محكي قصير: حريق وسط الجحيم

أعاد عنزاته المعدودة إلى مرقدها لما أنهت رياح الشرقي العاتية هجومها على الوهاد الشمطاء، إلا من قضيض أحرش تتخلله العقارب… كان يفرك عينيه بقوة عساه يهدئ من حريقها نتيجة شوائب الغبار المتطايرة… الشمس تودع الأفق والعين تتراءى لها خيوط مطر الرعد الذي أزبد في ناحية جهة المغيب…
كان كمن يحدث نفسه متمنيا لو صبت على الأقل في الوهاد التي ينتجع فيها أحجارا وعقارب… كان يمني لو كانت قد صبت هنا لتوقف زحف الشرقي اللعين وتغسل حزنه الكئيب منذ أن فقد صغيره الوحيد بلسعة عقرب…
هدوء كئيب بعد أن رحل صفير الشرقي كسره نهيق حمار تعيس وصفير دجاجة مبعثرة الريش تجمع ما نجا من صغارها بل ما نجا من افتراس الجوارح والزواحف، فالمنطقة قفر زاد من هول كآبتها جو غشت الحار ومشتقاته المتعبة… لا شيء يوحي بأمد الحياة هناك…
الرجل أعياه كل شيء ولم يقو حتى أن يزيل الحذاء المطاطي ذي الرائحة الكريهة من قدميه.. توسد أقرب كومة قماش إلى جسده الممدد ولم يستفق إلا على طرقة مغرف على إناء الحساء الحديدي.. الزوجة التعيسة توقظه بعدما أعدت بعض العشاء… وما كان إلا أن لقف كسرة خبز تفوح منها رائحة الخميرة يلقم منها قطعة ومن جبانة الحساء شربة طويلة إلى أن امتلأ المعي ثم استدار مجددا بعد أن أزال الحذاء باحثا عن كومته المتوسَّدة…
جمعت المسكينة الأواني دون غسيل وتسمرت في مكانها كمن يندب حظها، وما لبثت إلا قليلا حتى قامت محضرة كيس صوف وقرشال لتعد المواد الخام لنسج بطانية تقاوم بها هي ومن تنكس سعده معها برد الليالي، أو يبيعانها ليأخذا بدلا منها بعض المواد الأساسية… بقيت مع قرشالها إلى أن نال منها النعاس فمالت كمن قلع جذع شجرة على جنبها تاركة الشمعة التي ما انطفأت حتى اشتد لهيبها في الصوف وستائر الخيمة ونعاس الزوجين التعيسين…
طلع الصباح رمادا في المكان ولم ينج من الحريق المهول إلا العنزات المعدودة التي نقلها أحد الرحل إلى قطيعه حتى يتسنى له إيصال الميراث البئيس لمن يملكون حق الإرث في راع تعيس في قطر تعيس أثناء عيش تعيس.

(+) فاعل مدني وتربوي


الكاتب : محمد باجي *

  

بتاريخ : 19/08/2020