السياسة والأدب: إرث إدوارد سعيد

يستحيل التطرق إلى ملف حول موضوع من هذا القبيل، دون الوقوف عند إدوارد سعيد الرمز المذهل والوصي، الذي توفي في مدينة نيويورك يوم25 شتنبر2003 ،بعد أن كرس حياته بأكملها لدراسة هذا التفاعل الدائم،الحتمي والمدهش بين السياسة والأدب، وكذا نتائجه المشؤومة غالبا، حينما يتأتى للأدب خلق وتعضيد أو تطعيم القوالب النمطية المدمِّرة، التي يمكن أن تضمرها حضارة نحو أخرى.

 

لقد كان إدوارد سعيد أحد المفكرين الأمريكيين القلائل جدا، الذي حظي باهتمام حقيقي وشهرة على الصعيد العالمي، سواء لدى منابر إعلامية مثل “فاينانشال تايمز” إلى “لوموند ديبلوماتيك”، مرورا ب”الغارديان” اللندنية، وعند أدباء كـ : نادين غورديمر،من جنوب إفريقيا أو الياباني كينزابورو أوي(حصل الاثنان على جائزة نوبل في الآداب)، مرورا بلويس ميناند المؤرخ الأمريكي للأفكار السياسية(توج بجائزة بوليتزر)،وجورج ستاينر(ناقد أدبي أمريكي) وسلمان رشدي وصولا إلى نيلسون مانديلا ثم آخرين مشهورين فعلا أو مغمورين : مختلف هؤلاء يرون في إدوارد سعيد، أستاذ الأدب المقارن في جامعة كولومبيا، أحد المفكرين الأساسيين خلال حقبتنا، ومثقفا متعدد الاختصاصات ضمن زمرة تيودور أدورنو- الذي يكن له إدوارد سعيد تقديرا كبيرا- هؤلاء الإنسانيين، اللامعين، يزخرون دعابة، وتميزهم شجاعة خاصة.
شكل صدور كتاب الاستشراق سنة 1978، منعطفا في دراسة العلوم الإنسانية. منذئذ،بادروا إلى تأسيس أوراش بحثية تهم ”الدراسات مابعد الكولونيالية”داخل أكبر الجامعات الأمريكية وكذا الهندية، الاسبانية اليابانية أو أخرى، من أجل اقتفاء أثر عمل صاحب الدراسة،وقد شرح بفكره الثاقب أعمال جوزيف كونراد، جوناثان سويفت، جان أوستن، جورج أورويل، ألبير كامو، هكذا أصبح إدوار سعيد، مثلما أوضحت ذلك نيويورك تايمز، أحد النقاد الأدبيين الأكثر تأثيرا خلال القرن العشرين.
مستندا على أعمال ميشيل فوكو وأنطونيو غرامشي، مع استبعاده تشاؤمية الأول وكذا ماركسية الثاني، توخى إدوارد سعيد البرهنة بأنه إذا لم يكن الأدب ضمن المطلق السياسي على وجه الحصر، فلا يمكننا أبدا من زاوية أخرى، قراءته مع تجاهل سياق ولاوعي يعتبران للغاية وبالضرورة سياسيَيْن. هكذا، فالارتقاء إلى موهبة جاين أوستن،لا تكفيه الإشارة الى أن عملا مأثورا كما الشأن بالنسبة لروايتها المعنونة ب”منتزه مانسفيلد”،يصعب فهمه إذا تخلينا من جانب آخر عن إشكالية العبودية وكذا مزارع قصب السكر.
بنفس الكيفية، يمكننا أن نستحسن مع رولان بارت، “الكتابة البيضاء” وكذا أسلوب ألبير كامو الفذ، لكن انطلاقا من اللحظة التي قدم فيها كامو نفسه بناء على إطار أخلاقي، فهل صار حينئذ بالإمكان استيعاب رواية “الغريب” دون استحضار اللامفكر فيه أي الجانب الكولونيالي، وكذا الوضعية الخاصة لفرنسيي الجزائر؟
قد تتحقق لنا متعة لانهائية ونحن نقرأ التربية العاطفية لغوستاف فلوبير دون الانشغال بالسياق، لكن ألا تعتبر هذا الرواية أكثر إثارة إذا تمثلنا النص باعتباره شهادة عن جيل خابت آماله، تلك المرتبطة بما بعد 1848 وأحلامه الضائعة؟
بالتأكيد ،الحالة الأكثر وضوحا، تلك المتعلقة بجيمس جويس.بحيث لايود البعض أن يرى في رواية ”أوليس” سوى أوج أسلوب الأدب الأنجلوساكسوني، لكن هل ينبغي لذلك الحيلولة دون أن تلهمنا تلك الرواية لاسيما عبر شخصية ستيفان ديدالوس،مثقفا تتقاذفه الرهانات الكبرى لحقبته، الإكليروسية، ثم القومية الايرلندية وكذا مسألة التعليم؟
نفس الشيء بالنسبة لروجي مارتين دو غار وروايته ”جان باروا”، مع أن هذه الحالة الجزئية لم يتطرق إليها عمل إدوارد سعيد.
