مصطفى الكتيري : اليوسفي مسار طويل من التفرد والتميز
يلتئم اليوم هذا المحفل التأبيني الذي تنظمه المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير بمشاركة صفوة من الشخصيات الوطنية المرموقة ومن تونس الشقيقة بمناسبة حلول أربعينية فقيد الحركة الوطنية والمقاومة والتحرير المجاهد سي عبد الرحمان اليوسفي، تجسيدا لثقافة العرفان و الوفاء والبرور، ثقافة تزرع في النفوس معنى الانصاف، وتُذكر كل واحد منا بأن حياتنا ما هي إلا أيامتُتداول بين الناس، فإذا كنتَ اليوم الشاهد، فغدا أو إلى أن يشاء الله ستكون من الذين يُشهد فيهم.
في هذه اللحظات المهيبة والخاشعة والمؤثرة التي تشع روحانية وطهرا، يتمثل أمام ناظري شاب يافع بعينين متقدتين لا تكُفان عن تأمل الأمور وقراءة بواطنها، شاب بطموح لا منتهي ازداد وقضى بعضا من سنوات عمره بمدينة غير كل المدن المغربية زمن الحماية بهامش حرية يُشبع بعضا من الطموح، وطموح مؤبننا في سنه كانالجد والاجتهاد للارتقاء في مراتب العلم والتحصيل.
كيف لي أن أختزل العبارات وأختصر الكلام في وقفة التأمل والتدبر والتذكيرهذه، ونحن نستحضر ملامح إحدى الهامات الشامخة والقامات الباسقة وهرم عظيم من أهرامات هذا الوطن. الرجل الطنجي المنشأ والهوية، الوطني الصافي الغيور السريرة والسامي المقاصد. رجل السياسة والأخلاق بامتيازالذي لم تجرفه ملذات الحياة وإغراءاتها عن الانصات لنبض الوطن، الرجل الذي بصم بأفكاره السابقة لجيله ولزمانه وبمواقفه الوسطية المعتدلةالمشهد السياسيالوطنيمنذ السنوات الأولى للاستقلال إلى حين التحاقه بالرفيق الأعلى.
وليس لنا من عزاء في فقدانه إلا أن نستحضر بامتنان وإكبار وإجلال رسالة التعزية والمواساة التي بعثها جلالة الملك محمد السادس نصره الله لأرملة الفقيد وقد شمله جلالته دوما بعنايته الفائقة وإحاطته الكريمة في السراء والضراء، جاء فيها :“لقد كان لنعي المشمول بعفو الله تعالى ورضوانه المرحوم الأستاذ المجاهد عبد الرحمان اليوسفي، بالغ الأثر والوقع الأليم في أنفسنا، لما خلفه رحيله من خسارة فادحة، ليس لأسرته فحسب، وإنما لبلده المغرب الذي فقد فيه أحد أبنائه البررة الذي بصم بشخصيته وبأسلوبه المتميز، والقائم على المسؤولية والالتزام الواضح بالمبادئ،والإخلاص والوفاء مرحلةهامة من تاريخ بلده الحديث،فقد كان رحمه الله عاملا مجدا متفانيا في العمل مثالا لذلكم الطراز من المناضلين الذين يعملون كما يؤمنون، ويؤمنون كما يعملون ناشطا دؤوبا لتنمية الوعي والحماس وزرع بذور الإيمان بمعركة التحرير وتَحَدٍّ لإدارة الحماية وعملائها“ .
لقد كان يرحمه الله من الوطنيين الأوائل ومن مناضلي الساعات الأولى ومن الماهدين للعمل الوطني منذ التحاقه في سنة 1943بمدينة الرباط للدراسة بثانوية مولاي يوسف حيث تعرف فيها على الشهيد المهدي بنبركة وتمرس على نشر الوعي الوطني وتنوير أبناء جيله، وكان ذلك اللقاء بداية لمشوارهالطويل من النضال من أجل استقلال الوطن وحريته،مشوار جعله حينا طريدا وأحيانا شريدامتابعا وملاحقا وفي أحايين أخرى مقربا عزيزا، مسار نضالي غاية في التفرد والتميز، مسار كله صدق وإخلاص، بذل وعطاء، وعزم وإقدام، وتضحية ووفاء.
