجربة الزجلية العميقة للشاعر الكبير أحمد لمسيح.
ثمة إجماع نادر معقود على إحلاله ما هو به جدير من مكانة أدبية راكمها على مدى عقود من الإخلاص لبهاء القصيدة.
ما هو جدير بالإبراز أن أحمد لمسيح ظل، في أوج هذه الأضواء الكاشفة:
بسيطا كما كان.
متواضعا كما العهد به.
يحتفي بغيره ضعف احتفاء الغير به.
وهل ذلك غريب..؟!
إن أحمد لمسيح لم يعودنا سوى على:
تكريس عظمة المبدع فيه.
وترسيخ بهاء الإنسان لديه.
وما تعود منا إلا جماع الحب نمنحه له على الدوام.
سواء كان في عزلته الخلاقة.
أو كنا في زحامه الجميل.

10 – ضفافي وأعماقه القصية:

كم عسير كتابة بورتريه عن مبدع يجعل الفصيح يصاب بتلعثم أمام فيض زجله البليغ..!!
كل بورتري يروم صياغة صورة قلمية عن أحمد لمسيح، مصيره أن يربض عند ضفافه دون أعماقه القصية.
هذا ما يجب أن أقوله وأنا بصدد رفع يراعي الذي يستشعر غبطة المثول في نسغ مبدع:
عابر للأزمان.
مقيم في الأجيال.


الكاتب : حسن بيريش

  

بتاريخ : 26/06/2020