ليس هذا الكتاب (الصحوة: النفوذ اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية) مجرد سيرة ذاتية ساحرة لشخص مثير للجدل جداً، بل هو كتاب يتجرأ على مواجهة أكثر القضايا تحدياً في العصر الحديث بأمانة فائقة.
ليس كتاب ديفيد ديوك (الصحوة) لضعاف القلوب، أو لأولئك المعتدّين بنظم معتقداتهم، بل لأولئك الذين لا يخشون من أن تحفزهم الحقائق والأفكار التي ربما تضع المعتقدات الراسخة موضع تساؤل. إنه كتاب ثوري تطوري ربما (يهز الحضارة من الأعماق) كما يقول غليد ويتني (Glade Whitney) العالم البارز في علم الوراثة السلوكي. يكرس ديفيد ديوك معظم كتابه لوجهة نظره في الأعراق وتضميناتها المجتمعية والتطورية، ولكنه حكاية مثيرة لرجل عرف بوصفه صورة كاريكاتورية رسمتها له وسائل الإعلام المعادية.
فوز مرشحنا دون شك.
واتبعنا السياسة التي كانت تصب في صالح مرشحنا، وهذا كان يعني ذبح 70000 إنسان . فقد كانت المطالبة بالديمقراطية في ما يلبي حاجتنا فقط “.
كما يذكر جلبير الأشقر كيف أن أمريكا وضعت اسم سوريا في لائحة الدول الداعمة للإرهاب، وأن الإدارة الأمريكية زمن الرئيس كلنتون عرضت رفع اسمها في أواسط التسعينات بغية الدفع نحو تسوية سياسية في المنطقة، لكن حين رفضت التنازل عن بعض أراضيها في الجولان، أعادت الإدارة الأمريكية اسمها لتلك القائمة. وفي هذا ما يستدل على السلوك الأمريكي غير السوي في قضية الدمقرطة .
في الفصل الثالث يحاول المتحاوران فهم مصادر السياسية الأمريكية نحو المنطقة العربية، ويتفقان على أن اللوبي الصهيوني هو من أهم مصادر تلك السياسية، لكن هنا ينتقد تشومسكي الاستسلام العربي لهذا الشعار. حيث يعتبر الاعتقاد بأن الولايات المتحدة مقادة بالكامل من قبل اللوبي الصهيوني جزء من التوهم الذي يحاول ذلك اللوبي رسمه، حيث أن المصالح الاقتصادية العربية في أمريكا، حسب تشومسكي، قادرة إن تقننت في تكوين لوبي منافس للوبي الإسرائيلي . ثم يخوض الكاتبان في بحر الأجواء الثقافية الأمريكية، وكيف أن التهديد بتهمة المعاداة للسامية تلاحق كل من ينادي بتوجهات فكرية مناقضة لدعوات هذا اللوبي، حيث يغرق الجو الثقافي الأمريكي بالدعوات لمناهضة المعاداة للسامية . رغم الندرة البالغة لتلك الظاهرة من عقود . فيذكر تشومسكي العدد الهائل من الدعوات التي يتلقاها كل شهر للحديث عن معاداة السامية في المجتمع الأمريكي. حيث يقول بلذة في احدى الفقرات : ” في إحدى المرات التي دعيت للحديث عن ظاهرة معاداة السامية أمام طلاب احدى الجامعات، في ذلك اللقاء ألقيت على الطلبة مجموعة من المقالات والكتابات الصحفية التي كتبت في الولايات المتحدة، والتي كانت تتناول اليهود بالنقد والشتم والقدح، فكانت ردت فعلهم بالغة السخط على تلك الكتابات . إلى أن أخبرتهم في آخر المحاضرة أني بدلت كل كلمة “إسلام” في تلك الكتابات بكلمة ” يهودية” وسألتهم : أيهما أكبر في أمريكا معاداة السامية أم معاداة الإسلام …. الخ .
