بورتريه: موديستو سان خيل، آخر الشعراء الكناريين في كوبا

 

صادف يوم 24 ماي 2020 الذكرى الثانية لوفاة آخر شعراء جزر الكناري المقيمين في كوبا وهو موديستو سان خيل إنريكيث. وقد وافت المنية هذا الشاعر الكناري عن سن ناهز 96 عاماً في مدينة سييغو دي آبيلا الكوبية التي أقام فيها وفي نواحيها منذ العام 1928. وقد هاجر موديستو إلى كوبا وعمره لم يتجاوز حينئذٍ ست سنوات، حين عبَرَ، رفقة أُمِّه وشقيقته، المحيطَ الأطلسي من الأرخبيل الكناري نحو بلاد الشاعر الكبير خوسيه مارتي، وذلك من أجل الالتحاق بوالده الذي كان يعمل هناك، على غرار العديد من سكان جزر الكناري. وهي الهجرة التي لطالما شكّلت جزءاً من مصائر الكناريين حتى أصبح عبور المحيط الأطلسي عندهم أمراً مألوفاً وعاديّاً إلى درجة أن أحدهم إذا أراد أن يسأل الآخر متى سيقطع المحيط ليسافر إلى الضفة الأخرى يقول له «متى ستقفز فوق البِرْكة؟» كما لو أنّ المحيط الأطلسي مجرّد بركة يقفزون فوقها من إحدى جُزرهم السبعة نحو أمريكا الواسعة.

 

أول الشعراء في كوبا كان كناريّاً أيضاً!

