التفكير في النص القرآني، وشرحه وتفسيره وحصر معناه، ليس انشغالا عربيا، فقد دأب المستشرقون، ومعهم الدارسون القرآنيون، على محاولة تفكيك الخطاب القرآني وارتياد علومه ومباحثه ولغاته، وتحديد نوازله ومفاتيح فهمه، وذلك في مواجهة التيارات الدينية التي تحاول فرض أساليبها بمنطق استغلاقي واحتكاري وإيماني، لا يستقيم الآن مع تعدد المناهج وطرق البحث العلمية التي تنبني على التشخيص والتحليل والتدقيق والتمحيص واستدعاء القرائن العلمية المادية والتاريخية.
روي عن ابن عباس رضى لله عنه (ت 68 هـ) أنه قال: «في أحرف كثيرة (من القرآن) إنّه من غير لسان العرب، مثل سجّيل، والمشكاة واليمّ، والطور، وأباريق وإستبرق، وغير ذلك».
وإنه سئل عن قوله تعالى: «فرت من قسورة»، قال: هو بالعربية (الأسد) وبالفارسية (شار)، وبالنبطية (اريا)، وبالحبشية (قسورة). كما وردت تلك الألفاظ على لسان شعرائنا، قال عديّ بن زيد العبادي (من الخفيف):
فدعوا بالصبوح يوماً فجاءت قينة في يمينها إبريق
وقال الأعشى (من الرمل):
ذات غور ما تبالي يومها غرف الإبريق منها والقدح
وقال ابن قتيبة (ت 276 هـ): «اليم: البحر بالسريانية… والطور: الجبل بالسريانية… والمشكاة: الكوة، بلسان الحبشة… والسجّيل بالفارسية: سنك، أي (سنك) وكَل، أي حجارة وطين».
وقال ابن دريد (ت 321هـ) في لفظ القسطاس: إنّه الميزان بالرومية، إلا أنّ العرب قد تكلّمت به وجاء في التنزيل».
وذكر أبو منصور الثعالبي (ت 430هـ) أن في القرآن ألفاظاً أعجمية وأفرد لها فصلاً سماه «أسماء تفردت بها الفرس دون العرب فاضطرت العرب إلى تعريبها أو تركها كما هي». وقال ابن الجويني (ت 478هـ)، في استعمال لفظة (استبرق) في القرآن الكريم: «لو اجتمع فصحاء العالم وأرادوا أن يتركوا هذه اللفظة ويأتوا بلفظ يقوم مقامها في الفصاحة لعجزوا عن ذلك»، وعلي أن أقف قليلاً عند هذه اللفظة لأوضّح بأنّ لله سبحانه حثّ عباده على الطاعة ورغّبهم بالوعد الجميل وخوّفهم بالعذاب الوبيل، فالوعد ما يرغب فيه العقلاء من أماكن طيبة ومآكل شهية ومشارب هنيه وملابس رفيعة ومناكح لذيذة فذكر هذه الأمور لازم عند الفصيح وكان مما ينبغي أن يذكر من الملابس ما هو أرفعها، وأرفع الملابس في الدنيا الحرير وكلما كان الحرير أثقل كان أرفع ولا شكّ أنّ ذكرها بلفظ واحد صريح أوجز وأظهر للإفادة وذكرها بلفظتين أو أكثر يخلّ بالبلاغة لذا فإنّ لفظ (إستبرق) جاء في موضعه ولو أنّ العربي أراد أن يبدله بلفظ آخر لعجز لأنّ العرب لم تعرف الحرير إلا من الفرس ولم يكن لهم بها عهد ولا وضع للديباج الثخين اسم له وإنّما عربوا ما سمعوا من العجم واستغنوا به عن الوضع لقلّة وجوده عندهم وندرة تلفّظهم به.
وقال ابن عطية، عبد الحق بن أبي بكر عبد الملك المتوفى (543هـ): «إنّ العرب كانوا على اتصال بالأمم الأخرى، فعلقت بهم ألفاظ أعجمية غيّرت بعضها بالنقص من حروفها، وجرت إلى تخفيف ثقل العجمة، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربي الصريح ووقع بها البيان وعلى هذا الحد نزل بها القرآن فإن جهلها العربي فكجهله الصريح بما في لغة غيره».
