يرى المفكر السوري برهان غليون، رئيس المجلس الوطني السوري السابق، أن تغير أيديولوجية قيادة الثورة في سوريا لم يُغيّر من طبيعة الثورة والدوافع التي دفعت الشعب إلى الانتفاض على النظام وتقديم أعظم التضحيات.
وقال غليون إن التنظيمات الإسلامية مثل داعش صادرت الثورة وكفاح وتضحيات الشعب، وأصبحت من حلفاء نظام الأسد في قهر الشعب وإذلاله وشل إرادته.
– كنت قد كتبت عن ثقافة الإقصاء في المجتمعات العربية وعن أن الأنظمة ترى أن الشعوب «زائدة عن اللزوم». هل صارت هذه النظرة إلى الشعب تجمع بين السلطات وبين معارضيها؟
– لا طبعاً. أخطاء المعارضة هي عرض لسياسات النظام، ولا يمكن وضعهما على المستوى ذاته وفي ذات السياق. المعارضة ورثت ثقافة فرضها النظام الاستبدادي والفاسد خلال نصف قرن، وسوّقها في مدارسه ومؤسساته جميعاً، وبشكل خاص من خلال تحطيمه أي شكل من أشكال التواصل أو التعاون أو التضامن بين الأفراد، من أجل تحويلهم من ناس بشر إلى آلات وأدوات تحركهم آلة قمعه المخابراتية كما تحرك الدمى في مسرح كراكوز، لكن في جو البؤس والقنوط والألم، لا في مناخ الهزل والضحك.
الصفات السلبية التي وسمت المعارضات السورية، كما هو الحال بالنسبة لكل المعارضات الخارجة من عصور الرعب والإرهاب، هي صفات موروثة عن نظام العبودية وثقافته وقيمه وسلوك محكوميه. ويمكن أن تتغيّر مع تغيّر النظام السياسي، لكن العداء للشعوب وتحقيرها وتجهيلها ونزع الإنسانية عنها هو مقوم النظام وقاعدة عمله وإعادة إنتاجه والعقيدة اللازمة لتبرير وحشيته وإمعانه في القتل والترويع والإرهاب من دون تساؤل أو حساب، وهذا هو أساس الشر، وهو مما لا يمكن إصلاحه.
بالإضافة إلى أنه ما كان من الممكن للمعارضة أن تصمد في مواجهة نظام القهر خلال عقود طويلة لو لم تمتلك، إلى جانب ما ورثته من ثقافة العبودية، قيماً سامية تدفعها للتضحية والفداء. وقد كان كثير من المعارضين الذين قضوا عشرات السنين في السجون فدائيين بالمعنى الحرفي للكلمة، وشهداء أحياء، في نظام حكم على شعبه بأكمله بالإعدام مع وقف التنفيذ، أكثر مما كانوا معارضين بالمعنى السياسي البسيط المتعارف عليه. ولا ينبغي لنا أن نتجاهل ذلك ونساوي بين المجرم والضحية لتوارد بعض السمات أو الأخطاء والانحرافات.
– لطالما ناديت بتحقيق الديمقراطية لا العلمانية في الدول العربية على أساس أن الديمقراطية هي النظام المحايد الذي يحول دون اضطهاد السلطة لجماعات دينية. الآن اختلفت موازين القوى، وصار البعض يخاف من الديمقراطية لأنها برأيه قد توصل متطرفين دينياً إلى الحكم يقمعون كل من يخالفهم الرأي. ما الحل؟
– ما ذكرته في أكثر من نص مكتوب هو أن الديمقراطية تتضمن العلمانية، بمعنى حياد الدولة الديني والأيديولوجي، لكن العلمانية لا تتضمن الديمقراطية، ولا حياد الدولة، حتماً، لأنها من الممكن أن تفرض أو تستخدم من قبل سلطة استبدادية وديكتاتورية، حتى لو لم تكن غطاء للطائفية. في نظري، لن توصل الديمقراطية متدينين إلى الحكم إذا كان تديّنهم يعني إعادة تأهيل نظام الاستبداد والعبودية الفكرية والسياسية والدينية.
لم يقدم الشعب السوري نصف مليون شهيد، عدا ملايين الجرحى والمشردين واللاجئين، والعنف الذي وقع على أطفال ونساء وشيوخ مسالمين، مما لم يسبق له مثيل في التاريخ، من أجل أن ينتخبوا مستبداً جديداً يريد أن يفرض عليهم رأيه وخياراته السياسية، متديناً كان أم غير متدين أو معادياً للدين.
وأي أحمق يفكر في العودة إلى نظام العبودية سوف يلقى الجزاء الذي يستحقه بأسرع مما يعتقد. فلن يفرط السوريون بالتضحيات التي بذلوها من أجل الحرية، ولن يتخلوا عنها لأحد أو في سبيل أي فرد.
لن تخرج سوريا من النزاع والحرب والعنف والاقتتال ما لم تنجح في بناء نظام جديد يستجيب للتطلعات والأهداف السامية التي دفعتهم للثورة والقبول بمثل هذه التضحيات. والذين يخشون الديمقراطية هم أولئك الذين يرفضون الاعتراف بحقيقة ثورة الكرامة والحرية وأهدافها ويصرون على اعتبارها ثورة السنة ضد العلويين أو الإسلاميين ضد العلمانيين أو الريفيين ضد المدنيين أو الفقراء ضد الأغنياء.
قد يخالط ثورة السوريين قليل من هذا وذاك من دون شك، لكن جوهرها والجامع لأطرافها هو النزوع الجارف إلى الحرية والجوع إلى الكرامة التي تعني أيضاً المساواة في الاعتبار والحق والإنسانية مقابل سياسات القهر والتمييز والاحتقار والإذلال. مَن لا يريد أن يرى ذلك ينكر على السوريين إنسانيتهم، ويخفي من دون أن يدري نزعة عنصرية لا تختلف عن تلك التي تغذّى منها نظام الأسد خلال عقود وبرر بسببها القتل الجماعي وتدمير الشعب والبلاد وتسليمها للاحتلال الأجنبي.