نظرات في التصوف ربط المعلوم باللاَّمعلوم

إنَّ جدلية اتّساع الرؤيا وضيق العبارة هي التي ولّدت نصوصاً صوفيةً كثيفة عميقة غامضة في أحسن الأحوال لأنَّه من الأسرار ما لا يمكن تصوّره ولا توهّمه فضلاً عن أن تصل إليه العبارة وتحيط به دائرة الإشارة لعزة سطوته وجلاله، وما ينطوي عليه من فوائده وكماله ولا حد للأسرار، لا يعرفها إلاّ من ذاقها فهناك من قضايا المجال الصُّوفي ما يخرج عن حدود اللُّغة فلا يمكن أن تُقال وما لا يقوله النَّص أو مالا يوضحه يشكل بنية إبداعية للممكنات التي تقوم عليها حريّة التأويل لأنّ نطاق المسكوت عنه يفتح المجال للقارئ كي يملأ الفجوات التي تركها الصُّوفي وينبّه حسّه الفضولي في الكشف عن الخفيّ لأن الشيء الخفي يُحرض القارئ على الفعل، ويكون هذا الفعل مضبوطاً بما هو ظاهر، ويتغيّر الظاهر بدوره عندما يخرج المعنى الضمني إلى الوجود وكلّما سدّ القارئ الثغرات بدأ التواصل.
في هذه الأجواء سنحاول الوقوف على معاناة الصوفي مع اللغة التي وجدت نفسها مرغمة –في حضرة العرفان – أن تقول أكثر مما تعودت، وأن تجود بأكثر مما تعد، في موقف للتهادن مع المعنى الصوفي المتمنع لتتمكن من مقاربته وتوصيفه ونقله من مدار الاستحالة إلى دائرة الإمكان، ومن كينونته الوجودية إلى تمظهره اللغوي.