كان موديستو سان خيل، قُبيل وفاته، يُعَدُّ آخر الشعراء الكناريين الأحياء في دولة كوبا، هذه الجزيرة التي استقبلت هجرةً مكثّفة للإسبان عامة والكناريين خاصة منذ اكتشاف العالم الجديد (الأمريكيتين) وبداية احتلال بلدانه من طرف التاج القشتالي إلى غاية القرن العشرين. ومن المعروف أن كريستوف كولومبوس كان ينطلق في رحلاته الاستكشافية الأولى نحو القارة الأمريكية من جزر الكناري. وتروج عند سكان هذا الأرخبيل الأطلسي مقولة تُعلِّلُ موجات هجراتهم هذه لاسيما خلال القرنين الماضيين مفادها أن نصف الكناريين كان يهاجر إلى كوبا حتى لا يموت النصف الآخر المقيمُ في جزر الكناري من الجوع.
وقد جعلت الهجرة الكوبيين مدينين للكناريين ليس باليد العاملة فقط بل بالعديد من الشعراء والأدباء أيضاً؛ حتى إنّ أول شاعر في تاريخ كوبا هو مهاجر من جزر الكناري، ويُدعى سلفستري بالبوا الذي وُلد ونشأ في لاس بالماس بجزيرة كناريا الكبرى وإليه يُنسب أول نص في الأدب الكوبي ويحمل عنوان (مِرْآةُ الصَّبْر) وهو ديوان شعري وحيد كتبه هذا الشاعر الكناري في سنة 1608 برغم أن مخطوطه لم يُكتشف إلا في عام 1836. وبين أول الشعراء سلفستري بالبوا وبين موديستو سان خيل آخر الشعراء، قائمة طويلة جدّاً من الشعراء الكناريين الذين ساقتهم الأقدار إلى كوبا على مدى أربعة قرون من الهجرة حتى صار جمعٌ كبير منهم يُمثِّلون جزءاً لا يتجزّأ من تاريخ الأدب الكوبي الكناري المشترك. لكن الملاحظ أن بوصلة مركب الهجرة قد انقلبت إلى الاتجاه المعاكس في أواخر القرن العشرين بعد اندماج إسبانيا في الاتحاد الأوروبي وصعود جزر الكناري كوجهة سياحية عالمية رائدة وما ترتّب عن ذلك من رغد العيش. وكما هاجر الكناريون في السابق إلى كوبا، أمسى الكوبيون هم من يهاجر إلى جزر الكناري، لكن الشاعر موديستو سان خيل كان استثناءً وقرّر البقاء حتى داهمه الموت هناك ليكون بذلك آخر الشعراء الكناريين في الديار الكوبية.
من جزيرة إلى أخرى
وُلد موديستو سان خيل، من أبوين كناريين، في مدينة بِيّا دي ماسو بجزيرة لابالما، وهي واحدة من جزر الكناري السبع، يوم 16 يونيو 1922. وبعد ست سنوات هجر موطنه ليلتحق بوالده الذي كان يعمل في جزيرة كوبا على الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي. استقروا أول الأمر في ضيعة تُسمّى خاراويكا بإقليم سانكتي سبيريتو، وسط البلاد، حيث كانت تقطن أغلبية من المهاجرين الكناريين وهنالك تحوّل إلى بدويٍّ وفلاح ومروِّض خيول، كما كان يقول عن نفسه. كانت طفولته سعيدة وكان تلميذاً نجيباً منذ صغره فدرس في أعرق المؤسسات التعليمية وأحسنها، ومنها مدرسة سان كارلوس بالعاصمة الكوبية هافانا حيث تخصّص في اللغتين اللاتينية واليونانية ودرس الفلسفة حتى تمّت إجازته فيها عام 1941.