وقال ابن النقيب (ت 698هـ): «القرآن احتوى على جميع لغات العرب وأنزل فيه للغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة شيء كثير».
واختار السيوطي (ت 910 هـ) وقوع المعرب في القرآن الكريم قال: «وأقوى ما رأيته للوقوع، وهو اختياري، ما أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن أبي ميسرة التابعي الجليل، قال: في القرآن من كل لسان».
أما المحدثون من علماء اللغة، فآراؤهم لا تخرج عما قاله العلماء الأوائل، فهم مؤمنون أن العرب منذ الجاهلية استعملوا كثيراً من الألفاظ الأجنبية في لغتهم، ولا خشية من هذا الاستعمال مادام مستعملوا اللغة على قدر كبير من الوعي والاحتياط، والألفاظ الأعجمية التي استعملت في القرآن الكريم، كان ورودها طبقاً لواقع الحال لأن اللغة العربية قبل نزول القرآن على نبينا محمد صلى الله عليه واله وسلم كانت تضم الكثير من الألفاظ الأعجمية، فلا غرابة في استعمال القرآن بعض الألفاظ الأعجمية لأنّ القرآن الكريم نزل بلغة العرب، ولأنّ لله سبحانه تعهد بحفظ القرآن إذ قال: «إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون»، وسأحاول التعرض لآراء المحدثين والمعاصرين.
يقول عبد القادر المغربي (ت 1375 هـ): «إنّ احتواء القرآن شيئاً من الكلمات العجمية المعرّبة لا يخرجه عن العروبة، ولا ينزع عنه لباس الفصاحة، لأنّ مولى القوم منهم ولأنّ سلمان الفارسي قد أصبح بعد إسلامه واحداً من آل بيت الرسول».
ويدعو في موضع آخر إلى ضرورة أن نسير على طريقة سلفنا في تعريب ما نحتاج اليه من ألفاظ اللغات المعاصرة فيقول: «هناك اختراعات أوجدها قوم من غير أبناء لغتنا ووضعوا من كلمات الأحداث والمعاني، التي تشتق ويشتق منها ما يتعلق باستعمال تلك الاختراعات، ويدل على طرق الانتفاع بها».
يقول الدكتور رمضان عبد التواب (ت 2002 م): «من العبث إنكار وقوع المعرّب في العربية الفصحى والقرآن الكريم، وقد وضع العلماء علامات يعرف بها المعرب في العربية، استنتجوها من مقارنة نسيح الألفاظ العربية، بنسيج هذه الألفاظ المعربة»، فاللغة في رأيه لا تفسد بالدخيل من الألفاظ الأعجمية، بل حياتها في هضم هذه الألفاظ، لأن مقدرة اللغة على تمثل الكلام الأجنبي، تعد ميزة لها إذا هي صاغته على أوزانها، وصبته في قوالبها، ونفخت فيه من روحها.
وقال الدكتور علي عبد الواحد وافي: «المفردات التي تقتبسها لغة ما، عن غيرها من اللغات يتصل معظمها بأمور قد اختص بها أهل هذه اللغات أو برزوا فيها… فمعظم ما انتقل الى العربية، من المفردات الفارسية واليونانية، يتصل بنواحي مادية أو فكرية امتاز بها الفرس واليونان وأخذها عنهم العرب».
وهذا رفائيل نخلة اليسوعي، يذهب الى ما ذهب اليه غيره، ويدعو الى ضرورة زيادة ثروتنا اللفظية عن طريق الاقتباس من لغات الأعاجم فيقول: «الاقتراض علاج ناجح للعوز، كما فعل العرب القدماء من أنّهم أغنوا لغتنا بآلاف الألفاظ الأعجمية، التي لم يكن فيها ما يؤدي معانيها غير أنّهم جعلوها على صيغ عربية أو شبهت بالعربية، ولهم من المهارة في ذلك التحويل ما يقضي منه العجب وأيم العجب»، كاقتباسهم (الترعة) من الآرامية و(البستان) من الفارسية و(البرج) من اليونانية و(الدينار) من اللاتينية!