– 1 –
عندما أعلنت حالة الحجر الصحي في بلادنا نتيجة لتفشي وباء كورونا، لم نكن الأوائل، فقد سبقتنا إلى هذا الإجراء الوقائي مجتمعات أخرى حَلَّ بها الوباء قبلنا، وعملت على محاصرته والتقليل من مخاطره بالعزل المنظم، وتوقيف الأنشطة التي تتطلب الاختلاط.. لم يتجاوز النقاش حول هذا الإجراء المتعلق بالحجر وحالة الطوارئ المؤطرة له، سواء في بعض المجتمعات الأوروبية أو في مجتمعنا سؤال الحريات الفردية في أزمنة الأوبئة، وهو سؤال لم يتم التفكير فيه بما يكفي من الجرأة أمام هول الجائحة، وغيَّبت أسئلة أخرى تتعلق بالأبعاد النفسية والاجتماعية، وكذا الأبعاد المتصلة بالموت والحياة.. وانصب العمل أساساً على متطلبات المجال الصحي، رغم الأهمية البالغة للأبعاد الأخرى وخاصة على فئات عمرية معينة.. فتحت مختبرات البحث في العلوم الطبية على أسئلة جديدة وأبحاث تتوخى الإحاطة باﻟﭬﻳﺭوس مصدر الوباء، وإيجاد اللقاح والمصل المناسبين له. أما إجراءات الحجر وحالة الطوارئ فقد تَمَّ لاحقاً التفكير في كيفية التخلص منهما، لما لهما من آثار سلبية على نظام الحياة والإنتاج السائدين في المجتمعات البشرية منذ عقود من الزمن.
أدخل الحجر الصحي المجتمعات التي التزمت به، في دوائر الإخلال بنمط الإنتاج والاستهلاك السائدين في مجتمعات السوق المتعولم. فقررت أغلب البلدان التي اكتوت بمخاطر الجائحة بعد مرور أكثر من شهرين، رفع الحجر الصحي وإلغاء قوانين الطوارئ ثم إعلان التعايُش مع الوباء، مُكتفية بمواصلة بعض الإجراءات الوقائية المرتبطة بدرجات معرفتنا بالوباء، وكيفيات الحد من توسع انتشاره..
لم أتحمَّل لا خبر حلول الوباء بديارنا، ولا قرارات الحجر الصحي وقرار رفع الحجر والتعايش مع المجهول. ولأنني أعتبر أن نمطاً من أنماط العزلة المختارة أصبح جزءاً من حياتي منذ تقاعدي عن العمل، وانخراطي في التعايُش المتفائل مع صوَّر الوهن التي لحقتني منذ ما يزيد عن عقد من الزمان. نفذت قرارات الحجر الصحي، واستأنست بعزلةٍ صَاحبتُ فيها هواجسي وكتبي وأحلامي، مختلف أشكال الحنين التي أصبحت تتقاطع في وجداني دون توقف، طيلة ساعات قراءتي أو سماعي للموسيقى، أو استرخائي وحرصي على معاينة وتحسس نبضات جسدي..
أمر واحد لم أستطع التخلص منه، قبل إعلان الحجر وتعطيل وسائل النقل البحري والجوي وبعد رفعه وإعلان ضرورة التعايُش الحذر مع الوباء، يتعلق هذا الأمر برغبتي القوية في السفر، وقد تحولت في السنوات الأخيرة إلى نمط من أنماط حياتي، حيث استأنست منذ سبعينيات القرن الماضي، بالسفر المنتظم لقضاء العطل المدرسية والجامعية في المخيمات في أوروبا، منطلقاً من اعتبار أن حظوظ المغرب الجغرافية المتمثلة في قربه من أوروبا، تُعَدُّ امتيازاً يضع مجتمعنا على أبواب عالم آخر، بألوان ومذاقات وأصوات وحيوات أخرى.. ففي أقل من نصف ساعة اليوم، وما لا يزيد عن ساعة في سنوات سفري الأولى في الباخرة أو في الطائرة، ننتقل إلى ميناء الجزيرة الخضراء في الجنوب الإسباني، أو نَحلُّ بإشبيلية أو ﭭﻠﻧﺴﻳﺎ، فنغادر عالماً ونَحل بعالم آخر.. استأنست بذلك، وأصبحت عوالمه جزءاً من حياتي.. فماذا يمكنني أن أفعل الآن أمام مختلف الإكراهات التي صنعت الجائحة في مجتمعنا؟
– 2 –
