حــوارات فكرية هشام جعيط: الأهم اليوم هو إعطاء الفرصة لجيل جديد من السياسيين 2

ثمة أسئلة كبرى تطرح على النخب الثقافية العربية التي كانت تقف، في بعض نماذجها القوية، على محك التنافر القطري، غير قادرة على رسم طريق التكامل الثقافي الغربي. غير أن أطروحات كثيرة أنجزها مثقفون ومفكرون عرب ما زالت حتى الآن تطفو على السطح، لراهنيتها وقوة مضامينها، ذلك أن البلاد العربية ما زالت مستهدفة أكثر من أي وقت آخر، زمانيا ومكانيا، مع العلم بأن تلك النخبة تعلم يقينا أن الأحداث التاريخية العربية زاخرة بالصراعات، التى ما زالت تتكرر بصورة طبق الأصل فى تاريخنا الحديث- بغض النظر عن تلك المرحلة التي كان العرب يتبؤون فيها عالميا الهرم السياسي والحضاري.
في ما يلي حوارات فكرية مع بعض أعلام الثقافة والفكر في الوطن العربي.

 

– هل تعتبر أن نقص فهم التاريخ العربي الإسلامي من ببين أسباب الخلافات السياسية والأيديولوجية المستفحلة بين العلمانيين الحداثيين والمنتسبين إلى تيار الهوية من بين الإسلاميين والقوميين؟
– أعتقد أن من أراد أن يفهم المتغيرات في تونس والمجتمعات العربية والإسلامية يحتاج أولا إلى دراسة معمقة للدين الاسلامي والسيرة النبوية وظروف نشأة النبي محمد وأصحابه وبدايات بروز هذا الدين الذي وصفه الفيلسوف الالماني هيغل بكونه كان «ثورة حقيقية».
وقد كشفت دراساتي للسيرة النبوية وللجزيرة العربية واليمن قبل ظهور الإسلام ثم في العصر الإسلامي الأول أن تاريخ العرب ارتبط بمحطات كبيرة بينها «الثورة الأولى» التي برزت مع التغيير الكبير الذي قاده النبي محمد في الجزيرة العربية عندما نجح في توحيد العرب.
ثم جاءت «الثورة الإسلامية الكبرى» التي أسفرت عن تأسيس الدولة العباسية بروافدها القومية والدينية والإسلامية المتعددة، فزاد تأثير التشريعات العربية والفارسية والصينية والهندية وفلسفة اليونان وعلوم حضارات مختلفة وثقافاتها شرقا وغربا.
لقد توصلت إلى استنتاجات علمية في دراساتي وبعد تحقيقي للمصادر فنقدت كثيرا من المستشرقين الاوربيين مما تسبب في محاصرة كتبي في عدد من دول العالم رغم ترجمتها الى عدة لغات من بينها الانقليزية والفرنسية.
-لكن كثيرين في تونس وفي الدول العربية مازالوا يتمسكون بمواقف بعض زعماء الدولة الحديثة مثل الحبيب بورقيبة ووجهة نظره عن الدولة الوطن / أو الدولة الامة التونسية؟
– الدولة الوطنية واقع في تونس وفي أغلب الدول العربية رغم الصعوبات التي تمر بها. ولديها مؤشرات كبيرة للديمومة والنجاح في بلدان مثل تونس والمغرب وليبيا ومصر… رغم خصوصيات كل تجربة ورغم انتماء الشعوب ثقافيا إلى فضاءات أرحب مثل المنطقة العربية والعالم الاسلامي.
صحيح أن بورقيبة ورفاقه لعبوا دورا في بناء الدولة الوطنية الحديثة في تونس وحاولوا أن يعطيها هوية خاصة من بينها الاعتزاز برصيد دولة قرطاج وتبني بعض السياسات المعارضة للدين ولإقحامه في الشأن العام وفي السياسة ، وكانوا متأثرين بالمدرسة اللائكية الفرنسية و التي تختلف عن المدارس الديمقراطية العلمانية البريطانية والالمانية مثلا .
لكن غالبية التونسيين من بين المتدينين المعتدلين والمعارضين للغلو والارهاب والجماعات الدينية. وفي تونس بورجوازية وسطى محافظة دينيا تنتسب في نفس الوقت إلى الدولة الوطنية رغم انتسابها ثقافيا ودينيا إلى الأمة الإسلامية وإلى المنطقة العربية.
وفي مصر وليبيا والعراق وسوريا وعدد من الدول العربية تبنى السياسيون مقولات الزعماء والمثقفين العرب مثل جمال عبد الناصر والزعماء البعثيين حول الوحدة العربية، لكن الحصيلة كانت تكريس واقع الدولة الوطنية وخصوصيات كل دولة عربية .
