لمْ تمْضِ على وفاة أمجد ناصر إلا ثلاثةُ أشهر حتّى اغتنى حقلُ الدراسات النقدية بأول مقاربة أكاديمية تُعْنى بقراءة نتاج الشاعر من زاوية الكتابة وعلاقَتِها بالجسد. هكذا يتقدّمُ عمل الباحث المغربي يوسف البهالي والموسوم بـ: «الكتابة والجسد في شعر أمجد ناصر». وهو الكتاب الصادرُ مطلع 2020 عن دار توبقال المغربية، في طبعةٍ أنيقةٍ، وضَعَ صورةَ غلافِه الفنان فاسيلي كاندينسكي، من القطع المتوسط، وبلَغَ عدد صفحاتِه 250 صفحةً.
أصلُ الكتاب دراسةٌ تقدّمَ بها الباحثُ لنيل شهادة الدكتوراه، وهو ما يعطي للعمل طابعاً أكاديميّاً صرفاً، يستمدُّ أهمّيته من انتسابه إلى الأعمال القلائل التي تتناول التجربة الشعرية لأمجد ناصر؛ استناداً إلى ما تُتيحُه الشّعرية من أدواتٍ للمقاربة، وإلى منطق تحليل نسَقي يتتبع التجربة في أبعادها التاريخية والثقافية والشعرية. وهو ما ساعَد على استخلاص دروس أساسية في محاورة الشعر من جهة، وفي الحوار الثقافي؛ بما هو فكرٌ ونضال من جهة ثانية.
والظاهرُ أن الباحث انطلق من القصيدة، منصِتاً، ومحاولاً صياغة إشكالية موضوعه، تقودُه في ذلك أسئلة مُوَجّهة تخُصُّ تجربة أمجد ناصر وعلاقتها بالكتابة والجسد. وقد أجمل البهالي ذلك في سؤالين هما: كيف تمثّلت كتابة أمجد ناصر الجسد وأبدلت وضعياته في القصيدة؟ وكيف راهن هذا الجسد على تفكير ذاته شعرياً بما يجدِّدُ بناءه من قصيدة إلى أخرى؟
ارتباطاً بهذين السؤالين، صدر الكاتب عن ثلاث فرضيات وجّهَت اشتغاله، ورسَمت الحدود، أولها الانطلاقُ من «فرضية الإبدال» بالنظر إلى أن مفهوم الكتابة عند أمجد قد عرف إبدالاً بانتقاله من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر. وتتمثّل الفرضية الثانية في «وعي أمجد بالجسد» واشتغال هذا الأخير في البناء النصي والدلالي للقصيدة. أما الفرضية الأخيرة فتتعلق بـ: «علاقة الجسد بالبناء».
حصَرَ الباحث عيّنة المتْنِ الذي اشتغل عليه في حُدودِ الأعمال الصادرة حتى سنة 2010، باعتبار ذلك اختياراً منهجيّاً يرُومُ ضبْطَ المتن، وتحصينَه من الشتات؛ خُصوصاً وأنّ أمجد ناصر استمرَّ في إصدار أعمال شعرية كان آخرها «شقائق نعمان الحيرة» سنة 2019.
منهجِياً، راهن البهالي، في مقارَبتِه للعيّنة المدرُوسة، على «الشعرية» بما هي منهجٌ يحُقِّقُ انفصاله عنِ النّقد بالتخلّي عن أحكام القيمة، ولا يستعْجِلُ النتائجَ أو يطمَئِنّ إلى المُعطى والجاهز. وقد انسجم اشتغالُه بهذا المنهج مع رهان الانطلاق من القصائد لبناء القضايا ونحت المداخل القرائية، فيما اهتدى بـ: «شعرية الإيقاع» كما تمثّلَتْها كتاباتُ الشاعريّ هنري ميشونيك.
ولمّا كانَ انشغال الدارس بسؤال الجسد في قصيدة أمجد، وزّع البهالي كتابه إلى قسمين، يضمُّ كل منهما فصلين. خصّص القسم الأول للوُقوف على علاقة الشعر بالجسد، انطلاقاً من تلمُّس العناصر التي تسند تصور أمجد ناصر للكتابة، ثم الانفتاح على صورة الجسد في القصيدة. وجاء الفصل الأول ناهضاً بالكشف عن تشعُّب ممارسة أمجد النصية، وتعدُّد أنواعها وأشكالها، بما يتيح الاقتراب من وضعية الشعر في كتاباته، كما تضمن الفصلُ استخلاصاً لمفاهيم القصيدة والشعر والكتابة كما تمثلتها ممارسة الشاعر، أي تجسيداً لمقولة الانطلاق من النص في اتجاه نظريته.
بالتّصوّر نفسِه، اشتغل الباحثُ في الفَصل الثاني من القسْم الأول على موضوع: كتابة الجسد، من خلال تتبع صورة الجسد في كتابات أمجد النثرية (تأملات، شهادات)، وتحققه النصي داخل القصيدة. على أنّ لصورة الجسد ووضعياته في النص الشعري نصيباً من الدراسة؛ حيث تنبّه البهالي إلى أن ديوان «سر من رآك» شكّل محطة فارقة في الكشف عن وعي جديد لحضور الجسد في النص الشعري، أصبح فيه منتجاً لدلالة متولِّدة من ممكنه، بعدما كان الجسد في الدواوين السابقة مجرد استعارة في خدمة دلالة. هذا، وقد اعتنى العملُ، برصد إبدالات الجسد في تجربة أمجد الشعرية، والبحث في الخصيصات المميزة لكل من جسد الكتابة، وكتابة الجسد.
