حقق الخضر نتائج هامة وغير مسبوقة خلال الدور الثاني من الانتخابات المحلية أول أمس الأحد، حيث تمكن من الفوز بالعديد من المدن الكبيرة والمتوسطة، جعلت منه الفائز الأكبر خلال هذه الاستحقاقات. وساهم الخضر أيضا في تشكيل تحالف يساري في العديد المدن، ملحقا هزيمة قاسية بمرشحي الحزب الرئاسي الجمهورية إلى الأمام، ومشكلا اختراقا كبيرا في العديد من معاقل اليمين منها من ظلت منيعة عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وفي وقت أثارت نسبة المشاركة الضعيفة قلق الطبقة السياسية الفرنسية، إلا أن الخضر نجحوا في حشد أنصارهم الذين صوتوا لمرشحيه ولحلفائهم في الحزب الاشتراكي واليسار عموما، مما اعتبر مؤشرا على تحول كبير في المشهد السياسي سيؤثر بدون شك على الاستحقاقات الانتخابية المقبلة وعلى رأسها الانتخابات الرئاسية لسنة 2022 ، معيدا الأمل إلى اليسار في هزيمة إيمانويل ماكرون، ومن تسوق نفسها كبديل وحيد له، زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبين، فكيف تمكن الخضر من إحداث هذا الزلزال الانتخابي، وما هي أسباب هذا التحول السريع وهل ستتمكن التحالفات التي نسجها من عودة اليسار لتكون له الكلمة الفصل في رسم مستقبل فرنسا؟
مشاركة ضعيفة تدق ناقوس الخطر
تميزت الانتخابات المحلية التي شهدتها فرنسا أول أمس بعزوف غير مسبوق، حيث بالكاد تجاوز عدد الناخبين نسبة 40%، وفيما اعتبر عدد من المراقبين هذه النسبة ناقوس خطر يهدد الديمقراطية في أهم قلاعها، اعتبر آخرون أنها كانت متوقعة، بسبب الظروف الحالية المتعلقة بانتشار فيروس كورونا، الذي فرض اتخاذ إجراءات غير مسبوقة لحماية الناخبين، من بينها عدم السماح بالدخول لأكثر من ثلاثة ناخبين لمراكز الاقتراع، وإجبارية وضع الكمامة … إلخ مما لم يشجع العديد من الناخبين على المشاركة، كما أن إجراء الدور الثاني من هذه الانتخابات بعد حوالي ثلاثة أشهر ونصف من أجراء الدور الأول، واقتصار الحملة الانتخابية على وسائل الإعلام ووسائط الاتصال، عوض الحملة المباشرة، كل ذلك قلل من الاهتمام بها في أوساط الناخبين.
وقد أكدت مختلف الأحزاب السياسية أن نسبة المشاركة الضعيفة في هذه الانتخابات أمر مثير للقلق، وهو ما يضع أمامها تحديا كبيرا في المستقبل، يتمثل في استعادة ثقة المواطن في السياسة بشكل عام، وفي الاقتراع كأسلوب ديمقراطي للتغيير.
موجة خضراء تعيد رسم المشهد الساسي
حقق الخضر فوزا تاريخيا في أهم المدن الفرنسية خلال الدورة الثانية من هذه الانتخابات المحلية، فإلى حدود هذه الانتخابات كان الخضر يسيرون مدينة واحدة مهمة هي غرونوبل، ويتواجدون في مدن أخرى في إطار تحالف مع اليسار وخصوصا الاشتراكيين أو كمعارضة، غير أن التحولات التي شهدتها فرنسا في الأشهر الأخيرة، والنتائج التي حققوها خلال الانتخابات الأوروبية قبل سنة، مكنتهم من يصبحوا القوة اليسارية الأولى في البلاد، وقوة سياسية مهمة يحسب لها ألف حساب على بعد أقل من سنتين من الانتخابات الرئاسية.
وبالعودة إلى النتائج التي حققها الخضر في عدد من المدن المهمة في البلاد، يتوضح الاختراق الكبير الذي حققوه في معاقل ظلت منيعة لسنوات.
ففي ليون فاز المرشح الأخضر «غريغوري دوسي» بعمودية المدينة بأزيد من 52% من الأصوات متقدما على «يان كوشيرات» المدعوم من طرف العمدة السابق «جيرارد كولومب» واليمين الجمهوري الذين شكلوا تحالفا لمنع فوز الخضر المدعومين من طرف الاشتراكيين والشيوعيين وفرنسا المتمردة. واعتبر المراقبون فوز المرشح الأخضر اختراقا تاريخيا في هذه المدينة الذي ظل جيرارد كولومب على رأسها لمدة تقارب العشرين سنة، ومعلوم أن كولومب كان من أبرز الوجوه داخل الحزب الاشتراكي قبل أن يغير موقعه ويلتحق بالحزب الجديد الذي أسسه الرئيس إيمانويل ماكرون، الجمهورية إلى الأمام، ويتم تعيينه وزيرا للداخلية.
