حــوارات فكرية طيب تيزينـي: لم أتخلَّ عن ماركس الإيديولوجي

بطاقة:
يعتبر الدكتور طيب تيزيني، واحداً من المفكرين العرب الذين حاولوا المقاربة بين «الفكر الاشتراكي العلمي»- بحسب تعبيرات تلك المرحلة- وبين التراث الفكري العربي. وكان كتاب “من التراث الى الثورة” الذي كرسه كاسم كبير في الساحة الفكرية العربية، وصارت له شعبية طيبة في أوساط الفكر التقدمي الذي ثمّن عالياً مشروعه المسمى منذ البداية “مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بواكيره حتى المرحلة المعاصرة”.

 

ثمة أسئلة كبرى تطرح على النخب الثقافية العربية التي كانت تقف، في بعض نماذجها القوية، على محك التنافر القطري، غير قادرة على رسم طريق التكامل الثقافي الغربي. غير أن أطروحات كثيرة أنجزها مثقفون ومفكرون عرب ما زالت حتى الآن تطفو على السطح، لراهنيتها وقوة مضامينها، ذلك أن البلاد العربية ما زالت مستهدفة أكثر من أي وقت آخر، زمانيا ومكانيا، مع العلم بأن تلك النخبة تعلم يقينا أن الأحداث التاريخية العربية زاخرة بالصراعات، التى ما زالت تتكرر بصورة طبق الأصل فى تاريخنا الحديث- بغض النظر عن تلك المرحلة التي كان العرب يتبؤون فيها عالميا الهرم السياسي والحضاري.
في ما يلي حوارات فكرية مع بعض أعلام الثقافة والفكر في الوطن العربي.

 

p قبل أكثر من ثلاثين سنة بدأت تصدر تلك النصوص الواعدة التي كان أبرزها يحمل اسماً ذا دلالة: «مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط». كلمة مشروع كانت حبلى بالاحتمالات، تعد بالانتقال من التاريخ الى المستقبل، لكن هذا كله يبدو اليوم اوهاماً. كنا نلوم انفسنا إزاء أي نكوص عن مجاراة العقلانية والتقدم. اليوم لا يبدو ان ثمة مكاناً لهما في حياتنا. فلماذا، وكيف تشخص الوضع العربي في ضوء مشروعك الطموح؟ وهل لا تزال ترى هذا المشروع قائماً، شاخصاً الى المستقبل؟
n هذا السؤال يبادر بأن يوجه الحوار والقضية التي نتحدث عنها صوب المسألة الأكثر حضوراً في عالمنا العربي كما في حياتنا الشخصية. سؤال يريد ان يعرف اين صرنا وكيف ولماذا. وأنا أعيش وسط هذا النوع من الأسئلة، لكنني أحاول دائماً أن أعيد النظر في مساري نفسه، شخصياً وفكرياً وسياسياً ووجوداً عاماً… وألهث وراء هذا الهدف. ربما لا أصل دائماً الى نتائج مهمة مناسبة تعجبني وترضيني، ومع هذا استطيع القول انني وضعت يدي على البدايات الأولى التي تلائم ملاحقة ما يحدث، بالتالي تمكنني من إعادة بناء شخصي فكرياً وسياسياً في صورة محددة. وكل هذا في استجابة واضحة لاحتياجات التغيير الهائل الذي يعيشه عالمنا.
من هنا أقول: لمّا كانت الأحداث الكبيرة ما زالت قائمة، وربما ستظل لفترة طويلة أخرى، طالما أنها لم تفضِ بعد لا إلى نهاياتها السعيدة ولا إلى نهاياتها التعيسة… فالحدث ينمو أكثر وأكثر، ما يعني أن من غير الممكن، بعد، الحديث النهائي حول مسألة ينظر إليها باعتبارها ناجزة وهي لم تنجز بعد.
وجواباً عن السؤال، سأقول بعض الصيغ التي أراها أولية واحتمالية. وأبدأ من ملاحظة تتعلق بعنوان أول كتاب لي، في المشروع الذي تتحدث عنه. كان العنوان «من التراث الى الثورة»، وهو صدر في 1976. والذي أراه اليوم أن أحداث العالم العربي وتطوراته تضطرني وبإلحاح الى ان أبدأ النظر الى الكتاب وعنوانه تخصيصاً. تساءلت: هل ما زال هذا العنوان صالحاً بعدما تفككت افكار كثيرة وتفكك الاتحاد السوفياتي، والأفكار التي كانت مهيمنة في ذلك الحين على فكر تقدمي مهيمن في الساحة العربية؟ بعد رصد ما حدث والتطورات المتلاحقة وضعت يدي على مسألة اظن الآن انها كانت، بالنسبة اليّ، مدخلاً لاكتشاف ما عليّ ان انجزه مجدداً: فكلمة «الثورة» الواردة في العنوان لم تعد ذات وجود، بصرف النظر عن التسويفات التي يمكن ان تقدم. لغة العصر لم تعد تتسع لهذه الكلمة. ومن هنا رحت افكر في كتابي، من ثم انطلقت من الواقع الى الكتاب ثم من الكتاب الى الواقع… وفهمت ان مشروع الثورة ذاته بات يعيش اختناقاً قاتلاً. من هنا، ومن خلال قراءاتي الدؤوبة في الفكرين العربي والأوروبي، ادركت ما يخيّل إليّ انه البديل المناسب لمفهوم الثورة ومشروعها، وهو مفهوم النهضة ومشروعها.

