ثمة أسئلة كبرى تطرح على النخب الثقافية العربية التي كانت تقف، في بعض نماذجها القوية، على محك التنافر القطري، غير قادرة على رسم طريق التكامل الثقافي الغربي. غير أن أطروحات كثيرة أنجزها مثقفون ومفكرون عرب ما زالت حتى الآن تطفو على السطح، لراهنيتها وقوة مضامينها، ذلك أن البلاد العربية ما زالت مستهدفة أكثر من أي وقت آخر، زمانيا ومكانيا، مع العلم بأن تلك النخبة تعلم يقينا أن الأحداث التاريخية العربية زاخرة بالصراعات، التى ما زالت تتكرر بصورة طبق الأصل فى تاريخنا الحديث- بغض النظر عن تلك المرحلة التي كان العرب يتبؤون فيها عالميا الهرم السياسي والحضاري.
في ما يلي حوارات فكرية مع بعض أعلام الثقافة والفكر في الوطن العربي.
– ماذا تعني بعبارة «شبه فاشي»؟
– أعني انه يقترب كثيراً من الفاشية، ولكن لا يمكنه ان يكون فاشياً خالصاً لأن عندنا كوابح كثيرة عادة ما تنطلق من صفوف الناس الذين لا يمكنهم ان يكونوا فاشيين.
– كالإيمان الديني مثلاً والذي له جانب انساني عميق يتناقض مع الفاشية… أو، مثلاً كون الدين ذا جانب عقلاني معتدل والفاشية في حاجة الى غياب العقل؟
– ليس تماماً، بل ربما افضّل ان يبقى الكلام محصوراً في الدائرة العقلانية – العلمانية. وفي هذا السياق، اضيف انه بدأ يتضح لي شيئاً فشيئاً ان المشاريع الدينية المتعددة ممكنة، انطلاقاً من أن النص الديني قابل لقراءات متعددة تنطلق من قناتين، أولاهما المستوى المعرفي للقارئ، والثانية المستوى الايديولوجي المرتبط بالمصلحة. كل هذه القراءات مشروعة، لكنها لا تمتلك كلها الصدقية المعرفية. هذه الصدقية تمتلكها القراءة التي يمكن ان تنطلق من منظومة المفاهيم الحداثوية العقلانية والديموقراطية. وهي يمكن ان تكون دينية، وهذا أمر وصل اليه بعض اصحاب الفكر الديني، لكنهم لم يدخلوا في ايجاد البديل.
– مشروع الثورة مشروع شعبي في نهاية الأمر، اما مشروع النهضة فمشروع نخبوي او هو كذلك على الاقل في تمظهره. فهل ما تتحدث عنه هو عودة الى نوع من الخروج بين النهضة والفكر الشعبي، الرغبات النخبوية الثقافية والجماهير الشعبية…؟
– أرى دائماً ان المشروع الثوري نفسه لا يمكنه في بداياته الا ان يكون نخبوياً…
-… كان انقلابياً في بلادنا.
– هذا، بالتحديد، ما أردت قوله. المشروع الثوري كانت تحمله نخبة تفكر وتستنبط وتكتشف وتعمم نيابة عن الناس. مهما يكن، الفكر الثوري لا يمكنه ان يكون عفوياً، هو يحتاج كي يصاغ الى انتاج معرفي لا يمكن ان ينتجه غير اهل النخبة من المثقفين. صحيح ان هناك ما يأتي عفوياً، لكنه نادراً ما يتطور وينمو ويدوم…
– أعتقد ان في امكاننا بعد رسم هذه الخلفية ان ننتقل الى غايتنا الأساسية، وهي تشخيص الوضع الراهن…
– أود قبل هذا ان أوضح فكرة أساسية: هذا المشروع الذي كان يقترب من الفاشية لم يصبح فاشياً منذ البداية. صار فاشياً لاحقاً… حين نشأ على أنقاضه مشروع الدولة الأمنية. الآن، وفي معظم أرجاء العالم العربي نعيش في ظل دول أمنية، ولا أقول حزبية. هذا المشروع «الأمني» بدأ مع مشروع الوحدة بين مصر وسورية. فالشرط الأول للانضمام الى الوحدة في ذلك الحين كان إلغاء الأحزاب، بالتالي إلغاء الحياة السياسية. ومن هنا ألغي العنصر الذي كان عليه، ان يحمي مشروع الوحدة. في ذلك الوقت اذاً، راحت إرهاصات الدولة الأمنية تعلن عن نفسها ووجودها. واليوم ها نحن أولاً، نعيش في قلب المرحلة الأمنية بامتياز، بخاصة مع استشراء الهيمنة الأميركية التي تجد نفسها أمام تفتت هي قادرة على ان تفتته اكثر وأكثر.