افتتح موديستو سان خيل حياته المهنية بتدريس اللغة اللاتينية والنحو للأطفال والبالغين. تعلّم بعد ذلك حرفة إدارة محطات السكك الحديدية وكان خلال أوقات فراغه يقوم بتسيير فرقة مسرحية أسّسها بنفسه. وبدأ العمل رسمياً في السكك الحديدية عام 1942 وهي الوظيفة التي زاولها بمختلف المناطق الكوبية إلى أن حصل على التقاعد سنة 1983. بعد تقاعده أسّس الورشة الأدبية لبلدية تشامباس، التي استقرّ فيها مع أسرته، وهنالك تفرّغ للكتابة والإبداع لأزيد من ثلاثة عقود استطاع خلالها أن يتبوّأ مكانة مرموقة في المشهد الأدبي والثقافي بدولة كوبا. ورغم أنه تغرّب في هذه الجزيرة الكاريبية وهجر جزيرته الأطلسية منذ حداثة سنه إلا أنه ظلّ محافظاً على هويته الكنارية، فهو كما يصف نفسه في إحدى قصائده: [أنا ابنُ أُمَّيْنِ اثنَتَيْنِ/ أنا جزِيرِيٌّ مِنْ جَزِيرَتَيْنِ]. والملاحظ في هذا السياق أنّ هناك تفضيلاً واضحاً من طرف المهاجرين الكناريين لوجهة جزيريّة أخرى هي كوبا دون سائر بلدان أمريكا اللاتينية رغم شساعة هذه القارة الناطقة بلسان سرفانتيس. ربّما لأن الإنسان الجزيريَّ يبقى جزيريّاً طوال حياته، حتى لو قادته الأقدار إلى الهجرة من جزيرته الأولى فإن وجهته غالباً تكون إلى جزيرة أخرى كما هو الحال بالنسبة لعائلة الشاعر موديستو سان خيل.
مهاجر وشاعر وثائر
أصدر الشاعر سان خيل، قيد حياته، عشرة دواوين من أشهرها: (نَهْرٌ وأَلْفا وأُومِيغا، 1994) وهو نص مُطوَّل من 360 بيتاً شعريّاً ومُقسَّمٌ إلى خمسة أناشيد حيث يُعيد الشاعر صهر تجربته في الحياة؛ (مَرثِيَّةُ المُنْعَزِل، 1996) وهو كتاب نشرته الحكومة الكنارية ضمن سلسلة أدباء الشتات وحاز موديستو بفضله جائزة بيريث غالدوس للشعر؛ (النبيُّ والغِرْبان، 2000)؛ (أشعارٌ حافية، 2001)؛ (مَزمُورٌ بِلا وِجْهَة، 2002) و(صخرٌ مِنْ ذهب، 2010). وله العديد من القصائد المبثوثة في الجرائد والمجلات وكتب المختارات الشعرية في كوبا والمكسيك والولايات المتحدة الأمريكية وجزر الكناري.
وحصل موديستو على العديد من الأوسمة نظير نشاطه الثقافي والجوائز الأدبية التي توّجت نتاجه الشعري في أكثر من ست مناسبات كان أبرزها حصوله عام 1995 على جائزة بينيتو بيريث غالدوس للشعر التي تمنحها الجمعية الكنارية في كوبا. ولم تجد كل أشعاره، التي راكمها في صمت طوال سنوات، طريقها إلى النشر، لاسيما أن جزءاً منها ضاع في حريق تعرّض له منزل عائلته سنة 1958 أثناء اندلاع الثورة الكوبية. الغريبُ في الأمر أن من تسبّب في هذا الحريق هي كتيبة من كتائب الحركة التي كان الشاعر موديستو سان خيل أحد أعضائها، وهي حركة 26 يوليوز التي قادت الثورة الكوبية بزعامة فيدل كاسترو حتى أسقطت نظام رئيس الدولة الدكتاتور باتيستا. لكن الحادث المذكور لم يمنع الشاعر من الاستمرار في صفوف الحركة وبقي وفيّاً لها إلى أن تمّ حلُّها بعد انتصار الثورة.

