ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ
كانت مصادفةً أَن أكونْ
ذَكَراً …
ومصادفةً أَن أَرى قمراً
شاحباً مثلَ ليمونة يَتحرَّشُ بالساهرات
ولم أَجتهدْ
كي أَجدْ
شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً !
(محمود درويش)
كان مصادفة أن ولدنا في أجسادنا. الجسد غلافنا الذي يقدمنا إلى العالم بهويات يحددها المجتمع. كيف يتعامل الكاتب/ة مع هذا المجسم الإجباري الذي وُجد فيه؟ هل ساءل يوما علاقته به؟ هل يمكنه أن يختار التدخل فيه لتجميله أو تحويله؟
ثم إن الكاتب/ة، له قدرة اختيار الجسد الذي يكتبه، فيتحول الأمر إلى نوع من المساكنة داخل هويات جنسية أخرى. هل يتدخل الكاتب/ة في هذا الاختيار؟ وهل يسمح للذات وهي تكتب أن تنزاح لستستقر داخل جسد مختلف عن جنسه؟
هوشنك أوسي
جسدي ليسَ لي. كذلك روحي أيضاً. لدي أسبابٌ كثيرة لقول ذلك. سيغادراني في اتجاهين متعاكسين؛ الجسد إلى التّراب أو النّار، والرّوح إلى السّماء والمجهول. ليست لدي تلك السلّطة المطلقة عليهما. ونسبة تحكمي بهما تكاد تكون ضئيلة جدّاً.
طالما هناك مَن يشتركُ بالاستمتاع بجسدي. وهناك مَن يحزنُ لحزنهِ، يمرضُ لمرضهِ، يفرحُ لفرحه. طالما يصبحُ جسدي سببَ متعةِ ولذّةِ آخرين، مثلما يصبحُ سببَ متعتي ولذّتي. طالما ينقلُ المرضَ والتعاسة إلى الآخرين، ويستقبلُ المرضَ والتعاسة منهم، فجسدي ليس لي وحدي. يشاركني فيه الآخرون والأخريات. يشاركني فيه التراب الذي سيبتلعهُ، أو النّار التي ستحرقه، أو الماءُ الذي سيهضمنهُ. كذلكَ أجسادُ الآخرين والأخريات، لي فيها، ما لهم في جسدي.
مورّثاتِ أبيّ وأمّي، حدّدت ملامحَ وطبائعَ وشكلَ جسدي. ومورّثات أجدادهم حدّدت طبائع وأشكال أجسادِ آبائهم. وهكذا. يمكن لظرفٍ معيّنٍ (حادث، مرض، حرب، تلوّث إشعاعي، وباء) أن يتحكّم في شكل جسدي؛ كأنّ يبترَ عضو، أو يصيبهُ بشلل نصفّي، أو عاهة مستديمة. وعليه، حين يشترك آخرون في صناعة جسدي، أو تساهم، في ما بعد، ظروف مناخيّة أو حوادث في إعادة رسم وتحديد شكلهِ، كيف لي الجزم أن هذا جسدي، ومُلكي لوحدي، أتحكّمُ به متى وكيفما أشاء؟!
في الرواية، حين أكتب وأخلق أو اختلق شخصيّات، فإنني أبني أجسادا. أبثُّ فيها أرواحها، وأسيّرها وأخيّرها، وأحدد طبائعها ومصائرها، التي كانت مكتوبة في لوحٍ محفوظٍ في خيالي، بحيث تكون أجساد تلك الشخصيّات أجسادي. أو في جسد كلّ شخصيّة منها، جزءٌ من طبائع جسدي. في جسدِ كل شخصيّةٍ، أضع طباعاً من طبائعِ جسدي. أو أضعُ ما أنا عاجزٌ عن قوله يتعلّق بجسدي، أو ما أودُّ أن يكون عليهِ جسدي.
كذلك كتابتي للشعر كانت وما زالت، وأعتقد أنها ستبقى هكذا، محاولة لأن تكون لسان حالات جسدي. ذلك أن الشعِّرَ حالاتٌ. والحالاتُ تحوّلات؛ فيها ما فيها مِن القلق، الألم، اللذّة، الحلم، الانكسار، الخيبة، النّدم، الأمل، الفرح والانتشاء. كتبتُ بلسان حال جسد الرجل – الأنا، وبلسان حال الأنثى – الآخر. كما في قصيدة “راقصة الفلامينكو” وقصيدة “سنُّ اليأس”.
