تعتبر «النّسائية الجهاديّة» عالما واسعا له مداخله الخاصّة وغرفه الخفيّة، يشتبك مع الجهاديّة العالميّة في تطوّرها التّاريخي، لكنّه ينفصل عنها في لحظاتٍ معيّنة، فهو يرتبط بخصوصيّته الجندريّة خاصّة في المجتمعات العربيّة والمسلمة، التي يتمّ فيها تحديد موقع منفصل ومغاير لدور المرأة عن موقع ودور الرّجل؛ وهي القضيّة التي تبدو أكثر بروزاً وإشكاليّة في أوساط الجهاديّين، الذين يرون بأنّ عمليّة الفصل والتّمييز بين الرّجل والمرأة مسألة دينيّة وفقهيّة، وأنّ أحكامها ثابتة مستقرّة لا جدال فيها. إذن كيف يمكن، ضمن هذ الرّؤية المحافظة للجهاديّين، أن نفهم التّحولات والتّطورات الأخيرة التي طرأت على دور «المرأة الجهاديّة»، وانتقالها من أدوار تقليديّة لدى الجماعات الجهاديّة؛ بوصفها ربّة منزل ومربيّة للأبناء إلى امرأة جهاديّة انتحاريّة»؟ بل كيف يمكن تفسير التّعارض المفترض بين طبيعة هذه التّنظيمات المتطرّفة والدّموية من جهة، وبين طبيعة المرأة العاطفيّة التي لا تميل عادة إلى هذا النّمط من الحياة والسّلوك من جهةٍ ثانية، فهل ثمّةّ تضارب بين الطبيعتين فعلاً؟ أم أنّ هذه الفرضيّة غير دقيقة من الأساس؟
لقد تداخلت وتنوّعت العوامل التي بفعلها تحوّلت النّساء إلى “عاشقات للشّهادة” تحت راية تنظيم الدّولة الإسلاميّة؛ فهنالك من كان مدخلهنّ للسّلفية الجهاديّة هو الجانب السّياسي؛ أي الشعور بالقهر والذلّ من الهزائم، والذي بدأ لدى بعضهنّ مع حرب الخليج الثّانية (1991) مثل فتيحة المجّاطي؛ وكثيرات تأثّرن بالأزمة السّورية الحاليّة، وهنالك في المقابل من النّساء من كان مدخلهنّ دينياً أو روحياً، مثل حسناء بولحسن ومليكة العرود؛ أي الشّعور بالحاجة إلى الانتقال من حياة لادينيّة إلى حياة دينيّة، وهنالك حالات كان المدخل فيها إنسانيّاً، مثل الطبيبات السّودانيات، وأخريات كان مدخلهنّ هو البحث عن المشروع البديل للحداثة الغربيّة، وهنالك من التحقن بفعل أزمات عاطفيّة يعانين منها…، ولكن ما يجمع بين كلّ الحالات هو “موضوع الهويّة، فالأزمات السّياسية والذلّ والهوان والمداخل الإنسانيّة والعاطفيّة والروحيّة كلّها وجوه متعدّدة لسؤال الهويّة، وقد برع التّنظيم في استثمار وتوظيف النّقاط والخطوط الحسّاسة لهذا السّؤال عبر استنطاقه “الهويّة المتخيّلة” عن المجتمع المسلم الذي يحكم بالشّريعة، والحياة الرّوحية المريحة، ورضوان الله، والشّهادة، وإقامة الخلافة، والدّفاع عن المسلمين، ومواجهة الصّليبيّين والشّيعة وإيران والأنظمة العربيّة الفاسدة، فكلّ هذه العناوين يمكن أن نجدها في كتاب الهويّة وفصوله وأبوابه المختلفة والمتعدّدة”[18].
لقد ارتكز كتاب “عاشقات الشّهادة: تشكّلات الجهاديّة النّسوية من القاعدة إلى الدّولة الإسلاميّة” على بعدين؛ أحدهما أكاديمي والثاني تطبيقي؛ فقد بحث مؤلّفاه على مدار 514 صفحة -ومن خلال الشّهادات الميدانيّة- دوافع التحاق النّساء بالتّنظيمات المتشدّدة والمتطرّفة بالرّغم من أنّ هذه التّنظيمات تنتهك أبسط حقوقهنّ، كما تناول دوافع انسلاخهنّ عن مجتمعاتهنّ وتحولهنّ إلى مقاتلات وعناصر مؤثّرة في تنظيمات متشدّدة تحلّل القتل والإفساد في الأرض باسم الدّين، وبذلك يكون هذا الكتاب مساهمة فعّالة في النّبش في مناطق مهملة ومسكوت عنها في مسار كثير من الإرهابيّات لم يسبق التّطرق لها قبلا، أو تناولتها بعض الدّراسات بنوع من الاحتشام.
