ظهرت إبّان مرحلة الاستشراق الإسرائيلي -وهي المرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل المدرسة اليهودية في الاستشراق (اليهودية، الصهيونية، الإسرائيلية)- عدّة كتابات حول قصص القرآن الكريم؛ ولم يكن ذلك غريبًا إذ إن المدرسة اليهودية في الاستشراق بجميع مراحلها واتجاهاتها مثَّلت امتدادًا للمدارس الغربية في الاستشراق، وكرّرت ما طرحته هذه المدارس الغربية من فرضيات حول القرآن الكريم، وبالتالي فقد (كرّرت) الكتابات الاستشراقية الإسرائيلية هي الأخرى نفس فرضيات اقتباس القرآن الكريم لهذه القصص من العهدَيْن القديم والجديد، خاصّة لقصص ما يُعرف في الديانة اليهودية بــ(الآباء أو البطاركة) مثل: آدم، وإبراهيم، ويوسف، ويعقوب، وهي الشخصيات المؤسِّسة أو الكبرى في الفكر الديني اليهودي؛ إذ أطلقت الكتابات الاستشراقية الإسرائيلية عليهم لفظ «الأنبياء المشتركون»، أي: المشتركون بين اليهودية والإسلام.
رغم شيوع مصطلح «الأنبياء المشتركون» في الكتابات الاستشراقية الإسرائيلية حول قصص القرآن، إلّا أنه يعدُّ -من وجهة نظر الباحث- من المصطلحات (الخاطئة) والتي تفتقر للدقّة الموضوعية؛ فكثيرًا من الشخصيات المِقرائية (أي: الواردة في العهد القديم)، والقرآنية، وردت كأنبياء في القرآن الكريم ولم تَرِدْ كذلك في العهد القديم، كما وردت أسماء لأشخاص على أنهم أنبياء في العهد القديم، ولم يرد ذكرٌ لهم في القرآن الكريم، مثال: (أشعياء، وأرميا، وهوشع،…إلخ.
ويعدُّ كتاب: (مصادر يهودية بالقرآن) باللغة العبرية لمؤلِّفه الحاخام والمستشرق الإسرائيلي أندريه شالوم زاوي، الصادر في القدس عن دار نشر (دافير) الإسرائيلية عام 1983م، والذي يقع في 269 صفحة من القطع الكبير، من المؤلَّفات الاستشراقية الإسرائيلية النادرة التي تركّز بالتحليل والنقد على الآيات القرآنية؛ إذ شمل جميع سور القرآن الكريم، راداً عددًا كبيرًا من آياته إلى مصادر دينية يهودية قديمة ومتأخرة ولمصادر أخرى غير أصيلة، وفي مقدمة هذه الآيات تلك المتعلقة بـ(قصص القرآن) ، لا سيما المتعلقة بقصص بني إسرائيل وأنبيائهم تحديدًا.
ينقسم الكتاب وفقًا لقائمة محتوياته إلى: 1- تمهيد. 2- مقدمة. 3- ملاحظات وتفسير للقرآن. 4- سورة الفاتحة. 5- السورة الثانية حتى الأخيرة. 6- ملخص. 7- بيبلوغرافيا. 8- قائمة سور القرآن. 9- خلاصة بـ(اللغة الإنجليزية). إلّا أنه من الممكن تقسيم محتوياته -من حيث طريقة عرضه للأفكار والموضوعات- إلى جزأين أساسيين: الأول (نظري)، ويشمل أقسام (التمهيد والمقدمة، وملاحظات وتفسير للقرآن، والملخص والخلاصة بالإنجليزية) بالكتاب، والتي تتناول أهم أفكار المؤلف حول ردّ القرآن إلى مصادر يهودية، والتي اعتمد في معظمها على منهج التأثير والتأثر، مستشهدًا بعدّة أدلة تاريخية ودينية ولغوية، ومنها أن القرآن لم يُدوَّن إلّا في أواخر القرن السابع الميلادي أو أوائل القرن الثامن الميلادي، في حين أن العهد القديم سبقه بحوالي ألف عام، إضافة إلى استشهاده بكلّ من المستشرقَين اليهوديَّين اجنتس جولدتسيهر وأبراهام كاتش، واللذَين قالَا بأن اليهود المعاصرين لمحمد كانوا أصحاب تأثير على الأفكار المتضمنة في القرآن، وأن هناك الكثير من الأساطير الدينية اليهودية تم تضمينها في كتب المسلمين الأوائل حول القرآن وسيرة محمد؛ مثل تفاسير الطبري والبيضاوي وكتاب البخاري، مؤكدًا أن القرآن انبَنَى بشكلٍ عامّ على أفكار العهد القديم وفي مقدمتها حبّ الإله ووحدانيته المطلقة. وأما الجزء الثاني فتطبيقي يتعلّق بالقصص القرآني وعلاقته بالتناخ.
وقد خصّص مؤلّف الكتاب جزءًا مهمًّا في مقدمة كتابه للحديث عن (قصص القرآن) تحديدًا، طارحًا رؤيته لها، مُعدِّدًا ما اعتبره (القضايا الإشكالية) التي تُثيرها هذه القصص من الناحيتين الدينية والتاريخية؛ إذ أشار إلى أن طريقة تناول القرآن للقصص التي اقتبسها من التناخ (العهد القديم)، تثبت عدّة أمور، وهي: 1- تجذر القصص التوراتية حول موسى وبني إسرائيل في القرآن. 2- أن القصص القرآني يمثل اقتباسات روائية وأسلوبية وكتابات وتفاسير شعبية مختلفة. 3- أن هذا القصص يُبلور المشكلة المصدرية للقرآن، والمتعلقة بأن الصيغة النهائية للقرآن كُتبت في نهاية القرن السابع أو القرن الثامن الميلاديَّين، وأن التناخ (العهد القديم) سبق القرآن بحوالي ألف عام على الأقل، وفصل بينهما العهد الجديد.
كما يسهب زاوي في الحديث عن ما اعتبره (تداخل التاريخ بالنصّ الديني) في هذه القصص القرآنية، وهو ما سمَّاه بـ(المشكلة التاريخية) في قصص القرآن، مشيرًا إلى أنها مشكلة تجعل من الصعب تحديد الحقيقة التاريخية لهذه القصص، لكنها تمثّل حقيقة روحانية في عين المؤمنين بها، وأنّ هذه القصص -سواء في التناخ (العهد القديم) أو القرآن، كليهما- مصطبغة بصبغة (إلهية)، وهو ما مثَّل صعوبة لكتَبة القرآن الذين سارعوا لاتهام كتَبة التوراة والعهد الجديد بـ(التحريف) وفق ما جاء في القرآن (7/ 162) -أي: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ}[الأعراف: 162]- وهو الاتهام المؤسَّس على كلام محمد، إلّا أنّ معظم الباحثين والرواة اعتبروا أن القرآن قد استند على توراة موسى التي تعدُّ (هُدى ونورًا لبني البشر) مثلما جاء في القرآن (5/ 44) -أي: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة: 44].