مَرَّ الآن شهر كامل على رفع الحجر التدريجي، المصحوب بمواصلة حملة إعلامية تؤكد استمرار وجود اﻟﭬﻳﺭوس في مجتمعنا، وتدعو المواطنين إلى الالتزام بالإجراءات التي تُمَكِّن من محاصرته، إلا أن التعايُش الذي تَمّ اختياره لتدارك الأزمة الاقتصادية، التي تضاعفت في بلادنا بسبب سياسة الحجر الصحي، لا يُعَدُّ أمراً سهلاً، فقد عادت الحياة في الظاهر فقط إلى سابق عهدها، وظلت أمور كثيرة غامضة.. استأنس الذين لم يتعودوا المكوث في بيوتهم بالبقاء فيها، والذي عادوا إلى أعمالهم عادوا إليها بأقنعة، وبكثير من الخوف والحذر من اﻟﭬﻳﺭوس الذي يتربص بهم، ومن أخباره التي تلاحقهم مُذَكِّرَة بعدد المصابين وعدد الضحايا، وقد تحولت إلى العنوان الأول والأبرز في النشرات الإخبارية، وفي الحكايات المتداولة في وسائل التواصل الاجتماعي.. حيث ترتفع درجات الهلع والخوف، وحكايات الموت والحياة، وتُعم كثير من الجهالات والأخبار الملفقة. الأمر الذي يفيد أن رفع الحجر لم يُعِد الحياة كما كانت، وبحكم أن اﻟﭬﻳﺭوس ما زال يقيم بيننا فإنه يصعب أن تعود الحياة بالمذاقات والصوَّر التي كانت تمتلكها قبل قدومه..
يتواصل منع الناس من إقامة تجمعات الأفراح وطقوس الجنائز، كما يتواصل منع الأنشطة الثقافية والفنية، ولأن رفع الحجر حصل ونحن على أبواب فصل الصيف، وهو الفصل الذي اعتاد الناس بمقدمه مغادرة بيوتهم بحثاً عن المصايف في البحر والجبل، فقد فوجِئوا باستمرار إغلاق الحدود والاكتفاء بتنظيم رحلات سفر استثنائية تخص حالات وفئات معيَّنة، وذلك في سياق ما ترتَّب عن الجائحة وتداعياتها، إضافة إلى مواصلة الحديث عن إمكانية حصول موجة ثانية من الوباء والعودة مجدداً إلى الحجر..
انتعشتُ برفع الحجر الصحي واعتبرت أنه حصل في الوقت المناسب، ذلك أن مواعيد سفر الصيف تقترب وستتيح لي التخلص من أعباء وضغوط الوباء والحجر، ولأنني لم أخلف مواعيد العطلة الصيفية طيلة سنوات عملي، فقد بدأت أخطط وأُرتب وأستعيد في الآن نفسه، الملامح الكبرى لجوانب من الجغرافية السياحية الأوروبية في الجبل والبحر، في الجزر وفي القرى والمدن التي تحمل عطور التاريخ، وتتزيَّن بألوانه في المعمار وفي الدروب والأزقة.. ولأن كل ما أشرت إليه وَشَمَ جسدي ووِجْداني، فقد انتظرت أن يرفع الحجر الصحي وتفتح الحدود، قصد اقتناص رحلة تمكِّنني من ارتياد أمكنة أخرى، إلا أن شعار التعايش مع الوباء المُعلن لم يفتح الباب للسفر، وكأنه يقول لأمثالي من الذين ألفوا رحلات الصيف والبحر، تعايشوا مع ﭬﻳﺭوس بلدكم واتركوا ﭬﻳﺭوس الآخرين لهم.. فشروط الوباء قاسية، ومواجهته تتطلَّب التخلص من كثير من أنماط العيش والاستهلاك، التي أصبحت جزءاً من حياتنا.. أنتظر كل يوم خبر عودة الطيران والبواخر إلى سابق عهدهما.. أنتظر الزيارة الصباحية والمسائية لبعض الشواطئ، أحِنُّ إلى إيقاع الموج في الصباح ونسائمه الناعمة في المساء.. وأُعايِن أيام الصيف تتحرك ولا جديد تحت الشمس الحارة والملتهبة في كل مكان.. وأتساءل بكثير من الأسى كيف نوقف إكراهات الجائحة؟
– 3 –
اتصل بي أحد الأصدقاء من عشاقَ السفر، وسألني هل هناك جديد في موضوع السفر؟ فأخبرته بأنني ما زلت أنتظر تعميم مبدأ التعايُش مع اﻟﭬﻳﺭوس دون تمييز بين الداخل والخارج، أي دون تمييز بين الوباء في إفريقيا وفي باقي قارات العالم، فالجائحة اليوم كونية، وأفترض أن اﻟﭬﻳﺭوس متشابه هنا وهناك.. إلا أنني اكتشفت أثناء مكالمتي الهاتفية معه، أنه اختار أن يسافر إلى أحد المصايف شمال المغرب، بحكم المزايا التي تتمتع بها شواطئ البحر الأبيض المتوسط، مقارنة بشواطئ المحيط الأطلسي.
