ديوان «طعمُ الْغابةِ في الْحلْقِ» للشاعر فتح الله بوعزة فتنة الرؤيا وكيمياء الشعر

 

“الشعر هو معرفة الواقع السري للعالم”أشيمون أونديم (شاعر ألماني)

مثل صوفي يقتنص مجازاته، وصوره الرامزة من فلوات المعاني القصية، لينسج حللا سندسية مطرزة بمعين القصيدة ـ الرؤيا المتمنعة على الكشف والتجلي عبر إشراقات صوفية؛ وكطير مجذوب إلى حضرة القصيدة، وأنوارها الساطعة، يختط من فتوحاته الشعرية رؤى باذخة معنى ومبنى عل المتلقي يستمتع برحيق تلك التجليات الماتعة التي أثمرت إبداع الكثير من القصائد التي صدر بعض منها في ديوانين شعريين، رغم إحجامه الكبير عن نشر إنتاجاته خلال عقدين من الزمن؛ خاصة إذا علمنا أن نصوص باكورته الأولى (قاب كأسين من ريحه) نشرت في الملاحق الثقافية، وعلى صفحات الجرائد الوطنية والعربية منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي رفقة كوكبة من الشعراء الشباب يومئذ، اقتفت آثار رواد القصيدة المغربية، من طينة عبد الله راجع، ومحمد الخمار الكنوني، وأحمد المجاطي، وأحمد بلبداوي، ومحمد بنيس … وقد توجت هذه المسيرة الحافلة بإصدار مجموعتين شعريتين مائزتين، تحمل أولاهما عنوان”قاب كاسين من ريحه”1 (2010)، و “أصابع آدم”2 (2014)؛ ليفرج عن إصدار جديد وسمه ب”طعمُ الْغابةِ في الْحلْقِ “3(2016)؛ وهو عنوان يحبل بدلالات إيحائية وترميزية تنم عن وفاء الشاعر لرهاناته الإبداعية في انتقاء العناوين الدالة على غرار ما نجده في مجموعتيه سالفتي الذكر، بما في ذلك عناوين النصوص التي يتشكل منها متنه الشعري.