– يمر العالم منذ نحو عشرين عاما بمرحلة حروب وصراعات استفحل فيها تأثير التيارات العنصرية والمعادية للعرب وللإسلام والمهاجرين من جهة والتيارات المتطرفة المعارضة للغرب بكل مكوناته داخل البلدان العربية والإسلامية. كيف تفهمون هذه الظاهرة؟ وهل لها علاقة بما يسمى بالدراسات التبسيطية والسطحية للإسلام والتاريخ العربي الإسلامي الصادرة عن عدد من المستشرقين؟
– أغلب الحروب التي اندلعت في المنطقة منذ أكثر من قرن وخلال العقود والأعوام الماضية، وقع توظيف الإسلام لتبريرها، من دون أن يعني ذلك أنها حروب دينية أو لها صلة بالدين.
الإسلام هنا، لا يقع التعامل معه باعتباره عقيدة بل كثقافة ومرجعية وأيديولوجيا بل كشعار يرفع ضد المستعمر أو العدو.
شعارات الحركات والتنظيمات الإسلامية والعروبية اليوم إيديولوجية تشكّك في طبيعة العلاقة مع الغرب والبلدان الأوروبية التي استعمرت الدول العربية والإسلامية خلال القرنين الماضيين. ويعتبر كثير من زعماء هذه الحركات وأنصارها أنفسهم أعداءً للاستعمار القديم والجديد وللغرب الإمبريالي.
لكن أدبيات زعماء هذه الحركات ليست مبنية على دراسة معمقة للنصوص والمرجعيات لكنها مفعمة بالسياسة، يختلط فيها الحلم بالتاريخ لأسباب سياسية.
بالنسبة للمستشرقين الكلاسيكيين فإن أغلبهم لم يؤلف كتبًا قيمة وجديرة بالاهتمام عن السيرة النبوية والتاريخ والتراث العربي الاسلامي. ومعظم مؤلّفاتهم لا تعتمد المناهج العلمية، بل تستغل رغبة الآخر في الاطلاع على الدين الإسلامي والثقافة العربية الإسلامية، ثم يقدمون له مؤلّفات تهتم بالحديث عن الدين أكثر من علم الأديان وتاريخ القرآن والسيرة النبوية. وهم مشغولون كثيرًا بكلّ ما يتعلّق بالسياسة الآنية وبالحركات الإسلامية المعاصرة.
وباستثناء تور أندريه Tor Andrae الذي اهتمّ بنقاط التلاقي بين الإسلام والمسيحية ومونتغمري وات Montgomery Watt ومارتن لينغز Martin Lings – فإن أغلب بقية المؤلّفات تفتقر إلى الدقّة والموضوعية والعمق العلمي، وتبدو محكومة بمخاوف سياسية لبعض ساسة الدول الغربية ومصالحهم ورغباتهم. وبعض تلك الإصدارات يتضمن إسقاطات وكتب بمنهجية استعلاء.
وللأسف فإن المستقبل ليس بالضرورة لصالح العمق والموضوعية وأتوقع أن يتراجع دور الفكر والمفكرين في العالم كله مقابل تزايد الاهتمام بعلوم التكنولوجيات الحديثة وعصر الآلة والامبريالية الاقتصادية وسلطة وسائل الاعلام الحديثة .
– أستاذ هشام جعيط لقد عرفت عن قرب أغلب مؤسسي الدولة الحديثة والمجتمع المدني وقيادات الأحزاب بينهم الباجي قائد السبسي، فكيف تنظر إلى تونس اليوم في ظل معارك «كسر العظام» التي تشهدها بين رأسي السلطة التنفيذية من جهة وبين القيادات الحزبية والنقابية من جهة أخرى؟
– لا أريد الخوض في الشؤون السياسية مباشرة، وأفضل إكمال دراساتي عن تاريخ الأديان وعن التراث والحضارة. وأعتقد أن مسار الإصلاحات الديمقراطية والسياسية يتعثر وأن المرحلة الجديدة تستوجب قرارات جريئة من قبل كل الأطراف، من بينها إعلان الرئيس الباجي قائد السبسي أنه لن يترشح لدورة رئاسية جديدة، وسوف يقدر الجميع دوره الإيجابي في قصرقرطاج خاصة ما بين 2015 و2017.
وقد عرفت الباجي قائد السبسي أواسط السبعينات من القرن الماضي عندما كان يسعى مع الوزير سابقا أحمد المستيري ونخبة من السياسيين المنشقين أو المطرودين من الحكومة والحزب الحاكم بزعامة بورقيبة إلى تأسيس حركة «الديمقراطيين الإشتراكيين» المعارضة.
وكان وقتها كتابي «الشخصية العربية الإسلامية ومستقبل العالم الاسلامي» نزل إلى السوق فقال لي قائد السبسي وقتها: «لقد أعددنا وثائق التوجهات السياسية الاقتصادية لمشروع الحزب الجديد ونعتبر كتابك مرجعيتنا الثقافية والفكرية».

والأهم اليوم التفكير في المستقبل وإعطاء الفرصة لجيل جديد من السياسيين ليعالج الملفات التنموية الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة.


الكاتب : حاوره: كمال بن يونس

  

بتاريخ : 04/07/2020