أخبرته بأنني ما زلت أنتظر إمكانية فتح الحدود والسفر إلى أوروبا.. فخاطبني قائلاً إن سنة كورونا ستكون بدون سفر، فقد أصبحت أغلب المجتمعات تربط بين الوباء وبين المهاجرين والمسافرين القادمين من جهات مختلفة.. اختلطت الأمور ولم يستطع أحد أن يعرف أصل الداء ومصدره.. فلنُغلق الحدود، ونوقف وسائل النقل، وليتعايش كل منا مع جائحته.. فقلت له، لعلك نسيت أنني أسافر بحثاً عن أمر هام، سبق أن حدَّثتك عنه.. إنني أريد السفر إلى أوروبا لأواصل البحث عن عيون الموناليزا، وأنني كلما تقدمت في السن، أتصوَّر أنني أصبحت قاب قوسين أو أدنى لوضع العين في عيونها.. فكيف تمنعني كورونا هذه السنة من مواصلة البحث عن سرّ العيون، التي انطلقت في عملية البحث عنها منذ ما يقرب من نصف قرن؟.. وذكَّرته بالأشواط التي قطعت في هذا الباب، وأنا أتجوَّل في مدن أوروبا الجنوبية وأوروبا الوسطى، وفي مدن وقُرى الشمال الأوروبي الباردة.
ما زلت أُمَنِّي النفس باقتراب الانفراج، حيث يمكن التخلص من متاعب كورونا وإكراهاتها القهرية، وذلك باكتشاف التلقيح المناسب والعلاج المناسب، فهي ليست أخطر من ﭬﻳﺭوسات أخرى نجح البشر في محاصرتها والحدِّ من ضحاياها.. أُمَنِّي النفس بذلك، وبعودة المياه إلى مجاريها.. إنني أحلم وأنا أقرأ وأكتب كما تعودت قبل كورونا، أحلم بزمن تتحول فيه أحداث ما يجري اليوم في عالمنا إلى أثر بعد عين، أحلم بالغناء والبكاء.. أتغنَّى بأدوار العلوم الطبية في الانتصار على كثير من عللنا، وأبكي خسارات الفقدان.. أُعَايِن وسط مجتمعات الحجر والعزل والموت، فصول روايات تروي سرديات الجائحة، كما حصلت وتطوَّرت ثم اختفت، روايات تتحول فيها كورونا إلى مجرد سياق تنتظم في تلافيفه مرويات تحكي جوانب من انقباضما وجزعنا.. من شجوننا وبؤسنا، روايات ونصوص نُعاين في تداعياتها قساوة الأوبئة وما تلحقه بنا من أوجاع. فلننخرط جميعاً مسلحين بالتفاؤل والأمل، ولنضع باقات ورد ملوَّنة فوق مقابر ضحايانا في كل مكان، دون أن نتوقف عن الكتابة والحب والغناء.. دون أن نتوقف عن التعلق والتطلُّع إلى عيون الموناليزا..
لكن مَتَى يحصل ذلك؟ ولماذا لا نعمِّم التعايش مع اﻟﭬﻳﺭوس في الداخل والخارج، فنسافر كما يحلوا لنا، ونواصل بحثنا عن سحر العيون التي نشعر في كل مرة أثناء سفرنا أننا نقترب منها.. نراها في الشوارع صباحاً كما نراها في الشواطئ والمقاهي ظهراً ومساءً، نصادفها في الحدائق والمتاحف، وفي أبواب محطات القطار، المزينة بأشكال وألوان من المعمار الذي يخاطبنا بصوَّر ولغات عديدة..
فلماذا تمنعنا كورونا اليوم من مواصلة حلمنا بالنظر في عيون الموناليزا؟