تضم المجموعة الثالثة (67) نصا، يحلق عبرها الشاعر منتشيا في سماء القصيد، نحو منبع مشكاة الرجاء واليقين؛ قادما من قلق الشك والريبة، بجناحين هما الريبة واليقين؛ وكأننا بالشاعر يرسم بالكلمات رحلة الذات الشاعرة التي ترزح تحت وقع صمت مريب يبعث على القلق والحيرة والشك والسؤال المؤرق، من جهة، والتوق إلى السكينة والأمل بين أفياء غابة كثيفة يراها الآخرون على رأسه، وإن كان هو لا يراها.
يقول الشاعر فتح الله بوعزة في فاتحة الديوان4 (ص ..) كاشفا عن حيرة الذات وقلقها وانفعالها، واغترابها:
صمتٌ مريبٌ في الْخارجِ:
أحدُهُم يَتربّصُ بي
وأنا أقيّدُ الأحراشَ الْبعيدةَ
بضَفِيرتي الشّهْباءِ!
وبصوت صارخ وصريح، ملؤه الأمل والرجاء في تجاوز الكائن، والحلم بالممكن أو المستحيل، يقول في نص “رجاء”5:
خوْخةٌ واحدةٌ لا تكْفي
أريدُ عَصافيرَ كثيرةً
حوْلَ رأْسي
يا الله!
وبين رحلة الشك والرجاء، تشيد دلالات النصوص، ومعانيها المنفلتة من التحديد في هذا الديوان، اعتمادا على غنج المجاز، وإيحاء العبارة المتسربلة بوهج الاستعارات الملحة، عبر لغة شفافة تنحت دوالها ومدلولاتها الكثيفة، من رحم مدونة معجمية، تمتح من الخطاب الصوفي وإوالياته، على شاكلة العديد من التجارب الشعرية الحداثية المغربية منذ ثمانينات القرن الماضي؛ وهو ما وسم هذه التجربة بالتميز والفرادة، لا على مستوى الدلالات فحسب، بل على مستوى الأشكال والطرائق الشعرية، حيث ينفتح الشاعر على ذخيرة تراثية من التخييل الشعري، حرصا على إشراقات المعنى من سديم الذات الشاعرة الساعية إلى حبك أشرعة الرؤيا العميقة المنزاحة عن سطحية المعنى وتقريرية العبارة، من غير هوس حداثي تدميري عقيم، يفرغ النصوص من شعريتها لصالح حداثة شكلية جوفاء باردة تفتقد إلى رونق الشعر ومائه، كما يؤكد على ذلك النقاد القدامى.
يظهر ذلك من ولع الشاعر بنسج أشرعة الشعر عبر بوابة التكثيف الرمزي وإيحائية الصور المحبوكة التي تغدو معها اغلب نصوص ديوانيه صورا مشهدية مركبة، منفتحة على سيرورة تأويلية لا متناهية، ولا يحد من تشظيها سوى حذق ودربة متلق خبير بأقانيم الشعر المخبوءة، وعوالمه الظاهرة والمضمرة، وتخومه القصية؛ منزاحا بذلك عن استراتيجية بلاغة التصوير البلاغي التي كرستها طقوس الشعرية التقليدية المسكونة بهاجس صور جزئية، تتوسل مقاصدها بالتشبيه والاستعارة والمجاز والكناية فقط؛ وتركن إلى الحس والمباشرة في نقل العالم الخارجي بشكل مرآوي. وهي خصيصة جمالية تغمس المتلقي في يم الدهشة من خلال الإبحار في تخوم المعاني وفتنتها.
ولا غرو إذا قيل إنها صور شعرية عصية، متمنعة، غارقة في سديم رموز ملحة، تشكل الأسطورة الشخصية للشاعر، بمفهوم الناقد الفرنسي “شارل مورون”. ووكده في ذلك نحت معاني ودلالات تنفتح على الذات الإنسانية في بعديها الفردي والجماعي؛ سعيا إلى كشف حجب العوالم الخفية التي تحجب جوهر الأشياء وحقيقتها المطلقة، من خلال النفاذ إلى بواطنها بدل الوقوف عند قشور الإدراك الحسي الثابت للمسلمات البدهية التي تفقأ العينين، على حد تعبير الناقد والمنظر الموسوعي رولان بارت على نحو ما تشي به قصيدة “انشطار”6:
تُفَّاحَةُ آدَمَ أَحْلَى، أَمْ تُفَّاحَةُ حَوّاءَ؟
أَيُّهُمَا وَصَلَتْ كَاحِلِي بِالْهَوَاءِ
وبَعْثَرَتِ الرَّمْلَ والشُّرُفَاتِ
وطَعْمَ الْغَابَةِ فِي الْحَلْقِ؟
أَيُّهُمَا شَطَرَتْ رُمْحِيَ نِصْفَيْنِ:
مَجَازٌ يَنَامُ الرَّكْبُ عَلَى حَدِّهِ
وحِذٌاء رِيَاضِيٌّ لِلْمَوْتَى
صَيْفِيٌّ
يُشْبِهُ الجُرْحَ الْمَائِعَ بَعْضَ الشَّيْءِ؟
ولعل ذلك ما يضفي على قصائد الديوان صفة سمات الغموض، والتعقيد، والغرابة.
