يعود الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت الاثنين ل”تقييم” خيار بدا منذ البداية محفوفا بالمخاطر، إذ إنه يراهن على تغيير سياسي جذري في لبنان بعد انفجار المرفأ المروع، في ظل إجماع على تصلب النظام اللبناني وعمق الأزمة.
وتستمر الزيارة يومين وتتخللها لقاءات سياسية، وهي الثانية لماكرون بعد زيارة أولى في السادس من غشت تصدرت اهتمام وسائل الإعلام، لا سيما بعد أن سار الرئيس الفرنسي في شارع منكوب، محاطا بلبنانيين رحبوا به، وطالب على مسامعهم المسؤولين اللبنانيين بإقرار “ميثاق سياسي جديد” وإجراء إصلاحات عاجلة.
ووعد ماكرون خلال زيارته الأخيرة بالعودة مطلع سبتمبر لـ”تقييم” التقدم الذي تم إحرازه. ولم يكن اختياره هذا الموعد من باب الصدفة، إذ يتزامن مع إحياء الذكرى المئوية الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير خلال فترة الانتداب الفرنسي.
ورغم مرور أكثر من ثلاثة أسابيع، لا يزال لبنان يلملم جراحه جراء الانفجار الذي أوقع 188 قتيلا وتسبب بإصابة أكثر من 6500 آخرين وألحق أضرارا جسيمة بعدد من أحياء العاصمة، إلا أن المشهد السياسي لم يتبدل ولم يدفع أيا من القوى السياسية إلى تقديم تنازلات أو إلى التنحي، وهو ما يطالب به عدد كبير من اللبنانيين الغاضبين الذين يحملون الطبقة السياسية مجتمعة مسؤولية الانفجار بسبب فسادها واستهتارها.
ولعل المتغير الوحيد هو تحديد رئيس الجمهورية ميشال عون صباح الاثنين موعدا للاستشارات الملزمة التي سيجريها مع الكتل النيابية لتكليف رئيس حكومة جديد، في خطوة قال الزعيم الدرزي وليد جنبلاط إن الدعوة إليها جاءت “حياء” قبل ساعات من وصول ماكرون.
ويقول مدير معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في بيروت جوزف باحوط لوكالة فرانس بريس “سيعود ليرى أنه لم يتم إحراز أي تقدم”، واصفا المسعى الفرنسي بـ”المجازفة السياسية لأنه تعهد بمتابعة المسألة، وهذا تعهد باسم فرنسا”.
ولم يصدر عن السلطة السياسية أو عن أعضاء المجلس النيابي ما يوحي أن السياسيين سيبدأون ورشة لإصلاحات سياسية قال ماكرون إن “لا مساعدات مالية دولية” من دونها.
وحددت الرئاسة الفرنسية الجمعة هدف الزيارة بـ”ممارسة الضغط حتى تتوفر الشروط لتشكيل حكومة بمهمة محددة قادرة على الاضطلاع بإعادة الإعمار والاصلاح”، مع ضمان أن يلتزم المجتمع الدولي بدعم لبنان الذي يشهد أسوأ أزماته الاقتصادية.
ولم تظهر حتى الآن أي بوادر توافق على اسم رئيس الوزراء المقبل جراء التباين في وجهات النظر بين القوى السياسية الرئيسية التي تبدو وكأنها قد صمت أذنيها عن سماع صوت اللبنانيين المحبطين الذين يصرون على محاسبة الطبقة السياسية كاملة ويرفضون عودة أي من رموزها إلى السلطة.
ويوضح مصدر دبلوماسي في بيروت لفرانس بريس أن “هناك مساع حاليا لتسمية رئيس مكلف قبل زيارة الرئيس الفرنسي، لكن هذا لا يعني أن تشكيل الحكومة سيحصل بسهولة”.
ولا يعني توجه لبنان إلى تكليف رئيس جديد للحكومة خلفا لحسان دياب الذي استقال على وقع غضب الشارع عقب الانفجار، أن ولادة الحكومة بات قاب قوسين. وغالبا ما تستغرق هذه المهمة أسابيع عدة أو حتى أشهر، بسبب الانقسامات السياسية والشروط والشروط المضادة.
ويقول الباحث والأستاذ الجامعي في باريس زياد ماجد لفرانس برس “مع هذه الطبقة السياسية، لا إمكانية لأي إصلاح جدي لأن سبب وجودها هو الزبائنية والطائفية والفساد”.
ويضيف “يودون فقط (حفظ) الستاتيكو القائم، ووصول الأموال لتهدئة بعض الغضب قليلا وانتظار الانتخابات الأمريكية”.
ويسود اعتقاد أن فوز المرشح الديموقراطي جو بايدن بالرئاسة في الولايات المتحدة من شأنه أن يخفف التوتر الذي يشوب العلاقات الأمريكية الإيرانية، ما سينعكس إيجابا على حزب الله، القوة العسكرية والسياسية الأبرز في لبنان، وبالتالي يعطي دفعا لتسوية جديدة برعاية دولية بينه وبين خصومه في لبنان.
ويشكل حزب الله الذي يتمتع بالنفوذ الأكبر على الساحة السياسية، أكثرية مع حلفائه في البرلمان، وسبق أن أبدى رفضه تشكيل حكومة “حيادية”، مطالبا بحكومة تضم القوى السياسية التقليدية.
حزب الله
وأعلن الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله الأحد أن الحزب منفتح على مناقشة الاقتراح الفرنسي بشأن التوصل إلى “عقد سياسي جديد” في لبنان شرط أن أن يكون “بإرادة ورضا مختلف الفئات اللبنانية”.