الحنين إلى جزر الكناري
برغم اندماج الشاعر في المجتمع الكوبي وانخراطه في مختلف مجالات الحياة بهذا البلد إلا أن الحنين إلى مسقط رأسه وموطنه الكناري ظلّ يُراوده طيلة حياته. وهذا ما يظهر جليّاً من خلال قصائده التي تتخلّلها الإشارات المتكرِّرة إلى جزر الكناري عموماً وإلى جزيرة لابالما على وجه الخصوص، هناك حيثُ وُلد وعاش سنواته الأولى. كما أنّ أشعاره لا تخلو من الذكريات المستمدّة من ذاكرة العائلة ومن ذاكرة الطفولة. ومن علامات الحنين الظاهرة في شعره استحضاره لرموز البيئة المُميِّزة لموطنه الأصلي من قبيل: شجرة الدراغو الكنارية المُعمِّرة العجيبة أو نباتي الخَلَنْجِ والزّانِ الكناريين؛ جبل التايدي وهو أعلى قمة في جزر الكناري بل وفي إسبانيا كلِّها؛ الغوانش وهو اسم أجداده الكناريين الأمازيغ.
وعلى سبيل المثال، نسوق بعض الأبيات التي نستقيها من إحدى أشهر قصائده التي يدلّ عنوانُها على موضوعها «ذاكرةُ المُهاجِر» وهي من ديوانه (مَرثِيَّةُ المُنْعَزِل). في هذا النص الزاخر بكثافة الإيحاءات والإحالات يستدعي الشاعر سان خيل موطنه الكناري في نبرة تنمُّ عن آلام الاجتثاث من الجذور وتكشف عما تُخلِّفه هجرة الأوطان من الجراح في الوجدان فيقول في مطلع القصيدة: [يَجْرَحُني هذا الشّؤْمُ/ شُؤْمُ كَوْنِي مُنتَزَعاً مِنْ جُذورِي،/ ويُؤلِمُنِي هذا الجُرْحُ الأبَدِيُّ/ جُرْحُ غِيابِ شَجَرَتِي، شَجَرَةِ الدراغو…]. إنها معاناة شاعر في المهجر وليس الشاعر كغيره من الناس في الإحساس، إنه يرى في الهجرة التي اقتلعته من جذوره شؤماً يجرحه جرحاً مؤلماً ومستديماً ويُغيِّب عنه شجرته الكنارية (الدراغو) التي يحنُّ إليها وما حنينه إليها إلا جزء من حنين أكبر هو الحنين إلى موطنه، إنها الشجرة التي تُخفي غابة من الحنين. ولأنه في الإحساس ليس كغيره من الناس فهو يستخرج من عمق معاناته ما يُخفِّف عنه آلامه؛ وسبيله إلى ذلك ذاكرتُه، ذاكرة الشاعر، ذاكرة المهاجر.
يقول موديستو في تتمة قصيدته: [كَمْ مَرّةً أَتِيهُ فيكِ/ يا أهواءَ جَبَلِي السّاحِرَة، يا أهواءَ جبلِ التايدي/ فأعضُّ في لحظاتٍ غوانشيّةٍ/ قِطَعاً مِنْ ذاكِرَتِي/ بِابتِسامةٍ وهميّةٍ/ مِنْ حلاوَةِ ذِكْراكِ…]. يستحضر الشاعر ها هنا رمزاً آخر من رموز طبيعة مسقط رأسه وهو جبل التايدي، أعلى قمم جزر الكناري ويقع في جزيرة تينيريفي، في سياق خيالي تقوده إليه ذاكرته فتجعله يتيه في أهوائه وأجوائه الساحرة التي لو لم تكن كذلك لما حملته إلى وطنه الأم، لكن ليس على بساط سحري من ريح بل على قطع من ذاكرته يعضُّها في «لحظات غوانشية»، كأنه بصدد طقس من طقوس أجداده الغوانش الذين كانوا يقدّسون الجبال الشاهقة وكان التايدي أقدسها عندهم. ويُؤتي الطقس السحري مفعوله فينقلب الجرح ابتسامة، وإن كانت من صميم الوهم، فهي تُحوِّل الألم إلى حلاوة يجدها في ذكريات أهواء موطنه الأول.
ويختم الشاعر هذا النص بالرجوع إلى واقعه المحتوم لكن بنبرة مختلفة هذه المرة، كما لو أنه أخذ القوة من التايدي، ليخاطب جُزره الكنارية من مهجره الكوبي، غير أنه اختار مكاناً ذا رمزية يليق بالمخاطَب ولم يجد من أجل ذلك سوى جبل توركينو، أعلى قمة جبلية في كوبا، كأنه يبحث عن شبيهٍ لجبله (التايدي) في جزيرته الثانية لعلّه يشفي بعضاً من جراحه وحنينه ومن هنالك يرسل رسالته المُحمَّلة بالأشواق: [مِنْ سَماءِ جَبَلِ توركينو/ تُعانقكِ أشواقي:/ يا جُزُرَ الكنارِي،/ لا أَمَلَ في أنْ أعودَ القهقرى./ لا لومَ لِي عَلَى قَدَرِي/ إنْ أتيتُ مِنْ بلادِ الخَلَنْجِ والزّانِ،/ فلي جَزِيرَتانِ اثنتانِ،/ ورُوحي اسمرّتْ مِنَ السُّكَّرِ،/ لكنني جئتُ من لابالما/ وأنا أحملُ نبيذَ أجدادِي.]. هكذا يستخلص الشاعر دواءه من دائه وبلسمه من جراحه وأمله من ألمه، فإن لم يكن له أملٌ في العودة إلى وطن أجداده فهو يرضى بقدره ويستعين عليه بنبيذ أجداده، نبيذٌ رمزيٌّ يُحيل على الدماء التي تجري في عروقه. والمغزى من مقابلة نباتي الخلنج والزان الكناريين (كناية عن أصله) والسُّكَّر (كناية عما تُنتجه الأرض الكوبية من قصب السكر) أن الشاعر حتى وإن كانت دماؤه كنارية فإن روحه أصبحت كوبية بعد أن تشرّبت صفات أهالي مهجره (السُّمرة مثلا) فأمسى يملك بدل الجزيرة جزيرتين اثنتين.

* باحث في الأدب
الإسباني – الكناري


الكاتب : بقلم: علي بونوا *

  

بتاريخ : 06/07/2020