ثمة أسئلة كبرى تطرح على النخب الثقافية العربية التي كانت تقف، في بعض نماذجها القوية، على محك التنافر القطري، غير قادرة على رسم طريق التكامل الثقافي الغربي. غير أن أطروحات كثيرة أنجزها مثقفون ومفكرون عرب ما زالت حتى الآن تطفو على السطح، لراهنيتها وقوة مضامينها، ذلك أن البلاد العربية ما زالت مستهدفة أكثر من أي وقت آخر، زمانيا ومكانيا، مع العلم بأن تلك النخبة تعلم يقينا أن الأحداث التاريخية العربية زاخرة بالصراعات، التى ما زالت تتكرر بصورة طبق الأصل فى تاريخنا الحديث- بغض النظر عن تلك المرحلة التي كان العرب يتبؤون فيها عالميا الهرم السياسي والحضاري.
في ما يلي حوارات فكرية مع بعض أعلام الثقافة والفكر في الوطن العربي.
حضرة الأستاذ الدكتور حسن حنفي، ما مبرّرات القول إنّ التجديد يولد من رحم التراث؟ وكيف يمكن التعامل مع التراث عامّة، ومع الموروث الديني على وجه الخصوص؟
لقد خرجت المسيحيّة من رحم اليهوديّة، والسيّد المسيح قارئ روحيّ للتوراة، بعد أن حوّلها اليهود إلى مجرّد شعائر. والإسلام نفسه خرج من رحم اليهوديّة والمسيحيّة،{وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بمِثْلِ ما عُوقَبْتُمْ بِهِ} [النّحل: 126]. هذا ما تقوله الشريعة اليهوديّة، والمبدأ نفسه نجده في المسيحيّة. والإسلام هو هذا الاختيار الحرّ بين الشريعة، والمحبّة، والطاعة، فالجديد لا بدّ له من أرضيّة، وهو سيخرج من الآخرين، ولو أبقيتَ القديم على ما هو عليه، فستقوّي الحركة السلفيّة، ومن ثمّ لا حيلة لك إلّا أن تحاول تحقيق التغيّر من خلال التواصل، وليس من خلال الانقطاع.
هذا يعني أنّ تراكم المعرفة يؤدّي إلى تطوّرها، وإلى تجاوزها، فليست هناك قطيعة بين التراث والتجديد، أو، لنقل، إنّها قطيعة لا يمكن أن توجد.
هذا صحيح، انظر، مثلاً، تاريخ العلوم الإسلاميّة، ففي الفلسفة، كان الفارابي تراكماً للكندي، وابن سينا هو تراكم للفارابي، وابن رشد هو تراكم لكلّ الحكماء السابقين. وفي الفقه، يُعَدُّ مالك بن أنس تراكماً لأبي حنيفة، وقد حاول الشافعي أن يجمع بين الاثنيْن. وفي علم الكلام، يُعَدُّ الأشاعرة تراكماً للمعتزلة، وجاءت الماتُريديّة لتجمع بين الطرفيْن. ويعني ذلك كلّه وجود تطوّر من مرحلة إلى أخرى.
في هذا السياق، إلى أيّ حدّ يمكن أن تكون الحداثة الأوربيّة مثالاً يُحتذَى نستلهم منه طريقة التعامل مع التراث الإسلامي؟
بطبيعة الحال، إنّ الإسلام، عندما أتى، تحدّث عن كلّ الديانات التي كانت حوله؛ إذ تحدّث عن النصرانيّة، واليهوديّة، وتحدّث عن الصابئة، الذين كانوا يعبدون الكواكب، وهو دين إبراهيم، قبل أن يصبح مسلماً حنيفاً، وفي الحديث هناك ذكر للمجوس. ويعني ذلك أنّ كلّ ثقافة تنشأ في إطار محيط بها، ولا تنشأ من فراغ، والتراكمُ -كما قلتُ- هو الذي يُنشئ الجديد، تماماً مثل الشجرة تتعهّدها بالسقاية والرعاية حتّى تكبر، وتثمر.
