ليس هذا الكتاب (الصحوة: النفوذ اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية) مجرد سيرة ذاتية ساحرة لشخص مثير للجدل جداً، بل هو كتاب يتجرأ على مواجهة أكثر القضايا تحدياً في العصر الحديث بأمانة فائقة.
ليس كتاب ديفيد ديوك (الصحوة) لضعاف القلوب، أو لأولئك المعتدّين بنظم معتقداتهم، بل لأولئك الذين لا يخشون من أن تحفزهم الحقائق والأفكار التي ربما تضع المعتقدات الراسخة موضع تساؤل. إنه كتاب ثوري تطوري ربما (يهز الحضارة من الأعماق) كما يقول غليد ويتني (Glade Whitney) العالم البارز في علم الوراثة السلوكي. يكرس ديفيد ديوك معظم كتابه لوجهة نظره في الأعراق وتضميناتها المجتمعية والتطورية، ولكنه حكاية مثيرة لرجل عرف بوصفه صورة كاريكاتورية رسمتها له وسائل الإعلام المعادية.
لم يكن قليلاً عدد الكتب الفكرية التي هوجمت في القرن العشرين وأثارت سجالات ومعارك فكرية، بل حتى معارك تجاوزت الفكر لتوصل الى القمع والسجن والقتل. ففي أنحاء عدة من العالم، شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً، تحت كل حكم وفي ظل كل آيديولوجيا كان ثمة كتاب يكتبون وأفكار تُرفض وأبواب سجون ومقابر تُفتح وضروب اضطهاد وتنكيل تُمارس. وفي هذا الإطار يمكن القول ان احداً لم يكن احسن من أحد. غير ان واحداً من الكتب التي كان هذا كله من نصيبها، ولكن انطلاقاً من سوء فهم لا شك في انه مقصود، وهو «سوء فهم» رافقه منذ صدوره بل حتى من قبل ذلك الصدور ولا يزال يرافقه حتى اليوم، إنه هو كتاب استثنائيّ، كتبته واحدة من كبار مفكري القرن العشرين ولا يزال يعتبر، من جانب «جماعتها» نفسها، كتاباً «ملعوناً» على رغم التوضيحات ومرور الزمن، ليشي لنا بقوة الآيديولوجيا وسطوة الاستخدام الموجّه آيديولوجياً لتزوير التاريخ والاقتصاص من الباحثين عن حقيقته.
هو كتاب هانّا آرندت «إيخمان في القدس». وربما يعرف كثر اليوم حكاية هذا الكتاب الذي جرّ منذ اواسط ستينات القرن العشرين، ولا يزال يجرّ حتى اليوم على مؤلفته، لعنات اصحاب الفكر الصهيوني واليمين اليهودي، من رسميين وغير رسميين، ما يفوق ما جابه ايّ كتاب فكري آخر.
من ناحية شكلية، ينطلق الهجوم على هانّا آرندت وكتابها، من فكرة يركز عليها الكتاب وتتحدث عن «عادية الشرّ» التي رصدتها خلال متابعتها لمحاكمة الضابط النازي السابق إيخمان الذي كانت مجموعة من الاستخبارات الإسرائيلية طاردته وألقت القبض عليه ليحاكم في القدس بصفته مجرم حرب صفّى بناء على اوامر رؤسائه النازيين أثناء الحرب العالمية الثانية، عدداً كبيراً من اليهود تبعاً لسياسة «الحل النهائي» الهتلرية. وآرندت المفكرة والكاتبة اليهودية الألمانية الأصل، الأميركية الإقامة في ذلك الحين، كلّفت يومها من جانب مجلة «نيويوركر» التقدمية الليبرالية الأميركية بالسفر الى القدس لتغطية المحاكمة. وحتى هنا يبدو كل هذا منطقياً ومهنياً. فآرندت سافرت وتابعت المحاكمة بالفعل وكتبت تحقيقاً طويلاً سرعان ما تحوّل الى كتاب.