نتيجة أخرى لا تقل أهمية حققها الخضر وهذه المرة في مدينة بوردو، وذلك بعد فوز المرشح الأخضر «بييرهورميك» بعمودية المدينة بنسبة تفوق 46% واضعا حدا بذلك لهيمينة اليمين الجمهوري على المدينة، استمرت 73 سنة، وهو ما اعتبره مختلف المراقبين زلزال سياسي عصف باليمين في واحدة من معاقله التاريخية.
وفي مرسيليا التي شهدت تنافسا انتخابيا شرسا استطاع التحالف الذي قادته المرشحة الخضراء «ميشيل روبيرولا» أن يحتل المرتبة الأولى متقدما على مرشحة اليمين «مارتين فاسال»، وهي نتيجة ملفتة للخضر ولليسار بشكل عام في مدينة ظلت بدورها لسنوات من أهم معاقل اليمين، وتسعى المرشحة الخضراء لتأكيد فوزها عبر عقد تحالفات تمكنها من الفوز بعمودية المدينة حيث أنها لم تحصل على الأغلبية المطلقة من المقاعد، وفي انتظار ذلك، أشرت نتائج الانتخابات بثاني أكبر مدينة في فرنسا على تحول كبير في الخريطة السياسية، ومؤشرا على عودة اليسار بقوة إلى المشهد السياسي إذا ما تمكن من الحفاظ على وحدته في مواجهة باقي التشكيلات السياسية.
ومن النتائج اللافتة أيضا التي حققها الخضر، فوزهم في مدينة ستراسبورغ التي لا تقل أهمية عن غيرها، فهي ثامن أكبر مدينة كما أنها تضم العديد من المؤسسات التابعة للاتحاد الأوروبي، منها البرلمان الأوروبي، المجلس الأوروبي والمحكمة الأوروبية…ألخ، وقد تمكنت المرشحة الخضراء «جان بارسيغيان» من الفوز بنسبة 41.70% متقدمة على مرشح حزب الرئيس ماكرون، «آلان فونتانيل» المدعوم من طرف اليمين الجمهوري.
وحقق الخضر أيضا نتائج مهمة ولافتة حيث تمكن من الفوز بمدن أخرى تعتبر من المدن الهامة في فرنسا، مثل تور، بواتيي، بيزانسون، كولومب، آنيسي، كما حافظوا على مدينة غرونوبل التي فازوا بها في انتخابات 2014 .
واعتبرت النتائج التي حققها الخضر في هذه الانتخابات، أبرز ما ميزها وهو ما دفع مختلف المحللين وكتاب الرأي إلى الحديث عن « موجة خضراء» و» اختراق تاريخي» حققه أنصار البيئة، مكنهم من التموقع كأكبر قوة يسارية في البلاد، ويجعل منهم قوة قادرة على تجميع اليسار والتقدم كبديل حقيقي وممكن خلال الاستحقاقات المقبلة وعلى رأسها الانتخابات الرئاسية لسنة 2022 ، كما شكل هذا الفوز أيضا موضع نقاش عميق مازال مستمرا في مختلف وسائل الإعلام، وذلك حول أسبابه ونتائجه المرتقبة.
لقد ظل الخضر وعلى امتداد سنوات طويلة حزبا صغيرا، يغرد لوحده، حاملا ومتحملا الهموم المرتبطة بقضايا البيئة، في وقت كانت القضايا الاجتماعية، ومنذ الحرب العالمية الثانية، هي القضايا الرئيسية التي تحظى باهتمام الناخب، ويحسب للخضر أنهم رغم تموقعهم المتأخر في مختلف الاستحقاقات الانتخابية التي شهدتها فرنسا، إلا أنهم حافظوا على كيانهم السياسي المستقل، وعلى خطابهم وبرنامجهم المتميز، وعلى توجهاتهم اليسارية التي كانت تحكم مختلف تحالفاتهم وخصوصا مع الحزب الاشتراكي، لكن التحولات التي شهدتها فرنسا والعالم، والاهتمام المتزايد بأهمية قضايا البيئة، والتحديات الإيكولوجية التي أصبحت تهدد مصير كوكب الأرض، جعلت الوعي بأهمية الحفاظ على البيئة، يتزايد لدى العديد من الأوساط، بل والاقتناع بأن وجهة نظر الخضر، المتعلقة باقتصاد أخضر يحفظ الحياة على الأرض ويخلق المزيد من الثروات ومناصب الشغل، كبديل لاقتصاد ليبرالي متوحش يدمر الحياة على الكوكب ويهدر ما تحفل به من ثروات ويعلق مصير الأجيال المقبلة، هي وجهة نظر صائبة بل والسبيل الوحيد لمواجهة المخاطر التي تهدد مستقبل الكائن البشري.