إنَّ الارتقاء نحو المتعالي يحتاج إلى مطيَّة توصل الصُّوفي إلى أصقاع الرُّوح، ولا شكَّ أنَّ الجسر اللُّغوي هو وحده القادر على ربط المعلوم باللاَّمعلوم، الكائن البشري ببقية المدركات، الصُّوفيّ كباثٍ بالمتلقي كمستجيب، لأنَّ اللُّغة تكشف عن الموجود بل «هي الموجود ذاته منكشفاً، وحيث ينكشف الموجود تخلق إمكانية الخطر الَّذي هو تهديدٌ للوجود من قبَل الوجود» لأنَّ ترجمة الوجود مستعصية، واللَّغة البشرية محدودة، والمعرفة التي ينشدها الصُّوفي لا يضبطها قالب و«الحقيقة الَّتي يدركها بقلبه ومعراجه الصُّوفي تنبئ بأنَّ… الدَّلالة العرفيَّة الظَّاهرة للُّغة البشرية الإنسانية دلالةٌ خادعةٌ» لأنَّها لا تشير مباشرة إلى المدلول وإنَّما تلمّح له، ولكنَّ جهد الصُّوفي في الإعراب عن تجربته يدفعه دفعاً لإيجاد المعادل اللَّفظي لما يعايشه، وللكشف عن المعاني الَّتي امتاحها من مملكة الرُّوح، ولترجمة ذاته لأنَّ «الإنسان لا يستطيع أن يتكوَّن باعتباره ذاتاً إلاَّ في اللَّغة وعبرها، لأنّ اللُّغة تؤسّس وحدها مفهوم الأنا في الواقع، في واقعها الَّذي هو واقع الكينونة» لذلك يجب التَّوسل إلى الألفاظ والوقوف في حضرتها، فوحدها تضمن الظُّهور للتَّجربة الصُّوفية إذ «ليست اللُّغة إلاَّ بديلاً مقنَّناً للتَّجربة نفسها» .
قد لا ينجح الصُّوفي في محاولته نحت لغة خاصَّة به أو خلق مفردة لا يستطيع التَّلفظ بها غيره لكنَّه يستطيع اكتشاف عبارات جديدة لأنّ «طاقته على نحت مفردٍ جديدٍ تظل محدودة على حين أنًّ طاقته على الإضافة هي غير محدودة وغير متناهية»، وبهذه الإضافة تتاح له إمكانيَّة التَّعبير عن معانيه، وقد تمكَّن الأمير عبد القادر- بهذه الطَّريقة- من إيصال علمه اللَّدني إلى المتلقي لأنَّه «لا يسمي الأشياء بأسمائها التَّقليديَّة المتداولة، بل يحاول أن يجد لها أسماء جديدة تناسب الحالة الرُّوحيَّة الَّتي عايشها واختبرها». وقد استعاذ بالإضافة من عجزه عن الإتيان بالجديد في المفردات وذلك ما نلمسه في مواقفه حيث يوظّفها بكثرة على نحو: ظاهر الوجود، باطن الوجود أعيان الممكنات، نور الحقّ، غيب الغيوب، حقيقة الحقائق، روح الأرواح، برزخ البرازخ، نور الأنوار، عين الكمال، عين اليقين، حق اليقين، مرآة الكون، حضرة الملكوتية، حضرة العلم، حضرة الخيال، حضرة الأسماء، حضرة التفصيل، مقام المرآة، عين الذات، حضرة الإحساس، نفَس الرّحمن، شيئيَّة الثُّبوت، هيول الكلّ، هيول الهيولات، عدم العدم، أرض السمسمة…
بهذه الاستعمالات الجديدة استطاع الأمير أن يثبت للطائفه وجوداً لغوياًّ يخالف المعتاد لأنَّ الألفاظ «كلَّما اختلفت مراتبها على عادة أهلها كان وشيها أروع وأجهر»، لأنَّها ستكون صادمةً لأوَّل وهلة كونها قائمة على «التَّشويق للبحث، والسؤال، ومعرفة المجهول، والدُّخول في حركة اللاَّنهاية» ممَّا يجعل اللُّغة تتدثَّر بجماليّة فائقة مدهشة وتفتح المجال واسعاً لاحتمالات أكثر وتنشئ مساحة جديدة للفهم قوامها التّأويل، وتؤسّس لمسار قرائيّ مغاير يتجاوز الظاهر اللَّفظي للخطاب الصُّوفي وذلك بطمس بنية المعيار والقضاء على نوع القراءة الَّتي تنسب إليه.