وقال نصرالله في خطاب “سمعنا دعوة من الرئيس الفرنسي في زيارته الأخيرة للبنان إلى عقد سياسي جديد”.
وأضاف “نحن منفتحون على أي نقاش هادف في هذا المجال (…) لكن لدينا شرط أن يكون هذا النقاش وهذا الحوار اللبناني بإرادة ورضا مختلف الفئات اللبنانية”.
ولم يحدد نصرالله ما نوع التغييرات التي ينوي الحزب أخذها بالاعتبار. لكنه أشار إلى أنه “سمعنا في الأيام القليلة الماضية من مصادر رسمية فرنسية انتقادات حادة للنظام الطائفي في لبنان” الذي “لم يعد قادرا على حل مشاكل لبنان والاستجابة لحاجاته”.
وكان حزب الله، القوة العسكرية والسياسية الأبرز، استبق مشاورات التكليف بإعلانه على لسان أمينه العام حسن نصرالله رفضه تشكيل أي حكومة “حيادية”، وهو المطلب الذي يرفعه بعض المحتجين والبطريرك الماروني بشارة الراعي الذي سيكون له لقاء مع ماكرون.
ودعا نصرالله الذي يشكل مع حلفائه أكثرية في البرلمان إلى “تشكيل حكومة وحدة وطنية، وإن لم يكن ذلك ممكنا، حكومة ذات أوسع تمثيل ممكن من سياسيين واختصاصيين”.
ولم تكن آخر تجربة “حكومة وحدة وطنية” برئاسة الحريري ناجحة، إذ سقطت بعد نحو ثلاث سنوات من تشكيلها على وقع احتجاجات ضخمة في الشارع في أكتوبر الماضي. وكانت تضم ممثلين عن معظم الأحزاب السياسية وولدت بعد سنتين من فراغ في سدة رئاسة الجمهورية إثر تسوية هشة شلت المؤسسات وعطلت القرارات.
وقال مصدر دبلوماسي في بيروت لوكالة فرانس برس إن كارثة المرفأ “لم تغير في طريقة تعامل الأطراف السياسية مع موضوع تشكيل الحكومة وتكليف رئيس لها”.
وأوضح أن تكليف رئيس حكومة جديد “لا يعني أن تشكيل الحكومة سيتم بسهولة”، وهو ما تظهره العديد من التجارب السابقة، لافتا إلى أنه “ما من التفات جدي للشارع” الذي يطالب بتغيير سياسي ويتهم الطبقة الحاكمة بالفساد والفشل في إدارة الأزمات.
وعقب انفجار المرفأ، توالت الدعوات الغربية لا سيما الفرنسية والأمريكية، للإسراع في تشكيل حكومة تعكس “تغييرا حقيقيا “، إلا أن أوساط الرئاسة الفرنسية تؤكد أنه “لا يعود لنا تشكيل الحكومة”، نافية أن تكون مساعيها الجارية بمثابة “تدخل” في الشأن اللبناني.
وبخلاف المألوف في الزيارات الرئاسية الرسمية، يستهل ماكرون زيارته التي تأتي في الذكرى المئوية الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير، بلقاء فيروز (85 عاما ) التي تعتبر أيقونة الفن اللبناني وسفيرته إلى العالم، ومن الرموز القليلة التي يلتف اللبنانيون حولها بمختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم، وسيحصل اللقاء في منزلها شرق بيروت.
ويعود ماكرون، أول رئيس دولة أجنبية زار بيروت عقب الانفجار الهائل في مرفأ العاصمة اللبنانية، الاثنين إلى لبنان لمواصلة ضغطه من أجل إجراء إصلاحات وإعادة الإعمار. وفي زيارته الأولى بعد يومين من الانفجار، طالب ماكرون المسؤولين اللبنانيين المتهمين بالفساد والعجز، بـ”تغيير عميق” عبر “تحمل مسؤولياتهم” و”إعادة تأسيس ميثاق جديد” مع الشعب لاستعادة ثقته.
في هذا الوقت، يبدو المتظاهرون الذين نزلوا إلى الشارع منذ أكتوبر، مطالبين برحيل الطبقة السياسية مجتمعة، متعبين بعد صدمة انفجار بيروت، لكنهم يصرون على تحقيق العدالة ومحاسبة المسؤولين.
ويقول باحوط “اعتقد الجميع أن الكيل طفح” بعد الانفجار ” لكن بالمقابل لم يكن هناك من انفجار شعبي حقيقي”، وهو ما يريح الطبقة السياسية الحالية.
في المحصلة، يبدو الرئيس الفرنسي الذي تمكن عام 2017 من إخراج رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري من الرياض حيث قدم استقالته واحتجز لبضعة أسابيع، وكأنه وحده يتعاطى بالملف اللبناني حاليا، مع هامش مناورة محدود.
وبينما تغيب السعودية، الداعمة التقليدية للقوى السنية في لبنان، عن المشهد تماما، تنأى الولايات المتحدة بقيادة دونالد ترامب بنفسها عن الملف، مواصلة في الوقت ذاته التصدي لحزب الله المدعوم من إيران.
ويتحدث خبراء عن “رضا” أمريكي لرؤية فرنسا “على الجبهة الأمامية”.
لكن ما لم يتوصل ماكرون إلى نتائج ملموسة، فسيكون عليه، وفق باحوط، أن “يعيد الملف اللبناني إلى الأدراج لفترة طويلة”، ومعه على الأرجح جزء من النفوذ الفرنسي في المنطقة.