على امتداد سنوات عديدة من الاشتغال، أضحى الخطاب الصباغي عند الفنان التشكيلي المغربي محمد بوزيان ( المزداد بفكَيكَ سنة 1950 ) يقوم على التصوير المباشر للجسد الأنثوي و تقديمه كمفردة جمالية و تعبيرية ترمز إلى الأرض و الأمومة، أو بتعبير آخر إلى الخصوبة و الإنتاج و العطاء.لكن، و بفعل التحوُّل في التجربة، أمسى هذا الجسد يتخلص من هيئته الفيزيولوجية ليصير في شكل خيالات تجريدية و أطياف إنسية يصعب التعرف على هوية أصحابها. فهي بالتأكيد أجساد أنثوية كما تقرِّر ذلك لغة الانحناءات الوادعة و التضاريس و النتوءات المتموِّجة التي تشغل جوانب مهمة من السند.
اشتغال الفنان بوزيان على المرأة كجسد و كمخلوق آدمي نابع من جذوره و من ثقافته الاجتماعية المتحرِّرة و من إحساساته المرهفة تجاه هذا الكائن الملغز الذي أثيرت أسئلة كثيرة حول أصله و دوره في المجتمع، فضلاً عن رهاناته و انكساراته و طموحاته و صراعاته المتجدِّدة مع متطلبات العيش و الحياة، و على الأخص داخل مجتمع أسس أنظمته و هياكله على الفحولة و تفوق المبادئ الذكورية..
من ثمَّ عدت المرأة في لوحات الفنان بوزيان سؤالاً فلسفيّاً و جماليّاً قبل أن تكون قضية مجتمعية بالمعنى التقليدي المستهلك، و هو سؤال تتمُّ معالجته تشكيليّاً بخلائط ألوان اصطلاحية و أخرى صريحة داخل مقطعات مساحية متجاورة تبرز المنحى شبه التجريدي الذي أضحى يَسِمُ البحث الصباغي و التجريب الطيفي لديه.
خيالات متعامدة و أطياف إنسية شاردة تتسلل بهدوء داخل تكاوين و بناءات لونية متصاعدة مكسوة بآثار و تبصيمات متنوِّعة ناتجة عن استعمال فرشاة مكتنزة و واثقة تمتد للجسد و المخيلة.. و بقدر ما هي خيالات، هي أيضاً مساحات بصرية مفتوحة على التفكير و التأمل أراد الفنان بوزيان اقتراحها لتقييم وجود المرأة و حضورها ككائن بشري منشغل بتحدياته و رهاناته التي تتأرجح و تتماوج بين التصوُّر الديني و سُلطة المعتقد الشعبي و موقف الدولة الرسمي..
إنها أيضاً سلسلة من القماشات واللوحات الصباغية الجديرة بالقراءة والتلقي والفهم الصحيح لمعانيها الظاهرة والضامرة التي تختزل في وحدتها وتكاملها ضرورة الخطاب والحديث حول المرأة والأنوثة.. وقد سبق للفنان بوزيان أن قدَّم هذه التجربة ضمن معرضه الفردي «الجسد المُلَغَّز» Corps énigme المنظم سنة 2014 برواق MINE d’Artفي مدينة الدار البيضاء.
و الواقع أن اهتمام الفنان بوزيان بهذه التيمة الأثيرة و تناولها إبداعيّاً ليأتي في سياق الاحتفاء الرمزي بالمرأة ( الأم، الزوجة، الجدَّة..) و لفت الانتباه للأدوار المتنوِّعة التي تقوم بها داخل المجتمع، بالمدن كما بالقرى و المداشر و الأرياف، و قد أبرز في هذه التجربة إشعاع المرأة و تفوُّقها و عطاءاتها المثمرة في مجالات شتّى، مثلما دافع عنها معبِّراً عن أوضاعها و حالاتها الاجتماعية. فضلاً عن ذلك، « تحكي بعض لوحاته عن قصص نساء تائهات و أخريات قويَّات جعلن من العقبات حوافز و من الفشل سبيلاً مَلَكِيّاً Voie royaleللتغلب على صعاب الحياة «، كما يقول.
و قد واصل الفنان بوزيان هذا الاشتغال ببحث صباغي جديد وعميق يمتد للوحاته السابقة، و يلحظ المتلقي نوعه نحو الإيجاز و الاختزال من خلال الاختفاء الكلي لأطياف الجسد و أعضائه البارزة عبر الحجب و المحو و وضع اللون فوق اللون، حيث حلت محلها تسريحات لونية عريضة في شكل كتل واسعة تحتل مساحة السند و مصحوبة بحواشٍ لونية مندمجة وإحاطة «مُسَطَّرة» تبدو في شكل تراكيب Compositionsهندسية مفعمة بتكثيف الصباغة وتعضيد المواد التلوينية القائمة بالأساس على صبغة الأكريليك التي لازمت إبداعه طويلاً..
داخل هذا التراكيب و البناءات الصارمة، أمسى اللون يشكل مركز اهتمام الفنان ورهانه الإستتيقي بما يخلفه من رجَّات وتحوُّلات بصرية فوق القماش ناتجة عن زمنية التشكيل التي تستغرق لديه وقتاً طويلاً بغرض الحصول على القيم اللونية المبحوث عنها، وفي عمقها يتعايش السواد و الرمدة مع حُمرة قانية في مقابل بياض نوراني مشتعل بجانب زرقة هادئة ترمز إلى السمو والتعالي..إلى غير ذلك من التطبيقات القزحية المتباينة التي تنفذ نحو الجوهر والباطن قبل الظاهر باعتبار أن «الألوان هي القوة الوحيدة التي يمكنها التأثير مباشرة على الرُّوح»، بتعبير الرسام الروسي فاسيللي كاندانسكي W. Kandinsky…
هكذا، وبصيغ لونية تجريدية حداثية تحمل أكثر من معنى، صار الجسد في اللوحات الرَّاهنة عند الفنان بوزيان لا مرئيّاً ومنصهراً وسط أصباغ سميكة تكسوها أحياناً نتوءات وتضاريس خفيفة Faiblesreliefs ناتجة عن استعمال كمياتلونية مقدرة وشرائح عجينية تقبل التراكم والتكثيف..
هي، بلا شك، عودة إبداعية قوية لتيمة الجسد بمنظور صباغي مختلف يستمد مسوغاته وخصائصه التعبيرية من الحداثة الفنية التي قادها الفنانون الرواد وعمَّقها ما تلاهم من فناني السبعينات والثمانينات في التشكيل المغربي بحيوية إبداعية مؤسسة على خبرة فنية وافية والفنان محمد بوزيان يُعتبر أحد أبناء الجيل الثمانيني الخلاَّق الذي أغنى الساحة الإبداعية في المغرب بكثير من العطاء كما تشهد على ذلك المعارض النوعية والأنشطة الفنية الوازنة والمؤثرة على المستويين البيداغوجي والإبداعي..
الفنان التشكيلي محمد بوزيان أجساد في اللوحة
الكاتب : ابراهيم الحَيْسن
بتاريخ : 30/06/2020