من ثانوية مولاي يوسف إلى مدينة الدار البيضاءإلى مراكش وآسفي والجديدة التي قضى بها نحو عشرة أيام في ضيافة عائلة الحاج محمد السرغيني، وبين سطات وخريبكة وبني ملال خاض مؤبننا تجربة نضالية وتعبوية ونقابية رائدة وطلائعية بين الطلبة والعمال يشيع في أوساطهم الفكر الوطني والممارسة النقابية.
وفي فرنسا حيث انتقل سنة 1949 لاستكمال دراسته الجامعية،انغمربمعهود حماسه في تأطير الطلبة والعمال، مغاربة ومغاربيين، ونسج شبكة علاقات واسعة ووطيدة مع صفوة من المناضلين المغاربيين. في أفق نقل معركة الوطن إلى الميتروبول، وقد كاد نشاطه هذا أن ينهي وجوده بفرنسا لولا تدخلات ووساطات حولت قرار الطرد إلى مجرد إبعادهعن باريس نحومدينة بواتيي.
قرر عبد الرحمان اليوسفي العودة لوطنه ولمدينته طنجة “الدولية”،حيث فتح مكتباً للمحاماة بها. وأعتقد أن توجهه نحو هذه المهنة لم يكن بدافع البحث عن لقمة العيش أو الارتقاء المجتمعي، بل أكاد أجزم أن وراء الاختيار دوافع أرقى وأسمى، أجل وأعظم، تتعلق بالدفاع والمرافعة من أجل مصير شعب وأمة ارتُهنا بين يدي مستعمرين استغلا ظروف الضعف والوهن التي اعترت الدولة المغربية أوائل القرن العشرين، ليفرضا ما فرضا عليها من شروط مست باستقلالها وبكرامة مواطنيها.
من مدينة طنجة،بدأ مشوارا نضاليا ومقاوماتيا وسياسيا ناصعا، مشوار لم يكن معبدا أو مفروشا بالورود كما يقال، بل كان كله مطبات ومثالب ومعيقات وخيبات، عالجها واحدة واحدة، بصبر المؤمنين ويقين العارفين وإيثار المتصدقين؛ كان حاضرا في كل المحطات التي حددت مصير المغرب الذي نعيشه اليوم، إما مشاركا أو منظرا أو مؤطرا أو مساندا حسب ما اقتضته الظروفووضعيته إزاء الوطن.
بعد اغتيال الزعيم النقابي التونسي والمغاربي فرحات حشاد، كان الرجل للتظاهر والتنديد بالجريمة النكراء مناديا. وللمقاومة المغربية والمغاربية الناشئة كان مزودا بالسلاح. وبمدريد حيث قادته رحلة العلاج وضع لبنات جيش تحرير مغاربي بتنسيق مع ثلة وصفوة من قادة المقاومة المغربية من أمثال محمد أجار سعيد بونعيلات وعبد الكبير الفاسي، وعبد السلام بناني والغالي العراقي وحسن صفي الدين والحسين برادة وأحمد زياد. ومن المناضلين الجزائريين منأمثال أحمد بنبلة ومحمد بوضياف ومحمد خيضر والحسين أيت أحمد والعربي بلمهيدي والمناضل التونسي الصيدلانيحافظ إبراهيم وغيرهم كثير.
وَصل مُؤبننا الجهاد الأصغر بالجهاد الأكبر من أجل المغرب الذي أراده من خلال حضوره ضمن المؤسسين الأوائلحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كامتداد لفورة النضال التي شهدها المغرب إبان الفترة الاستعمارية، وكان تسييره لجريدة المحرر إلى جانب مديرها الفقيه البصري وصفوة من خيرة الصحفيين والإعلاميينكانت قناته من أجل الدفاع عن الحريات العامة الفردية والجماعية وعن حقوق الإنسان والمطالبة بإرساء دولة الحق وسيادة القانون والبناء الديمقراطي.
عرف مساره السياسي مراحل صعود ونزول باعدت بينه وبين الوطن لفترات، لكنها كانت فترات تأمل في الجغرافية السياسية والاجتماعية والاستراتيجية والاقتصادية للوطن، من أجل تحقيق برنامج الإصلاحات الدستورية والسياسية والديموقراطية والمؤسساتية التي رفعها حزب الاتحاد الوطني ثم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية خاصة بعد المؤتمر الاستثنائي في 1975 الذي أقر خيار التوجه الديموقراطي. وبعد عودته من المنفى إلى أرض الوطن في 1981، ظل ملتزما ووفيا لنضالاته السياسية والنقابية والحقوقية إلى جانب رفيق الطريق عبد الرحمان بوعبيد قبل أن يخلفه في منصب الكاتب الأول للحزب، أسند له جلالة المغفور له الحسن الثاني مسؤولية قيادة حكومة التناوب التوافقي فيمارس 1998 فاضطلع بهذه المهمة التاريخية ملبيا نداء الواجب الوطني ليبدأ مرحلة جديدة في مسيرة النضال الديموقراطي والبناء المؤسساتي وإنجاز مشاريع التنمية الشاملة والمستدامة بأبعادها.