في روايتي الأولى “وطأة اليقين.. محنة السؤال وشهوة الخيال” الصادرة عن دار سؤال في بيروت سنة 2016، وفازت بجائزة كتارا للرواية العربيّة سنة 2017، البطل الخفي فيها كان الجسد. معارض سوري، يقضي تحت التعذيب في سجون نظام الأسد. قبل موتهِ، تستأصل أعضاؤهُ، مع أعضاء الكثير من المساجين – الضحايا، وتهرّب عن طريق مافيات الاتجار بالأعضاء البشريّة إلى بلجيكا. العضو أثناء استئصالهِ، يكون حيّ؛ فيه شيء من روح صاحبه. هذا الجزء من الروح، عن الطريق العضو، انتقل إلى أجساد ثلاث شخصيّات أجنبيّة. كلية المعارض السوري، ذهبت لفتاة ألمانيّة تعمل في بلجيكا. شبكيّة العين زرعت في عين طالب إيطالي يدرس في جامعة بروكسل الحرّة. والكبد زُرِع لرجل كونغولي يعيش في بلجيكا. وعليه، أجزاء من جسد المعارض السوري وروحهِ توزّعت على أجساد أجانب، لا علاقة لهم بالجغرافيا السوريّة والهموم والمشاغل والقضيّة السوريّة. ذلك الجزء من الروح غيّرت في كيمياء وطبائع وميول وأمزجة أجساد الأجانب الثلاث…الخ. يتفاعلون مع الثورة السوريّة، بنفس قدر تفاعل السوريين أنفسهم. وأحياناً أكثر. في ما بعد، تبدأ تلك الشخصيّات – الأجساد رحلة البحث عن الشخص – الجسد صاحب الأعضاء؛ من هو؟ وكيف عاش؟
في روايتي الثانية “حفلة أوهام مفتوحة” الصادرة عن نفس الدار في بيروت 2018، أيضاً البطل الخفي فيها الجسد. جسد كاتب بلجيكي يختفي في ظروف غامضة. يصل التحقيق الجنائي إلى طريق مسدود. تبرقُ في ذهن الضابط المحقق فكرة اللجوء إلى إبداع الكاتب البلجيكي المختفي (روايات، دواوين شعر، ولوحات تشكيليّة)، لربما يمكنه التقاط شيء يساعدهُ في التحقيق. يرسل دواوين الشعر إلى ناقد أدبي، ويرسل اللوحات إلى ناقد تشكيلي. ويقرأ الضابط روايات الكاتب. كل ذلك، بهدف توظيف الثقافة والفن والأدب في التحقيق الجنائي.
من خلال قراءة ذلك الضابط، الذي لا علاقة له بالأدب، لروايات الكاتب المختفي، يتعرَّف على الكثير من الأجساد وحيواتها وطبائعها وتحوّلات أفكارها وميولها. وماذا تفعل الحروب في الأجساد والأرواح والذاكرة.
في الرواية الثالثة “الأفغاني.. سماوات قلقة” التي ستصدر في القاهرة، أيضاً هناك حضور للجسد. جسد لاجئ، يُعثر عليه مقتولاً في ظروف غامضة. يجري التحقيق في الجريمة، وكل شخص – لاجئ في سجن اللاجئين غير الشرعيين يروي سرديّة مختلفة عن هذا الجسد – الشخص القتيل. المصري يقول عنه مصري، ويروي حكايته في مصر. الفلسطيني يقول عنه إنه فلسطيني، ويروي عنه حكاية مختلفة. وكذا حال الإيراني، والأفغاني، والعراقي، والكردي والتونسي والجزائري…، كل شخص يروي حكاية مختلفة عن الحكاية الأخرى. وبالتالي، تتعدد الحكايات والجسد واحد. سبع سرديّات عن جسد واحد، كأنّها سبع أرواح لجسدٍ واحد.
الأديان مارست سلطة التحريم والتقنين والتقييد والتلقين والتقليم والترغيب والترهيب على الجسد. حاولت الفلسفة مناهضة ذلك، وتحرير الجسد، عبر محاولة تحرير العقل. توزّع الأدب بين هذا وذاك. الأدب الذي مالَ ميلَ الأديانِ، سواء طوعاً أو على مضض، ساهم في استمرار وصاية الدين على الأدب والجسد. والأدب الذي مالَ ميلَ الفلسفةِ في تعاملهِ مع الجسد، حاول إعادة الاعتبار للجسد، عبر كسر المحظور الديني. شخصيّاً، أحاول أن أكون من هذا الصنف. ذلك أن الأدبَ الذي لا يكون حليف الفلسفة في العصيان والتمرّد على يقينيّات ومحظورات الأديان في ما يتعلّق بالجسد واحتياجاته، اعتبرهُ “قلّة أدب”.
* شاعر وروائي سوري