إن تجربة الكشف عند الصُّوفي تفترض لغةً كشفيَّة تتجاوز الشَّائع من التَّعابير وتضرب بلغة الفلاسفة والمناطقة عرض الحائط، ذلك أنَّ لغة الفلسفة هي نتاج العقل فيما لغة المتصوّفة هي لغة القلب والحلم والماوراء، لغة تقف على عتبات المطلق وتلامس تخوم الغيب وتمتاح من فيض الرُّوح وتتجاوز نفسها كما يتجاوز الصُّوفي نفسه لتصل إلى الأسرار الخفيَّة الَّتي تقبع داخل قلبه وبالتالي تتحقّق لذَّة القراءة لأنَّ «اللَّذة العامة للنَّص هي كلّ ما يتجاوز المعنى المفرد الشفاف، هي ما يتولد فينا عندما نرى صلة أو مدى أو إشارة حين نقرأ، فهذا الانتهاك للتَّدفق المتتابع البرئ للنص هو ما يمنحنا اللَّذة». ففعل الكشف- إذن- هو الَّذي يثير تلك النَّشوة في اقتناص «البكر من المباهج الإيحائية، ولما يتوارى طيَّ الكلمة أو تحت لبوسها من فذيذ المعاني واللَّطائف» الَّتي تسمو باللّغة وتحلّق بها «على أجنحة روحيَّة إلى عالم يجرّدها من مادتها الزَّائلة ويكسبها من الخصائص ما هو مطلق أزليٌّ» ويدخلها مدار النُّور لتتشرَّب أشعَّته وتضئَ المناطق المعتمة في المتن الصُّوفي.
ولئن كانت وجهة الصُّوفي- كما سبقت الإشارة- هي فضاء اللاَّمحسوس واللامرئي ورحلته كانت انتقالاً من العالم الواقعي المُثقَل برواسب المادة إلى العالم المثالي المفعم بالشَّفافيَّة فكذلك انتقل الصُّوفي»من اللُّغة التَّصويرية في انتمائها للحيّز الواقعي والأرضي إلى لغة التصوير في تعلُّقها بالمجال السَّماوي والمطلق»، يقيناً منه أنَّ اللُّغة العادية عاجزة أمام تلك الفيوضات الَّتي تبعث على الدَّهشة والانبهار والصَّدمة، وتتجاوز منطق العقل، ولا ملجأ إلاَّ إلى اللُّغة الحلميَّة لغة الحب هذا الَّذي «لا يجتمع مع العقل في محلٍّ واحدٍ، فلا بدَّ أن يكون حكم الحبّ يناقض حكم العقل، فالعقل للنُّطق، والتهيام للخرس». هذا التناقص الَّذي حملته اللُّغة قد وضع الصُّوفية في موضع الاتّهام حيث لاقوا «أيَّما عنت لاطّراح بعضهم طريقة الاستسرار ولجهرهم بهذه اللُّغة في حال بسطهم وسكرهم».
في حين أن لغتهم ليست «لغة إلحادٌ وغطرسةٌ، ولكنَّها في الحقيقة لغة أناس أرادوا أن يصفوا لله فوصفوا أنفسهم لشعورهم بأنَّه هويتهم، وأرادوا أن يصفوا الرُّوح المحمَّدي فوصفوا أنفسهم لشعورهم بأنَّه حيٌّ فعَّال فيهم» خاصَّة إذا بلغ منهم التَّواجد مبلغه فنطقوا بعبارات يستغربها السَّامع لقوَّة الواردات الإلهية الَّتي تُغيّبهم عن أنفسهم.
لقد حاول الصُّوفي أن يجد معادلات لفظيَّة لكلّ ما يمور في أعماقه من معانٍ، و سعى – دائباً- ليهادن اللُّغة مع الماوراء، وليجعلها تعد بالكثير وتتوق لفكّ ألغاز الوجود وإن عجزت عن قول الجمال فيكفي أن توجد له أصداء في ثناياها فـ»بواسطة اللُّغة وحدها وداخلها يمكن تشبيه كلّ شيء بكلّ شيءٍ، ويمكن لأيّ شيءٍ أن يجد صداه، علَّته، تشابهه، وتعارضه وصيرورته في كلّ مكان» ذلك أنَّ الدّلالة الصُّوفيَّة دلالة عرفانية ذوقية تبحث لها عن تمثيل لفظي بمقدوره أن يزوّد المتلقي بتقريرٍ وجدانيٍّ وافٍ وبالتاَّلي يؤسّس لمصطلحية صوفيَّة تستمدّ وجودها وشرعيَّتها من صميم التَّجربة الرُّوحيّة التي عاشها العارف، على أن اللّغة الصُّوفية ذاتها تختلف من صوفيٍّ لآخر حسب عمق التَّجربة وأقدميَّة الانتساب إلى التَّصوّف، ففرق شاسعٌ بين منطق المريد المبتدئ ومنطق الشَّيخ الَّذي بلغ المرحلة النّهائية في تجربته، فالأوَّل- ولقلة خبرته- قد تتكسّر الكلمات في فمه ويتعذر عليه التَّعبير لوقوعه في الحال الّذي يرد عليه دون انتظار ومن ثم لن يحالفه التوفيق في تأسيس خطاب صوفي، فيما يستطيع الشيخ أن ينقل جل حالات وجده مكوّنا بذلك خطاباً قائماً بذاته، إلاَّ في حالة الفناء فإنَّه يعجز عن الإحاطة بتلك الحالة الَّتي لا يبلغها إلاَّ من دخل المقام الأعلى وبالتَّالي فقد يعبّر الشَّيخ عن فنائه بلغةٍ غير مفهومة تحتاج إلى تأويل.


الكاتب : صوالح نصيرة

  

بتاريخ : 29/06/2020