-هل يعني هذا، بالنسبة اليك نوعاً من اعادة الاعتبار الى مراحل ديموقراطية سبقت الانقلابات العسكرية التي جاءت بالمشاريع الأمنية؟
– اعتقد بأن تلك المراحل لم تستكمل، بل اخترِقت في عز تناميها. وأنا اعتقد ان مشروع الوحدة مثّل الاختراق الأفدح لأنه قام على هاتين الفعلتين (إلغاء الأحزاب، وإقامة الدولة الأمنية). المشروع برمته مثّل انقلاباً في مصر كما في سورية، ما عنى انه كان حتمياً سحق الحياة الديموقراطية الليبرالية ولو في حدودها الدنيا. وها نحن اليوم ندفع ثمن كل هذا غالياً.
– هل ترى أن المثقفين لعبوا في هذا كله دوراً سلبياً، هم الذين سموا الانقلابات في الخمسينات ثورات، وأحنوا رؤوسهم امام كاريزما الزعامة وشعارات النهوض القومي اللفظية؟ هل ترى انهم خانوا مهماتهم العقلانية ودجنوا وهادنوا…؟
– لا ارى انهم فعلوا هذا كله عن قصد ووعي. اعتقد بأنهم أُخِذوا على حين غرة بكل ما كان يحدث، فوضعوا وحدتهم الثقافية ومشاريع نهوضهم على الرف، أو رأوها مجسدة في الزعيم. في سورية مثلاً ظهرت تجربة ليبرالية ما، في اعقاب الاستقلال، لكنها لم تكتمل. جاءت الانقلابات العسكرية المتلاحقة لتنهي مشروع التجربة الليبرالية. بيد ان الأخطر كان ما حدث في النهاية: فشلت التجربة الوحدوية مع مصر، ثم صار لدينا حكم الحزب الواحد تحت شعار الشرعية الثورية. ان هذه التجربة في سورية، كما في غيرها من الدول العربية «التقدمية» اتت مماثلة للتجربة السوفياتية، من ناحية هيمنة الحزب القائد والاقتصاد المخطط وما الى ذلك. في مواجهة هذا لا اعتقد بأن المثقفين خافوا. كل ما في الأمر انهم، ولظروف متنوعة، لم يكونوا قادرين على إدراك ما يخبئه لهم المستقبل. معظمهم استبشر بالوحدة. قلة تنبهت الى الأخطار. وهم جميعاً وقفوا عاجزين في وجه المد الشعبي المرحّب ودفعوا الثمن. بعد ذلك، مباشرة، قام النظام الأمني، وتبلورت الآلية العظمى لنظام عربي أمني كان شعاره ان يفسد أكبر عدد ممكن من الناس.
ما نشأ لم يكن دولة بوليسية بل دولة أمنية. الدولة البوليسية تقمع وتلاحق، اما الدولة الأمنية فتستوعب وتفسد المجتمع بأسره. الدولة الأمنية في معظم أرجاء عالمنا العربي صادرت السياسة والديموقراطية، وابتلعت كل القوى التي كانت تتطلع الى بناء الأوطان.