صحيح أن ما رصدته آرندت في التحقيق والكتاب يومها، كان يدخل في خانة «الفكر الهرطوقي» بالنسبة الى الرؤية الإسرائيلية/الصهيونية التي كانت تهدف الى التشديد على ان تصفية النازيين لليهود الألمان والأوروبيين كانت فعلاً شريراً مطلقاً واستثنائياً، لتقول هي – اي آرندت – ان المسألة اكثر «عادية» من ذلك بكثير: فإيخمان هو في نهاية الأمر – وكما رصدته خلال المحاكمة التي ستنتهي بإعدامه – ليس شيطاناً ولا ملاكاً، انه موظف عادي نفّذ اوامر رؤسائه من دون ان يبالي بما إذا كان ما يفعله شراً. كانت الفكرة مهرطقة بالطبع في وقت كانت الصهيونية تسعى فيه الى شيطنة امة بأسرها (هي الأمة الالمانية) للخروج من ذلك بمكاسب سياسية واقتصادية تنتج من تحميل الألمان جميعاً عقدة ذنب جماعية، من دون حصر الجريمة بالقيادات النازية. ومع هذا لم تكن الفكرة جديدة بل كانت فكرة فلسفية عميقة لا تسعى الى اية اثارة. ومع هذا وجدت هانّا آرندت نفسها تحاكم وترجم لينفضّ عنها حتى اقرب اصدقائها اليهود – وأحياناً غير اليهود – اليها. والحال ان معظم المناقشات التي دارت من حول هذا الموضوع كما من حول ردود الأفعال منذ ذلك الحين، توقفت عند تلك السمة للموضوع، مندهشة امام ردود فعل قاسية على مبحث فكري وبدت غير متوازنة مع جوهر «الخلاف». وكان السؤال الذي انبثق من فوره يدور من حول فكر صهيوني جازف بخسارة مفكرة من طينة آرندت على مذبح فكرة تستحق في أحسن الأحوال سجالاً فلسفياً لا رجماً شعبياً.
هذا الاستغراب كان، على اية حال، في البداية فقط… ذلك أن الذين عادوا وتعمّقوا في الموضوع لاحقاً، تبيّن لهم بالتدريج ان المسألة في حقيقتها ابعد كثيراً من ان تكون مسألة تتعلق بحكاية ايخمان وحده. بالنسبة الى هؤلاء، لم تكن كتابة هانّا آرندت عن ذلك المجرم النازي وعن «عادية الشر» في ما يخصّه، سوى الشعرة التي قصمت ظهر البعير – كما يقول المثل العربي -، او المناسبة التي تمكّن جناحاً يمينياً، متطرفاً او غير متطرف، من الصهاينة ومن الإسرائيليين وأصدقائهم في اسرائيل والعالم الخارجي، من تصفية جملة حسابات مع آرندت نفسها: فمن ناحية لم يكن كثر ليغفروا لهذه الكاتبة علاقتها مع استاذها الفيلسوف مارتن هايدغر الذي كان انضمّ تقريباً الى النازيين منذ بدايات الثلاثينات حين تسلموا الحكم في المانيا وكانت هي تلميذته والى حد ما عشيقته ايضاً. ثم انهم لم يستسيغوا ابداً مواقفها التي كانت رفضت تأسيس دولة اسرائيلية لليهود في فلسطين، وذلك منذ اواسط اربعينات القرن العشرين، دأبها في ذلك دأب عدد من كبار المفكرين اليهود وعلى رأسهم ألبرت آينشتاين. غير ان هذا لم يكن كلّ شيء اذ علينا ألا ننسى هنا ايضاً كيف ان آرندت اشتغلت مع عدد كبير من المثقفين التقدميين الأميركيين في الولايات المتحدة – ومنهم كارل ياسبرز وماري ماكارثي – على مناهضة السياسات الإسرائيلية وخلق تيارات تواجهها داخل اللوبي اليهودي الأميركي، انطلاقاً من افكار اخلاقية، اكثر مما انطلاقاً من افكار سياسية، تحاول ان تستند الى ما تعتبره «البعد الأخلاقي لتاريخ الاضطهاد اليهودي في العالم»، في محاولة للتصدي لممارسات «غير اخلاقية بدأت تفرض نفسها من جانب زعامات يهودية على الشعب اليهودي». وبالنسبة الى هذا الفكر، كان من الواضح ان خلق اسرائيل كوطن خاص باليهود وممارسات حكامها – حتى وإن كانوا يساريين في ذلك الحين – انما هو رمي لشعب بأسره في «غيتو جديد» يجعله منزوياً عن العالم، وبالتالي يخلق بينه وبين العالم حواجز عنصرية جديدة ستكون اقسى مما خلقته النازية