وكان من أهم المؤشرات على هذا التحول المسيرات الكبرى التي شهدتها فرنسا، على غرار العديد من البلدان والمصنعة منها على الخصوص، وذلك عشية الانتخابات الأوروبية التي جرت في 26 ماي 2019، وقد مكن هذا الزخم حزب الخضر من تحقيق نتيجة مفاجئة آنذاك لم تتوقعها مختلف استطلاعات الرأي، حيث حل ثالثا بنسبة أصوات تزيد عن 13% متقدما عن اليمين الجمهوري والحزب الاشتراكي ويسار ميلونشون.
ويتفق أغلب المحللين أن تسابق مختلف الأحزاب السياسية في فرنسا، إلى تبني قضايا البيئة، على الأقل في خطابها، دليل على إدراكهم بأن جزءا هاما من الكتلة الناخبة في فرنسا، أصبحت تحدد اختياراتها بناء على الجانب البيئي في برامج المرشحين، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على نجاح الخضر في أن يجعلوا من قضايا البيئة تحظى باهتمام الجميع، ومن بينهم أحزاب كانت إلى وقت قريب تعتبرها ترفا سياسيا يليق بنقاش الصالونات وليس كتوجه سياسي، غير أن الملاحظ أنه رغم تبني مختلف الأحزاب لقضية البيئة، إلا أن الناخب الفرنسي يدرك أن المدافعين الحقيقيين عنها هم حزب الخضر، لأن مشروعهم بل ومشروعية وجودهم السياسي بنيت على هذه القضية، وبالتالي إذا كان الناخب سيختار من بين المرشحين من يدافع عن البيئة، فالمؤكد أنه سيختار النسخة الأصلية وليس التقليد.
وقد تأكد هذا الاختيار بشكل واضح في انتخابات أول أمس، فالملاحظة الجديرة بالتأمل أن مرشحي الخضر فازوا في أغلب المواجهات من أجل منصب العمودية، سواء كانت ثنائية، أو ثلاثية أو حتى رباعية، واستطاعوا التفوق على مختلف المرشحين، سواء أمام مرشحي اليمين الجمهوري أو حزب الرئيس الجمهورية إلى الأمام أو غيرهم، وخسروا مواجهة وحيدة في مدينة ليل حيث فازت الاشتراكية المخضرمة، مارتين أوبري للمرة الرابعة بعمودية المدينة، لكن بفارق جد ضئيل من الأصوات، حوالي 250 صوتا، وهو ما جعل منهم أكبر منتصر خلال الدور الثاني من الانتخابات المحلية.
انتعاش ملحوظ للاشتراكيين واليسار عموما
ساهم الخضر أيضا في فوز العديد من مرشحي اليسار، وتبقى أهم نتيجة في هذا الإطار، فوز الاشتراكية «آن هيدالغو»، للمرة الثانية على التوالي بعمدة العاصمة باريس، متفوقة على مرشحة اليمين الجمهوري، رشيدة داتي، ومرشحة حزب ماكرون، أنييس بوزان، التي لم تستطع الفوز حتى بمقعد لها بمجلس العاصمة.
واعتبرت هذه النتائج انتعاشا كبيرا لليسار الذي جعلت التحولات المتسارعة حزب الخضر هو الذي يقود انتصاراته بعد أن ظل الحزب الاشتراكي لعقود هو القاطرة التي تجره، وتعتبر هذه العودة السريعة لليسار، خصوصا الحزب الاشتراكي الذي عانى من هزات كبيرة خلال السنوات الأخيرة، إعادة رسم المشهد السياسي الفرنسي من جديد، على قاعدة التقاطب بين اليسار واليمين الذي ميز الجمهورية الخامسة وإن اختلفت الصيغة.
لقد أدت الانتخابات الرئاسية الأخيرة، سنة 2017، إلى حدوث انقلاب دراماتيكي بالمشهد السياسي الفرنسي، فلأول مرة في عهد الجمهورية الخامسة، لم يصل الحزبان الكبيران، الاشتراكي والجمهوريين إلى الدور الثاني، الذي شهد صعود إيمانويل ماكرون الذي لم يكن يتوفر آنذاك على حزب سياسي، واليمين المتطرف الذي تقوده مارين لوبين.
