ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ
كانت مصادفةً أَن أكونْ
ذَكَراً …
ومصادفةً أَن أَرى قمراً
شاحباً مثلَ ليمونة يَتحرَّشُ بالساهرات
ولم أَجتهدْ
كي أَجدْ
شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً !
(محمود درويش)
كان مصادفة أن ولدنا في أجسادنا. الجسد غلافنا الذي يقدمنا إلى العالم بهويات يحددها المجتمع. كيف يتعامل الكاتب/ة مع هذا المجسم الإجباري الذي وُجد فيه؟ هل ساءل يوما علاقته به؟ هل يمكنه أن يختار التدخل فيه لتجميله أو تحويله؟
ثم إن الكاتب/ة، له قدرة اختيار الجسد الذي يكتبه، فيتحول الأمر إلى نوع
من المساكنة داخل هويات جنسية أخرى. هل يتدخل الكاتب/ة في هذا الاختيار؟ وهل يسمح للذات وهي تكتب أن تنزاح لستستقر داخل جسد مختلف عن جنسه؟
1- مسألة الجسد في العالم العربي تحديدا ليست مسألة هينة؛ لأن الأمر بالأساس يتعلق بكيان معتقل داخل حزمة من المفاهيم التقليدية والأعراف والأطروحات الدينية، التي موضعته وقولبته في منظومة أخلاقية جاهزة لا تساعد لا على التحرر ولا على الخروج من دائرة ما هو جاهز وسهل. الجسد هوية خاصة واستثنائية، من هذا المنطلق فهو يحتاج إلى مفهوم شمولي لاستيعابه لأنه ليس مجرة معزولة عن الجاذبيات والمؤثرات المختلفة، بل هو موجود في عمقها وهي التي تحدد الكثير من الفواصل التي يتم من خلالها فهم هذا” الجسد” في تجلياته المختلفة بمعنى ؛ هل يقع الجسد خارج مدارات علم النفس والسياقات الاجتماعية والمعضلات الذاتية وغيرها؟؟؟ من هنا تتحدد الكثير من الاستراتيجيات الاجتماعية والنفسية بمفهوم الجسد والاستناد عليه واختراق الحواجز التي تعيق انطلاقه و حريته.
إن الجسد كلي ولا يقبل بأنصاف الحلول التي يفرضها المجتمع. منذ اللحظة الأولى التي تبدأ فيها العلاقة مع الجسد تنهض التقاليد والعادات كآلة لنخره وتدميره ووضعه خارج نظام الطبيعة، فيصبح ختان البنات مثلا في بعض المجتمعات وسيلة وأداة لغرس هذه” الإهانة ” في نفسية الطفلة الصغيرة بعملية البتر الجزئي للبظر لأنه مصدر المتعة ومصدر الخطيئة أيضا، وعندما يكبر هذا الجسد ليصبح مسؤولا عن نفسه إلى حد ما، ينشأ إشكال آخر ليس بعيدا عن الأول، حيث يتحول دم العذرية إلى رمزية للشرف كما تحدده المنظومات الفكرية المتسيدة إذ ينحصر هذا الشرف في ائرة ضيقة من الجسد نفسه أي غشاء البكارة، هذا الغشاء الذي يمكن أن يؤدي إلى إتلاف هذا الجسد أو محوه كليا بفعل القتل، دفاعا عن الشرف أو ما يسمى كذلك، في هذا الوضع، تصبح المعطيات الثقافية والمستوى الفكري للمرأة وقدراتها العقلية لا قيمة لها في حكم هكذا، أو توضع هذه القيم النبيلة في الرتبة الصفر بالقياس لرتبة غشاء البكارة التي يعطيها المجتمع له. ينجر عن هذا كله زواج لا يختلف عن الاغتصاب، إذ ان الجسد النسوي جسد مستباح باسم الوثيقة الزوجية، التي تعطي الحق الشرعي والقانوني للزوج بأن يمارس على هذا الجسد كل عقده المستفحلة، فيصبح الجسد النسوي كأداة للمتعة وتلبية رغبات ذكورة مريضة وليس فاعلا في أنسنة الفعل الجنسي، ولكن مفعول به، وعلى هذا الجسد أن يتحمل ذلك كله في صمت، أي أنه