p وداعاً للصراع الطبقي..لكنهما كانا موجودين منذ اواسط القرن التاسع عشر…
صحيح… لكننا كنا ساهين عنهما. ما أن توصلتُ الى هذه الفكرة حتى تعاظمت في حياتي الفكرية والسياسية لأدرك ان اهم عنصر من عناصر مشروع الثورة والنهضة (وأعني هنا الثورة الحقيقية) انما يتمثل في فهم كينونة الحامل الاجتماعي لأية ثورة او نهضة. وهكذا فكرت ملياً في الامر حتى توصلت الى ان الحامل الاجتماعي لأي تحرك في المجتمع العربي هو المجتمع ذاته… المجتمع كله. بدلاً منه، كنا في الماضي نعتبر الحامل الاجتماعي حاملاً طبقياً ونتحدث عن الصراع الطبقي والاشكالية الطبقية، هذا ليس وارداً الآن. حامل المشروع الجديد، النهضوي، لا يمكن الآن إلا ان يكون تحالفاً طبقياً او سياسياً يضم كل فئات المجتمع. العالم اختلف كثيراً، منذ تفكك الاتحاد السوفياتي وبروز عالم جديد تقوده الولايات المتحدة وحدها. وتبين لي من موقع علم الاجتماع السياسي ان الحامل الحقيقي الاجتماعي لمشروع نهضوي ما يتمثل في الأمة كلها من أقصاها الى اقصاها. وبتحديد ايديولوجي اكثر، وجدت ان الحامل الاجتماعي لأي مشروع مستقبلي يتمثل في مروحة تنطلق من أقصى اليمين القومي الديموقراطي الى اقصى اليسار الوطني. أخذت ألاحق هذه المسألة السوسيولوجية الثقافية والسياسية ليتبين لي ان حديثنا عن «المشروع الثوري»، ليس مضللاً فقط، بل هو خطير ايضاً، وهكذا انتقلت الى الموقف الجديد، وفكرت في ان اعيد النظر في مشروعي النظري القديم… وأصيغه حتى في عنوان جديد، معيداً بناء ما يتعين عليَّ بناءه… ثم تركته جانباً، لأصيغ بدلاً منه مشروعاً آخر تماماً، عنوانه «من التراث الى النهضة».

p أفهم من هذا انك أبدلت ماركس وأنغلز وأدبيات الثورة الروسية التي انفقت سنوات طويلة من عمرك تدعو اليها وتدافع عنها، بأفكار الطهطاوي ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا ؟…
n لا… ابداً. انا لم اتخلَّ عن افكار ماركس وأنغلز، بل على عكس كثيرين لم انكر حتى ايديولوجية ماركس. كل ما في الأمر انني حاولت ان اوضح لنفسي المفاهيم التي كانت ملتبسة طوال عقود من السنين. لم اتخلَّ عن ماركس الايديولوجي، بل أعدت تعريف ايديولوجيته، فقلت ان همّها هو تفسير المعارف وتأويلها بمفترض المصالح. من هنا أقول ان تفسيري لماركس لم ولن يتغير. الذي حدث هو ان هذه الايديولوجيا اخترِقت على مدى الزمن بمواقف خشبية ومتشنجة، تمكنت من ان تطيح كل فهم علمي لها، مطيحة في الوقت ذاته الوجه المعرفي لماركس. اليوم اذ تجب استعادة ماركس، لا تجب من خارجه بل من داخله، من داخل احتياجات الزمن الراهن. انا تركت الأيديولوجيات التي برزت بمسميات وأقنعة ماركسية، فكنا نحن ضحاياها، وكان ماركس نفسه ضحية لها ايضاً.

p لنقل ان هذا شكّل لديك انقلاباً فكرياً ايجابياً، فكيف يمكننا ان نطبقه على التاريخ الراهن للأفكار العربية؟ النهضة التي تتحدث عنها هل تتمظهر مثلاً في فكر قومي عربي يخص الأمة كلها، ومن شأنه ان يوصلنا الى نوع من الفاشية التي تقدّس الجموع؟
n ظاهرياً يبدو الأمر كذلك. كان هناك مشروع قومي عربي حدثت فيه اختراقات كثيرة وخطيرة من هذا النوع، لعل اولها غياب الديموقراطية، وغياب السياسة وغياب الحراك الاجتماعي السياسي. ابتلع المشروع القومي كل هذا، ما جعله أشبه بأن يكون مشروعاً شبه فاشي.


الكاتب : حاوره: ابراهيم العريس

  

بتاريخ : 01/07/2020