كما تحتفي الصورة الشعرية، في انبنائها، بالتفاصيل الصغيرة لتشييد الدلالات العميقة التي تهجس بها رؤى الشاعر وتصوراته، على نحو ما نجده كما في نص “حمالة قمح”7 حيث يقول في الومضة أو اللوحة التاسعة منها:
زعيقُ سياراتٍ
كِلابٌ ضالّةٌ
نسوةٌ يلوحنَ بمناديلَ بيضاءَ
رُعاةٌ ينْصِبونَ الْفِخاخَ
للطّير
على مهْلِهمْ
مطرٌ خفيفٌ
حواجزُ أمنيةٌ
ورؤوسٌ تَسعُ المشانقَ كلَّها
بينما يدي الممْدودةُ
في سخاءٍ
يدي الممْدودةُ إلى سريركِ
تتختَّرُ في مجرى الْرياحِ!
أو ما تكشف عنه قصيدة ” حديقة البيت”8:
في النّصفِ الآخرِ
منَ الْحديقةِ
طائرٌ ضجرٌ
يبعْثرُ ريشَهُ في حنقٍ
من قّدمَ لهُ جمجمتي
فارغةً منَ الشّرابِ؟
هكذا يتضح أن الشاعر فتح الله بوعزة يراهن على قصيدة الرؤيا في تشييد معمارية هذا الديوان الجديد، سيرا على منواله السائد والمألوف في ديوانيه السابقين؛ حيث تغدو أشعاره رؤى عميقة لا تقف عند حدود هواجس الأنا الشاعرة، بل تحرص على معانقة المجهول وفتنته، سعيا إلى القبض على جمرة المعنى أو الحقيقة المطلقة التي يحلم بها الشاعر الرؤيوي، من خلال تقطيره للواقع عبر مصفاة الذات المسكونة بهاجس أسئلة الكينونة الحارقة زمن التشظي والمسخ والتلاشي؛ حيث يلحظ المتلقي تبئير القول الشعري اعتمادا على سطوة الأنا الشاعرة من خلال التوظيف المكثف للفعل بصيغة المفرد المتكلم (أحرس/أسترق/لم أكن/أتكاثر/أرى…)؛ أو من خلال الاسم المسند إلى ياء المتكلم (أبي/غرفتي/بابي/ جمجمتي/رأسي/داخلي..).
ومن المقاطع الشعرية التي تزخر بهذا المؤشر النصي الدال على كثافة وهيمنة صوت الشاعر، هذا المقطع من قصيدة “باب الرماية”9:
أحتاجُ إلى سيقانِ قَمحٍ
وقميصٍ أبيض
لِرجلٍ بدينٍ جدّا
أحتاجُ إلى ممثّل يُجيدُ الطّيرانَ
يأخذُ الأرضَ المحْروثةَ منّي
وأطاردُ منطادَهُ الْحربيّ
وقد أضفت هذه المؤشرات النصية التركيبية التواصلية ذات الوظيفة الانفعالية المرجعية بعدا جماليا آخر يتمثل في صبغ النصوص بميسم حكائي سردي يجعلها أقرب إلى ما يسميه “جان إيف ثادييه” 11 ” بالحكي الشعري”، مما يؤكد بشكل جلي انخراط الشاعر فتح الله بوعزة في أفق التجريب الحداثي للقصيدة المغربية التي لا تركن إلى الجاهز، والمألوف، والسائد، من خلال الانفتاح على مختلف الجغرافيات الشعرية المعاصرة، دون انبهار أو تشدق حداثي يطمس معالم الشعر وجمالياته.
من القصائد التي توشحت لبوس الحكاية او السرد، نص “صباح عاد”12:
لم يمتْ أحدٌ هذا اليومَ
الظّلالُ فقطْ
وحدَها الظّلالُ اخْتفتْ
واخْتفتْ عصافيرُ الصّباحِ
والنّسوةُ اللائي جرحْنَ
تفّاحةَ آدمَ
ولم يجدْنَ النّواةَ
وكنّ يبْحثنَ
عن حدائقَ تشْبهُ المهرجانَ
ولم يجدْنَ غيرَ شتاءٍ قديمٍ
ولا غرو إن قلنا إن القصيدة الرؤيا في هذا الديوان، قد حرصت على إحداث إبدالات، وتغييرات جذرية على مستوى معمارية النصوص الشعرية؛ حيث احتفى الشاعر بجمالية اللغة من خلال تدمير نمطيتها التقليدية، وتحميلها ـ اعتمادا على الانزياح الدلالي والتركيبي ـ دلالات جديدة تربك المتلقي وتجعل استباحة عوالمها المنفلتة من التحديد عصية؛ وتأويلها مشروط برصد المؤشرات النصية الدالة، وفك شفراتها وآليات اشتغالها. كما عمد الشاعر إلى تفجير طاقات اللغة اعتمادا على إمكاناتها وطاقاتها ، من خلال توسله قناع الرمز والإيحاء والصورة الرؤيا. يقول الشاعر في نص ” رغوة الشاعر13:
قاتلٌ / من دلَّ الماءَ / على رغْوةِ الشَّاعرِ / منْ شقَّ الأصابعَ / أفْرغَها مِنْ لُهاثِ الخيلِ/ وأهْملَها في الشوارعِ والحاناتِ / وبسْتانِ النِّسْوةِ المسرعاتِ / بِمَرمرِهنّ َإلى ضوضاءِ الندى!