يدخل في سجنه الرمزي الذي يجعل من الصراخ أو ردة الفعل شيئا مهينا ومشينا وغير مقبول؛ لهذا يكون رهان الجسد هو رهان الحرية التي لا يمكن أن نلمسها عن قرب بدون حضور الجسد كطاقة إيجابية متحولة وليست ثابتة، كلما كان جسدي مقيدا بالأعراف فهو ليس لي ولكنه ملكية للمؤسسة الاجتماعية والدينية. هذه الحرية تبدأ باستعادة هذا الجسد وامتلاكه من جديد ورفض امتهانه واغتصابه؛أي أن يسترجع قدسيته ليس بالمعنى التقليدي ولكن بالمعنى الإنساني؛ أي احترامه ككيان مستقل له مالكه الأساسي والجوهري الأنا الحقيقية وليس الأنا المستعارة. الحرية لا تعني مطلقا تحويل الجسد إلى سلعة وابتذاله واسترخاصه لكن كقوة خلاقة وطاقة حيوية إذ لا يمكن لجسد مستعبد أن يكون صاحبه حرا. ولهذا كتابة هذا الجسد ليست كتابة خطية لكنها كتابة تحمل كل الكسورات وتستعيد هذا الزمن الصعب الذي استباح الجسد بكل ما استطاع من بشاعة، حروب، تشريد، اغتصابات، زنى المحارم، جرائم الشرف، وكل البشاعات التي مارسها ويمارسها الإرهاب في كل صوره.
2- طبعا، نحن لا نختار أجسادنا ، نولد فيها ومعها، تكبر معنا ونكبر معها. جسدي بطبيعة الحال هو لي لكن المؤثرات الاجتماعية والثقافية التي تربيت عليها هي راسخة إلى حد كبير، تعليمي ورصيدي الفكري والثقافي والمعرفي كل ذلك عمل ويعمل باستمرار على زحزحة بعض المسلمات والرواسب المتكلسة التي يرغب ويشتهي المحيط أن يحافظ على ثباتها وموقعها مهما كان عمرنا. أومن أن الجسد ليس سلعة تباع وتشترى. أنا من جيل فتح عينيه على مصطلحات مرتبطة أساسا بتصرفات البنت والعلاقة مع جسدها ( حشومة، عيب، حرام) الكثير من الطابوهات كان علينا كسرها والعمل بجدية لإيجاد الطريق المناسب لفرض ذواتنا عن طريق الدراسة والعمل. حظي الأكبر كان في مواصلة الدراسة وفي موهبة الكتابة، التي فتحت لي الكثير من المجالات وآفاق التعبير عن هواجس المجتمع والدخول في عمق الإنسان، محاولة لمس ما تخفى من شروخات وجراح وعلى رأسها هموم المرأة وهاجس الحرية والعلاقة مع الجسد.
3- في اللحظة التي نظن أننا نكتبنا، فنحن نكتب الآخر المخالف أو المشابه لنا أو القريب منا أو الذي تسكنها هواجسه، من خلال ما نصادف من صور وممارسات في المجتمع، وما يختزن في ذاكرتنا من موروث اجتماعي وثقافي الذي يتوزع في ما نكتبه عن وعي أو غير وعي؛ فتيمة الجسد موزعة في الكثير من قصائدي بنحو أو بآخر انطلاقا من حالات اجتماعية وسياسية معينة؛ الاجتماعي مرتبط بواقع المرأة كرهينة، من القصائد التي تطرقت لهذه النقطة، قصيدة “حيزية وقلبي وأشعار دم” والتي كتبتها في نهاية السبعينات. قصائد أخرى مكتوبة باللهجة العامية أو ما يسمى بالملحون تتطرق لمختلف أنواع العنف ضد المرأة حيث يكون الجسد مسرحا سهلا لها مثل قصيدة النافسة وقصيدة العاڤرا وقصيدة نوارة لهبيلة وغيرها. مجموعتي الشعرية رباعيات نوارة لهبيلة باللغة الفصحى والتي هي عبارة قصيدة واحدة في 100 صفحة تقريبا تطرح جسد المرأة المستباح من خلال الفتاوى والممارسات الإرهابية. في مجموعتي “عطب الروح” أحاور جداتي المتعددات عن جرح الجسد بالمفهوم الوجودي.
كاتبة- الجزائر