حضرة الأستاذ حسن، أنتم دعوتم إلى تأسيس ما سمّيتموه «خطاب عربي إسلامي متجدّد»، ويكون ذلك عبر فهم جديد غير معروف في التراث الإسلامي لمعنى الاجتهاد، وأنتم استعملتم تعبير (الاجتهاد الذهني)؛ أي: ذاك الذي له صلة بالقضايا الحادثة والراهنة. وسؤالي هنا هو: من المؤهّل لإنتاج هذا الخطاب؟ وهل هناك عراقيل، أو صعوبات، تحول دون إنتاجه ورواجه؟ ثمّ كيف ترون العلاقة بين الثالوث العُقَدي: الاجتهاد، والتجديد، والعمران؟
الاجتهاد هو استنباط أحكام فقهيّة لوقائع جديدة خاصّة بالعقوبات، والحلال والحرام، والاجتهاد شامل لكلّ نواحي الحياة: الاجتهاد في حياتك الخاصّة، الاجتهاد في عملك، الاجتهاد في صراعاتك…، وهو ما يسمّيه الغربيّون الإبداع. وأنت لستَ مطالباً بالسعي إلى نمط غربيّ؛ لأنّك ستقع، عندئذ، في التقليد، ونحن نقول ذلك حتّى لا نوفّر للسلفيّين مبرّراً في تقليدهم للقدماء؛ لأنّ الوقوع في تقليد الغربييّن يدفع بالسلفيّين إلى القول: إنّه من باب أولى وأحرى أن نقلّد السلف، لا أن نقلّد الغرب. ومع ذلك، نرى أنّ الاجتهاد مبنيّ على الإحساس بالمشكل، وعلى الإحساس بالهمّ، وعلى معرفة الأصول؛ التي يمكن أن يستند إليها الاجتهاد، وعلى احتمالات الحلول الجديدة، وعلى مدى إنجازها، ومدى نفعها، فوجوه الاجتهاد عديدة، والصواب كثير.
إنّ صور الاجتهاد عديدة، وأطرافه عديدة، فهناك السلطة الدينيّة؛ التي تريد أن تحتكر المعرفة الدينيّة، وهناك الاجتهاد السياسي، والاجتهاد الاجتماعي (في الأسرة، مثلاً، عندما ترى عدم وجود خطورة ما في أن يذهب الأبناء إلى المسرح، أو إلى السينما). فدون اجتهاد تتوقّف الحياة.
في هذا الإطار، اقترحتم تأسيس خطاب ثالث (مع وجود خطابيْن أساسييْن على الساحة العربيّة هما: خطاب السلفيّين، وخطاب العلمانيّين). هذا الخطاب «يعرف ماذا يقول، وكيف يقول». أتعتقدون بأنّ هذا الخطاب الثالث هو تجاوز للخطابيْن الآخريْن أم بأنّه مجرّد توفيق وجمع بينهما، لاسيما أنّ من النقد؛ الذي يُوجّه إليكم باستمرار، هو أنّكم تريدون التوفيق بين ما لا يقبل التوفيق؟
أنا أرى أنّ هذا الخطاب الثالث هو تجاوز يقوم على التركيب، فالمعروف أنّ للخطاب السلفي إغراءاته لدى السلفيّين، وهو يستعمل لغة تستميل القلوب، وتؤثّر في الوجدان. وكذلك الخطاب العلماني مُغْرٍ؛ لأنّه يعرف ماذا يقول، فهو يتكلّم عن الحقوق، والحرّيات، والديمقراطيّة، وهذا ما رأيناه في الثورات العربيّة الأخيرة. المهمّ، هنا، هو معرفة اللغة، التي تجذب الناس، وكذلك معرفة ماذا نقول لهم حتّى نعبّر، بحقّ، عن مصالحهم. فهم لا يعرفون، مثلاً، معنى العدل، أو الثورة ضدّ الظلم. والقرآن يصوّر هذا المعنى عبر مثال معروف (الرجل الذي له 99 نعجة، وأخوه الذي له نعجة واحدة). ونحن استعملنا لغة الفلسفة اليونانيّة، ولكن أعطيناها مضموناً إسلاميّاً. فالعلّة الأولى، مثلاً، عند أرسطو خالقة (الله هو العلة الأولى للوجود)، ولكنّها ليست كذلك عند ابن سينا. ومثل هذه المسائل تحتاج إلى دراسة علميّة، بعيداً عن الشهرة الإعلاميّة.