فمن خلال 47 بورتريه لإرهابيّات اختلفت تجاربهنّ يكشف الكتاب -وهنا تكمن أهميّته- عن الخلفيّات الشّخصية والنّفسية لهذا الصّنف من النّساء، والتي دفعتهنّ إلى ولوج عالم التّطرف، ومن ذلك الهشاشة النّفسية والتّفكّك الأسري والحياة الاجتماعيّة الصعبة…، وهي عوامل استغلّتها الجماعات الإرهابيّة لجذبهنّ واستغلالهنّ ودفعهنّ إلى الحلم بعالم وهميّ وسط تراجع دور الأسرة والمجتمع وكلّ الفاعلين فيه. فاستخدام المنظّمات الإرهابيّة للمرأة في تنفيذ العمليّات هو بمثابة ميزة استراتيجيّة مهمّة أكثر من مشاركة الرّجال أنفسهم في هذه العمليّات، فالمرأة تستطيع التّهرب بسهولة من إجراءات الكشف والأمن، بالإضافة إلى العامل الإعلاميّ الذي سيقوم بتضخيم الخبر في حال اكتشاف أنّ امرأة هي المسؤولة عن العمليّة أو المشاركة فيها.
لكن ما يؤاخذ على الكتاب هو أنّه لم يبحث في عالم نساء لا علاقة لهنّ بالفعل الإرهابيّ مباشرة، ولكنهنّ على علاقة بالجناة أو بضحايا فعل الإرهاب وهنّ كثيرات، وهو الأمر الذي ستتوسّع فيه الكاتبتان “أمال قرامي” و”منية العرفاوي” في كتابهما “النّساء والإرهاب”، والذي خلصتا فيه إلى أنّ المرأة حين “تتّخذ من العنف المادّي وسيلة للتّغيير، وتلحق الأذى بالأبرياء فإنّها تربك نسق التّمثّلات، فتقضي على التّصوّرات التّقليديّة التي يحملها المجتمع البطريكي عن النّساء. لا يعدّ ذلك نوعًا من التّعاطف تجاه هذا السّلوك القائم على العنف والقتل، بقدر ما يمثّل حافزًا لإعادة النّظر في منزلة المرأة اجتماعيًا وسياسيًا منذ صدر الإسلام بعد أن جرى استبعاد حضورها في الحروب والغزوات من المؤرّخين، وهذا ما يجعل تفكيك الظاهرة الإرهابيّة الحاليّة أمرًا أكثر شموليّة”[19]. فضمن هذا السّياق تصرّح مؤلّفتا الكتاب، أنّه جرى استغلال النّساء بشكل مروّع، وذلك من خلال تحفيزهنّ على الانتقام “بدافع دينيّ أو جنسيّ أو ثقافيّ من كلّ سلطة لحقت بهنّ، حتّى إنّ مشاركتهنّ في القتل أصبحت بمنزلة ردّ اعتبار لهنّ ومحفّزا على إثبات كينونتهنّ، فرُبَّ عدميّة كهذه تدفع بامرأة ما إلى أن تتباهى أمام الكاميرا بحمل السّلاح ولا تتوانى عن الإشادة بالعنف الممارس في “الدّولة الإسلاميّة”، بل وصل الأمر ببعض الفتيات إلى حمل رأس من نفّذ فيه الحدّ، فهذه العدميّة التي لا يحكمها غير قانون الدم لم تسقط فيها نساء ورجال التّنظيمات الإرهابيّة فحسب، بل سقط فيها أيضًا من يصدّر نفسه الآن مدافعًا عن الأوطان ضدّ الإرهاب (نموذج نظام الأسد)، وبذلك يمكن القول بعدم إدانة التّنظيمات الإرهابيّة وحدها بقدر ما يمكن إدانة بعض الأنظمة المحاربة له كذلك، لأنّ دكتاتوريّتها وعجزها أفضيا بشكل أو بآخر إلى صناعة الإرهاب أو التّواطؤ معه، وهو ما سيغذّي بالضّرورة ضراوة الحرب الدّائرة”.[20]
في الختام، نخلص إلى أنّ التحاق النّساء بالتّنظيمات الإرهابيّة يعدّ “طفرة” في حدّ ذاته، وبذلك تكون فرضية العودة إلى الوراء أو التّراجع فرضيّة ضعيفة، خاصّة مع توافر الشّروط السّياسية والمجتمعيّة المغذّية للرّاديكالية، ما يعني أنّ المرحلة القادمة -حتّى لو تراجع تنظيم الدّولة الإسلاميّة وفقد سيطرته على كثير من المناطق التي تحت سيطرته- ستشهد حضوراً متزايداً للنّسائية الجهاديّة التي قطعت مسافة كبيرة في الصّعود والانتشار، وما يعزّز هذه الفرضيّة هو أنّنا أصبحنا أمام ظاهرة جديدة تتمثّل في “العائلات الجهاديّة”، أو كما اصطلح عليه مؤلفا الكتاب بـ”المجتمع الجنيني الجهادي” الذي أخذ يتشكّل في بعض المجتمعات العربيّة والمسلمة، وبصورة خاصّة في العراق وسوريا؛ فكثير من النّساء قمن بالزّواج هناك، وأنجبن أبناء وبنات، وأصبحن ملتحمات بالتّنظيم إلى درجة كبيرة.