وذهب العديد من المحللين آنذاك إلى اعتبار هذه النتائج نهاية للتقاطب السياسي اليساري اليميني، ونهاية للحزبين اللذين هيمنا على الساحة السياسية منذ عقود، وبروز معطيات سياسية جديدة ستعيد رسم المشهد السياسي على قواعد جديدة.
وساهم الرئيس إيمانويل ماكرون بكل تأكيد في ترسيخ هذه الفكرة، حيث بنى مشروعه السياسي الذي جسده في حزب «الجمهورية إلى الأمام»، واستقطاب قيادات وقواعد كانت تنتمي للحزب الاشتراكي وحزب الجمهوريين، على زوال الفوارق بين اليمين واليسار، وزوال الإيديولوجيا بشكل عام، وأن الأساس هو المنهجية، وليس التوجه.
غير أن إخفاق ماكرون، والهزات الكبيرة التي شهدتها فرنسا، وخروج السترات الصفر في مسيرات كبيرة وعلى امتداد أشهر عديدة، وسوء إدارة الحكومة لأزمة كورونا، كل ذلك أكد لشريحة واسعة من الناخبين أن الأساس هو مضمون البرنامج والتوجه السياسي وليس المنهجية، وهو ما مكن اليسار واليمين الجمهوري أيضا من إعادة لم صفوفهما بعد الهزيمة القاسية التي تجرعاها في الانتخابات الرئاسية والأوروبية، مما يعتبر مؤشرا على عودة التقاطب بينهما، وعودة اليسار ليشكل بديلا ممكنا لخيار ماكرون- لوبين خلال الانتخابات القادمة.
هل سيتمكن اليسار من استثمار هذه النتائج لصالحه؟
إن أهم ما يمكن استنتاجه من نتائج انتخابات أول أمس هو عودة الأمل إلى صفوف اليسار، الذي تنتظره استحقاقات هامة على رأسها الانتخابات الرئاسية، والتساؤل القائم والذي سيبقى قائما خلال الأشهر هو مدى قدرة اليسار على استثمار هذه النتائج لإزاحة ماكرون من الرئاسة، وهزيمة المشروع اليميني المتطرف الذي يأمل في أن يكون البديل الوحيد الممكن للماكرونية.
وإن كان من المبكر رسم توقعات لما ستؤول إليه الأمور بعد سنتين، إلا أن هناك معطيات عديدة ستحكم عليها.
لقد استطاع الخضر في العديد من المدن رسم تحالفات يسارية نجحت في اختراق معاقل ظلت منيعة عليه لعدة سنوات وعقود، ولعل تبوأه الصدارة كأكبر قوة يسارية سواء في الانتخابات الأوروبية أو المحلية، تجعل منه مؤهلا أكثر من غيره لقيادة تحالف يساري واسع لهزيمة ماكرون ولوبين معا، لكن ذلك سيتوقف بكل تأكيد على العديد من العوامل. فقد رفع الخضر شعار مضمونه أن الثورة الإيكولوجية لن ننتظرها بل سنقوم بها، والآن وبعد أن تمكن من الفوز بعمودية العديد من المدن الهامة، سيكون أمامه سنتين للتأكيد على مدى جديته في تحقيق هذه الثورة، وإن نجح في ذلك فسيكسب أصواتا مهمة، خصوصا أنه سيكون متوفرا على سلاح هام في الانتخابات الرئاسية، فعمداء المدن والمنتخبون يلعبون دورا كبيرا في حشد الناخبين، وهو ما كان يفتقده في السنوات الماضية، كما أن الحفاظ على التحالفات الحالية وقيادة اليسار في المعارك القادمة، ليس بالأمر الهين، فاحتمال مساندة «جان لوك ميلونشون» لمرشح واحد عن اليسار في الدور الأول مستبعد، ونفس الشيء يسري على بعض التشكيلات اليسارية الأخرى، ليبقى الحزب الاشتراكي هو الأقرب إلى الخضر في هذا التوجه، حيث كان من الملفت تصريح زعيمه «أوليفيي فور»، أمس الاثنين، حين أكد استعداده للوقوف خلف مرشح يجسد التوجه الاجتماعي الإيكولوجي، وهو ما يفتح الباب أمام إمكانية التقدم بمرشح واحد بين الاشتراكيين والخضر في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية القادمة، خصوصا أن التحالف بين الطرفين ليس جديدا، فقد ساند الخضر الاشتراكيين في العديد من المحطات الانتخابية، وشاركوا في حكومات قادها الاشتراكيون، وسيناريو كهذا سيقوي أمل اليسار في العودة إلى تصدر المشهد السياسي من جديد وفتح صفحة أخرى من التاريخ.