في الفصل اللاحق يناقش الطرفان الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في المنطقة، تحت يافطات حقوق الإنسان أو محاربة الإرهاب أو البحث أن أسلحة الدمار الشامل، ويفندان تلك الدعوات الأمريكية، ويثبتان المنطلقات الإستراتيجية الأمريكية الاقتصادية الكامنة وراء تلك الحروب . مع إثبات عدم صدقية الولايات المتحدة في نشر الديمقراطية من وراء تلك الحروب. حيث تسعى في أفضل الأحوال إلى تحويل تلك الدول المحتلة إلى توابع سياسية. وبحثا في أسباب إطالة بريمر الانتخابات التي كان يطالب بها المرجع الشيعي السيستاني منذ بداية الاحتلال، وكيف أن الولايات المتحدة كانت تتحكم بالمعادلة السياسية العراقية من خلال حلفائها من التحالف الكردستاني والقوى التي قويت بالوجود الأمريكي. فالولايات في أفضل الاحتمالات تريد العراق وأفغانستان على شاكلة الدول الأوربية الشرقية والاتحاد السوفيتي, حيث كان الرئيس السوفيتي ليونيد بريجنف يقول في نهاية الستينات عقب غزو تشيكوسلوفاكيا : “إن الدول الأوربية الشرقية حرة في خياراتها فقط فيما لا يتناقض مع المصالح السوفيتية” !!
في الفصل الأخير يتحدث الطرفان عن عملية السلام في الشرق الأوسط، وعن غياب الإرادة العالمية ” الأمريكية” في صنع السلام في المنطقة، فالرغبة هي باتجاه عملية سلام وليس السلام بحد ذاته، حيث أن عملية السلام تكون لينة في التصعيد والتهدئة حسب مستلزمات الدول المركزية منه. فالسلام يتطلب من الدولة المعتدية “إسرائيل” تقديم تنازلات مؤلمة، مؤلمة من وجهة نظرها لكنها محقة بمنظار العدالة، وفي هذا إزعاج لقوى مهمة في المجتمع السياسي الأمريكي، وهو ما لا يشجع أية أدارة للخوض فيها . وهنا يبدو الطرفان متشائمان بمستقبل السلام بالشرق الأوسط. لكن يبدو تشومسكي أقل تشاؤما من أشقر، حيث يرفض هذا الأخير أية تسوية لا يُوافق عليه من قبل جميع الفلسطينيين، الموجودين بالداخل والخارج. حيث يعتبر تشومسكي ذلك وصفة لحرب مدتها عشرات السنين بين الطرفين، لكن الأشقر يعتبر أن أي حل بغير استفتاء جميع الفلسطينيين عليه سيكون اتفاقا غير ديمقراطي. ليعود الطرفان للاتفاق على أن إسرائيل فقدت فرصتها الوحيدة في الحياة كدولة عادية حينما لم تستثمر اتفاقية أوسلو بطريقة سليمة .
في كل فقرات الحوار الشيق الذي يغطي كتاب “السلطان الخطير” يتفق الباحثان على خطورة الولايات المتحدة على السلام والتنمية الإنسانية في منطقة الشرق الأوسط. وأهم منابع خطورتها هو عدم اقتران قوتها البالغة بأية كوابح “أخلاقية بالمعنى الكانتي الفلسفي”. حيث يعبران من خلال مثال العلاقة الأمريكية التركية على مدى البراغماتية الأمريكية في التعامل مع حقوق الشعوب في الشرق الأوسط . فقد كانت تركيا في مجال استيراد الأسلحة الأمريكية تعد في المرتبة الثالثة بعد مصر وإسرائيل حتى 1999، حيث كان معدل القمع للانتفاضة الكردية هناك ما برح يتحول إلى حدا كبير في التسعينات، منذ أن بدأت عام 1984 ففي عام 1997 كانت ذروة الفظائع في حرق القرى الكردية وقد كانت المعونة الأمريكية لتركيا قد ساوت كل المعاونة من عام 1950 إلى عام 1983 ووصلت المعونة الأمريكية لتركيا لحدود الـ 80 من مجموع الأسلحة التركية. بعد ذلك بسنوات جاء الرئيس الأمريكي السابق كلنتون للبرلمان التركي، ومن ذلك المنبر طالب بالحقوق الثقافية للأكراد في تركيا ” !!