وفي الفصل الأول من القسم الثاني الموسوم بـ «شعرية الكتابة والجسد عند أمجد ناصر»، وجد الباحث في المختبر النصي فضاء للاشتغال على علاقة الجسد بالقصيدة؛ وقوفاً عند «الجسد بما هو أرض للقصيدة»، ثم تأمل رهانات الذات الكاتبة في ممارستها النصية. ويرى البهالي بأن «حضور الجسد في البناء الشعري لأمجد ناصر قائم على تعدد الاختيارات، على اعتبار أن كتابة الجسد شكلت لديه سيرة شعرية، ومدخلاً لإعادة بناء التجربة»، مما سمح بدراسة الكيفية التي يعيد بها الشاعر كتابة نفسه.
أما الفصل الأخير، فقد جاء ناهضاً بمقاربة كتابة الغياب كموضوع في قصيدة أمجد، وذلك في انفتاح على علاقة الشعر بالموت. على أن الدارس لم يتوقف عند هذا الحد، بل راح يسائل وضعيات الموت وطرائق تمثله في القصيدة، ساعياً إلى «ملامسة كتابة الموت، بما هي فعل شعري يسكن ممارسة الشاعر». وفي الفصل إضاءة لذاكرة الحواس، ممثلة في الشم والعين اللتين اشتغل البهالي بتحديد وضعيتهما، وبالكشف عن فاعليتهما في بناء الذاكرة الشعرية.
يخلصُ يوسف البهالي، في نهاية اشتغاله على فصول الكتاب ومحاوره، إلى أن قصيدة أمجد النثرية لم تنفصل عن سؤال الحداثة الشعرية، إلا أن تصوره لهذه القصيدة ظلَّ محصوراً في شكل الكتابة الذي كرّس هشاشة الحدود بين الشعر والنثر. وفي ظل غياب أعمال نظرية مستقلة موازية للفعل الإبداعي، فقد شكلت الأعمال الشعرية نفسها المختبر الرئيس الذي يصدح بالتصورات النظرية الثاوية داخله، والمشتغلة فيه.
من جهة أخرى، توصّل الدارس إلى أن الكتابة عند أمجد ناصر، راهنت على الجسد كموضوع بدل أن تكون له فاعليته في البناء. وهكذا، بدا الجسد، انطلاقاً من هذا التصور، محجوباً، خافت الصوت، بعيداً عن بناء تصور شعري يجعل من حضوره حضوراً نسقياً في الخطاب.
وإذا كان العملُ منشغلاً بمقاربة سؤال الجسد في قصيدة أمجد، وباختبار وضعية اللغة والجسد في تفاعلهما مع فضاء الموت، فقد شكل ديوان «سر من رآك» محطة تحول شعري في المسار الكتابي للشاعر؛ معه توجهت الكتابة نحو أفق جديد أنصتت فيه للجسد نصيّاً ودلالياً، حيث تحول إلى تجربة ذاتية يتأمل فيها الجسد نفسه، ويفكر ذاته شعرياً من داخل القصيدة.
يتبدّى البناء المنهجي لهذا الكتاب دقيقاً، يلتزم بأهم مبادئ البحث المعرفي، من تقريب مفهومي، واستقراء نظري، ومراجعة نقدية، وترتيب مقولي، وتحليل نصي، وتركيب واستخلاص بنية. كما أنّ سؤال الحدود واضح، جنّبَ الباحثَ التناقض والإجراء المنفلت من القيود نظراًوتأويلا. كما أن لغته الواصفة رصينة، تستجيب لشروط النقد والتنظير، ولا يعتريها عائق تمثيل إضافي.
غيرَ بعيدٍ عن البناء، تضمّنُ العمل محاورَةً رصينةً للدراساتِ النقديّةِ التي اشْتَغَلت على مفاهيم الكتابة والجسد، مما منحَهُ قوّة مركبة في التوثيق والتحليل والتحصين النظري لآليات العمل. كما أنّ حصر الاشتغال على النص الشعري، بالنظر إلى تعدد أشكال الكتابة لدى أمجد، مكّنَ الدارس من الوقوف على المحطّاتِ المفْصلية التي ميّزت الممارسة النّصية لأمجد، بما يتّصلُ بتمثُّل الشّاعر للكتابة والجسد.
وبالجملة، يشكّل عمل الباحث يوسف البهالي «الكتابة والجسد في شعر أمجد ناصر» قيمة مضافة إلى حقل الدراسات النقدية العربية، من جوانب عديدة، أهمّها طريقة مقاربته لعنصري الكتابة والجسد في أعمال أمجد، الموصولة برهان مساءلة التّصوّرات النّظرية، التي تشتغل في متن الشّاعر. وبهذا الاختيار تجاوزت الدّراسة مجمل القراءات النّمطية التي تناولت هذه التجربة دون فصلها عن موضوع قصيدة النثر. وهو ما يجعَلُ هذا الكتاب إبدالاً لطرائق مقاربة أعمال الشاعر، ونحت مداخل وإمكانات قرائية جديدة تجعلنا نتعرف، من جديد وبشكل مغاير، على الجمالي والفني في شعر أمجد ناصر.