وقد حظيت مؤسسة المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير خلال فترة ترؤسه للحكومة باهتمام خاص وبتتبعه المستمر لأنشطتها وفعالياتها، بالنظر للعطف والاعتزاز اللذين كان يكنهما رحمه الله لأسرة المقاومة وجيش التحرير الجديدة بكل تقدير وتكريم، إذ في عهده تمت الزيادة في منحة التعويض الإجمالي وراتب معاش العطب، وكانت هذه أول زيادة ملموسة تتحقق لأعضاء المقاومة وجيش التحرير وذوي حقوق الشهداء والمتوفين منهم.
كما وقف بحزم وإصرار على دعم المشاريع الذاتية التي يبادر إلى إحداثها أبناء وبنات قدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، وإليه يعود الفضل في إصدار المرسوم الذي يخول لحاملي المشاريع الصغرى والمتوسطة إمدادا ماليا تحفيزيا، أمكن به خلق ما مجموعه 2573 منشأة ومقاولة ذاتية صغرى ومتوسطةو201 تعاونية و141 جمعية في صفوف الجيل الثاني والثالث لهذه الأسرة المجاهدة.
ولما كان الرصيد النضالي لحركة المقاومة والتحريربالنسبة له جزءا من تاريخ الوطن الذي يجب الحرص على توثيقه وتدوينه وأيضا العمل على تثمينه وتخصيبه، فقد أولى أوراش صيانة وإنعاش الذاكرة التاريخية الوطنية عناية خاصة، وأبى إلا أن يحضر شخصيامراسم افتتاح مركز الوثائق التاريخية للمقاومة والتحرير في 11 يناير 2017، الحاضن للوثائق والمستندات المليونية ذات الصلة بالذاكرة التاريخية الوطنية منها والمشتركة مع بلدان شقيقة وصديقة.
وتقديرا واعتبارا لشخصيته الوطنية ولخدماته الجلى وتضحياته الجسام خصه صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله بتجديد الثقة فيه وإعادة تعيينه وزيرا أول في الحكومة التي تم تشكيلها في العهد الجديد في 6 شتنبر 2000.وفي سنة 2016، أشرف جلالته على تدشين شارع يحمل اسمالفقيد العزيزبمسقط رأسه، طنجة، تكريما له وتعبيرا عن رضى جلالته عنه لما تحلى وتميز به من مناقب حميدة وخصال أخلاقية وإنسانية راقية.كما تفضل جلالته في سنة 2019 بتشريفه بإطلاق اسمه على فوج الضباط المتخرجين من المعاهد والمدارس العسكرية وشبه العسكرية، تكريما لمبادئه الثابتة في حب الوطن، والتشبث بمقدسات الأمة، وبالوحدة الترابية للمملكة.
وقد حرصت شخصيا على معايدته خلال فترة مرضه مرة مصحوبا بثلة من مقاومي مدينة الدار البيضاء الذين كانو يبادلونه علاقة وجدانية ملؤها المودة والاحترام، وفي مرة ثانية برفقة نائبيْ المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير لجهة الدار البيضاء، وأيضا في مرات متعددة بزياراتي الشخصية له بمنزله.
رحم الله فقيدنا العزيز والمبرور المجاهد عبد الرحمان اليوسفي رحمة واسعة وأغدق عليه شآبيب الرحمة والمغفرة والرضوان وحسن المآب وجزيل الثواب.فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيا وهنيئا له وهوينعم بجوار ربه راضيا مرضيا وعزاؤنا ومواساتنا مجددا إلى رفيقة دربه السيدة إلين وإلى كافة أفراد أسرته الصغيرة وإلى أسرته الكبيرة من رفاق المقاومة وجيش التحرير وفي الحركة الاتحادية وفي المشهد الحقوقي والإعلامي. ولا يسعنا في مسك الختام إلا أن نذكر قوله عز وجـــل من قائل “يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية وادخلي في عبادي وادخلي جنتي “ونتبرك بقوله تعالى:”وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون”.
صدق الله العظيم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.