وإذا كانت استراتيجية الاقتصاد في الدوال والكثيف الدلالي صفتين مائزتين في نصوص الشاعر فتح الله بوعزة، فإنها في هذا الديوان تتبدى بجلاء من من خلال تبنيه لشعرية الومضة التي تشيد دلالات الكثير من النصوص، اعتمادا على وهج الاستعارة الملحة التي تجعل التجاوب الجمالي (بمفهوم إيزر) مشروطة أيضا بفك عوالم النصوص ـ الومضة القائمة على المفارقة المضاعفة ؛ علاوة على تناسل الرموز الشخصية، وقد متحها الشاعر من رحم مدونة معجمية صوفية متداولة (نبيذ العائلة / الماء / الناي/ الريح/ الشراب/ المسافر ..) ومدونة لغوية طبيعية (الأشار/ الغابة/ العصافير/ الوردة الحمراء/ الكرمة الخضراء ..)؛ إضافة إلى مدونة لغوية حربية (الرماية/ سلالم الحروب/ خلاء الحرب/ فوهة البندقية/ منطاد حربي/ انتصار/أحذية الجند/ الشهداء ..) محملا إياها معان، ودلالات جديدة، ترتبط في عمومها بالتحول والدينامية، مما يجعلها تشي بتوق الذات الشاعرة، ورغبتها الجامحة في الخلاص من تراجيدية لحظات عجفاء ، يهيمن عليها الجذب والمسخ والعقم. ونجد لذلك أمثلة كثيرة من عناوين النصوص التي تؤكد هذا المنحى ( ريبة / أحرس ما لا يحرس/انتصار / حديقة البيت/ أثر من شتاء قديم/ حين ارتدت الغابة رأسي/ برهان/ فتنة/ عمى الألوان/ حمالة قمح/ غرابة/ دعاء ..)؛ ولعل ما يسوغ هذا الرهان الشعري هو إيمان الشاعر وتشربه لرحيق حكمة النفري الصوفية:” كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة”.
وبالرغم من حرص الشاعر فتح الله بوعزة على تبني النظام التفعيلي باعتباره بنية إيقاعية بانية لمعمار موسيقى الديوان، على غرار ديوانيه السابقين، فإنه لم يأل جهدا في تكثيف إيقاع قصائده بالاتكاء على مكونات الإيقاع الداخلي، حيث توسل من غير تكلف بتقنيتي التكرار والتوازي، إلى جانب مكونات إيقاعية أخرى كالتجانسات الصوتية والتنغيم .. تتضافر في ما بينها لإغناء التلوينات الموسيقية لأشعار الديوان؛ مبرزا أهمية الإيقاع بنوعيه في تشييد شعرية القصيدة المغربية المعاصرة، بعيدا عن هوس التجريب الحداثي، كما هو لافت في الكثير من قصائد الديوان (سقوط/ الساحر / فرحا بالسماء/ رغوة الشاعر / نوايا/ صباح عاد/ مسار/ فتنة/ سماء أخرى/ حين ارتدت الغابة رأسي …). يقول الشاعر في قصيدة”نوايا”13:
يوماً مَا / سأُعيدُ الْعصافيرَ إلى السّماءِ: /الْعصافير الّتي تسْكنُ الأعْشاشَ /وسُقوفَ الْجبالِ / والأقْفاصَ/ الْعصافير التي تحومُ / حوْل رأْسي/كلّما اصْطدمْتُ / بِعمودِ الْكهرباءِ /أومشيْتُ إلى آخرِ الكأْسِ
سأعيدُ الْقمحَ إلى ضَفائِرهِ/والضّفائرَ إلى الْحقْلِ/والحقْلَ إلى صدْركِ/بينما يداكِ الرّاعشَتانِ/تومِئانِ إلى ضَحْكةٍ/تهْبطُ /أحْوازَ السّماءِ
فمن خلال هذين المقطعين، وغيرهما من نصوص الديوان، يتكاثف الإيقاع الدخلي للقصائد، انسجاما مع الدفقة الشعورية من جهة، ومعاني ودلالات النصوص، من جهة ثانية.
تلك بعض من سمات المشهد الشعري، ورهاناته الباذخة في هذا الديوان الذي يكشف بجلاء عن تجربة شعرية رائدة تنبني على رؤى فنية جمالية، ورؤى فكرية واعية بإشراطات القصيدة، وإكراهاتها، وسياقاتها السوسيو ثقافية والسياسية. تجربة وكدها نحت تميزها وفرادتها، منذ القصائد الأولى التي دأب الشاعر فتح الله بوعزة على نشرها في مختلف المنابر الثقافية وطنيا وعربيا؛ محجما عن الشهرة الزائفة، ودجل الثقافة المقيت؛ مشرعا أجنحة الكلمة الصغيرة إلى مرافئ الحلم والأخيلة المجنحة، واللغة الرامزة، والرؤى المسكونة بهاجس القبض على جمرة الشعر الحارقة.

*باحث في النقد الأدبي الحديث و المعاصر


الكاتب : ذ. داد مصطفى *

  

بتاريخ : 10/07/2020