هذا يعني أنّ الوعي التاريخي غائب عن المسلمين؛ إذ اكتفوا باجترار معارف الأسلاف مثلما أنتجوها حسب ظروفهم، وشواغلهم. فكيف السبيل إلى تطوير العلوم النقليّة مثلاً؟ ألا يتطلّب ذلك نوعاً من الجرأة في التعامل مع التراث الديني؟
هذه العلوم جزء من التراث، وهي الموجودة في المساجد، وهي التي تُدرّس في المعاهد والكلّيات، وهي، أيضاً، التي يستمع إليها الناس. خذ، مثلاً، حديث الإسراء والمعراج في صحيح البخاري، فأيّ ذاكرة تستطيع الاحتفاظ بكلّ تلك الصور، وبتفاصيل الأحداث. ونرى، كذلك، أنّ علوماً إسلاميّة عديدة تحتاج إلى أن تُدرس دراسة علميّة، مثل أسباب النزول، والنسخ؛ بل إنّ هناك مباحث عديدة في مجاميع الحديث النبوي قد تجاوزها الزمن. فأنا أستحي، عندما أتحدّث، في تلك المصنّفات، عن باب الرقّ، أو باب السبايا، أو باب الغنائم، فعندما أذكرها أوفّر للآخر الأجنبي كي يقول: انظر ماذا تقول الشريعة الإسلاميّة، وبماذا تهتمّ. إنّنا اليوم منشغلون بقضايا عديدة في الوقت ذاته؛ إذ انشغلنا، أوّلاً، ببناء الدول الوطنيّة، وفشلنا في ذلك، ما فتح الأبواب أمام الاستبداد. فنحن نواجه الفقر، والعدوّ المتربّص بنا (إسرائيل وأمريكا). فبعد تقطيع الدولة العثمانيّة برزت ظاهرة تقطيع الدولة الواحدة إلى طوائف، ما يجعل بعض الأصوات تنادي بإقامة الدولة الكرديّة، أو الدولة التركمانيّة، أو الدولة الأرمنيّة.
بطاقة:
الدكتور حسن حنفي، أستاذ الفلسفة غير المتفرغ في جامعة القاهرة. من مواليد (1935م)، حاصل على ليسانس الفلسفة من جامعة القاهرة عام (1956م)، ودكتوراه الدولة من السوربون (باريس) عام (1966م). عمل أستاذاً زائراً في الولايات المتحدة (فيلادلفيا) (1971-1975م)، والمغرب (فاس) (1982-1984م)، ومستشاراً علمياً لجامعة الأمم المتحدة في طوكيو (1984-1987م)، وأستاذاً زائراً في العديد من الجامعات في فرنسا (تولوز)، وألمانيا (بريمن)، وأمريكا.
وهو صاحب مشروع «التراث والتجديد»، على مدى نصف قرن، ويتكوّن من العديد من الجبهات، منها: إعادة بناء التراث القديم في (من العقيدة إلى الثورة) (علم أصول الدين) 1987م، (من النقل إلى الإبداع) (علوم الحكمة) 2000-2002م، (من النص إلى الواقع) (علم أصول الفقه) 2005م، (من الفناء إلى البقاء) (علم التصوف) 2008م، (من النقل إلى الفعل) (القرآن، والحديث، والتفسير، والسيرة، والفقه) 2009-2010م. ومنها: الموقف من التراث الغربي في (ظاهريات التأويل) 1965م، (تأويل الظاهريات) 1966م، (مقدّمة في علم الاستغراب) 1991م، (فشته، فيلسوف المقاومة) 2003م، (برغسون، فيلسوف الحياة) 2008م، (رسالة في اللاهوت والسياسة لسبينوزا) 1973م، (نماذج من الفلسفة المسيحية للسنج) 1977م، (تعالي الأنا موجود لجان بول سارتر) 1977م. ويكتب الدكتور حسن حنفي في الثقافة الفلسفية، مثل (قضايا معاصرة) 1977م، (دراسات إسلامية) 1982م، (دراسات فلسفية) 1987م، (هموم الفكر والوطن) 1998م، (حصار الزمن) 2005م. وهو يكتب، أيضاً، في الثقافة السياسية: (من مانهاتن إلى بغداد) 2000م، (جذور التسلّط وآفاق الحرية) 2001م، (وطن بلا صاحب) 2008م، (نظرية الدوائر الثلاث، مصر والعرب والعالم) 2008م، (الواقع العربي الراهن) 2011م، (الثورة المصرية في عامها الأول) 2012م.