يبدو خلف القوة الأصيلة لعمل رئيسي ومجدِّد، ترجم إلى سبع وثلاثين لغة، أن إدوارد سعيد أثار اهتمام جهات الكرة الأرضية الأربع، نتيجة التصادم الجلي بين القيم التي دافع عنها ثم الآلام التي يكابدها عصرنا .هكذا، قضى إدوارد سعيد حياته مقاوما مرض حقبتنا الأساسي، المتمثل في الرؤى”الماهوية” للمجموعات البشرية، وكذا الرغبة في تفتيت البشرية إلى كيانات وهمية “نحن”،”هم”، “شرق”، “غرب”، وكذا التفسير المستند على الاعتقاد بكون الحضارات ثابتة ومنغلقة الواحدة نحو الثانية .خلال حقبة اتسمت بازدهار الظلامية والتعصب الديني، ثم غطرسة الاستعمار الجديد، كان إدوارد سعيد الحامل الأساسي للواء إنسانية علمانية تعتبر على الأرجح حاليا وبقوة، المعقل الأخير ضد البربرية.
لقد شعر بالفزع من العنصرية، والقومية الشوفينية، وإيديولوجيات الفصل، وإقامة الأسوار، والقوة الفظة، والتعصب الديني، ثم إمبرياليات البارحة واليوم. بحيث فضل تعريف نفسه باعتباره: “مثقفا يهوديا، فلسطينيا، لبنانيا، وعربيا وأمريكيا.ولِما لا؟”، مؤكدا شعوره وهو يرسم نصف ابتسامة، خلال حديثه مع صحفي في جريدة هآريتس، يتأمله الأخير،حائرا ومشدوها في نفس الوقت، متسائلا عن إمكانية تبلور حظ صغير يجعل المستقبل هذه المرة من حظ إدوارد سعيد وجورج ستاينر، وليس لشارون وعرفات ، خلال حقبة عرفت هيمنة وتسيد الفكر المانوي(الثنائية المطلقة)، حينما استسلم المثقفون لفخ المنطق سارتر القائل :”الجحيم هو الآخر”.
غير أن إدوارد سعيد، يرفض هذا الشلل الدماغي، غير مهتم بالأشخاص، متمسكا فقط بحسه النقدي : صوت ناطق متحمس دفاعا عن القضية الفلسطينية، و لايتردد قط في توظيف أكثر المصطلحات حدة من أجل مهاجمة الديكتاتوريات العربية وكذا ياسرعرفات ومحاباته للأقارب ومداهنته. انتقاداته الجارفة ضد السياسيين الاسرائليين لم تمنعه كي يقاوم بضراوة، السلبية ومعاداة السامية. فأفكار من هذا النوع مرفوضة، لاتغتفر غير قابلة للعذر خلال كل الأوقات، مهما جاءت الظروف.مع إبلاغه بصرامة عن أشكال الظلم الواضحة وكذا أساليب الإذلال اليومية التي يكابدها الشعب الفلسطيني.
يعتبر إدوارد سعيد أول مثقف عربي أقر بالوجود الإسرائيلي، داعيا إلى الشروع في الحوار ورفض المقاطعة العبثية وكذا أنواع المنطق الخاصة بجماعة ما .أيضا، وعلى ذات منوال إبرازه في عمله للجذور التاريخية والأدبية بخصوص أحكام القيمة ضد العرب والمسلمين، لم يتردد كذلك لحظة واحدة في دعم صديقه سلمان رشدي، حينما كان الأخير ضحية فتوى خلال حقبة زمانية.
مناضل في ذات الوقت على جبهات عدة، فقد خلق إدوارد سعيد لنفسه كثيرا من الأعداء، لدى متطرفي هذه الجهة أو تلك، هكذا شغل موقعا شجاعا، يتعب كثيرا منافسه، وهو شخص لاينتمي قط لأي جوقة ولم يتنازل أبدا عن إرادته الحرة. استقلال فكره هذا، أكسبه تقديرا لانهائيا من طرف الذين يشاطرونه نفس الأفكار، مثلما يحظى تلقائيا باحترام معارضيه، كما تعكس ذلك الحظوة الهائلة التي يتمتع بها لدى أكبر المثقفين الاسرائليين.
في بهو فندق لندن سنة 1993، أبان إدوارد سعيد عن كونه موسيقيا موهوبا، حين لقائه دانيل بارينبويم عازف البيانو الشهير ورئيس الفرقة الموسيقية الأرجنتينية، الاسرائيلية.أسفر هذا اللقاء الطارئ عن توثق صداقة حقيقية، تبعث ثانية العلاقة التي جمعت بين ستيفان زفايغ ورومان رولان،أو أيضا زفايغ ثم المؤلف الموسيقي هوغو فون هوفماستال.
من جهة ثانية، السيرة الذاتية لإدوارد سعيد”خارج المكان”، التي اعتبرها نقاد المؤسسة البروستية بمثابة إعادة بناء الماضي، تذكرنا على نحو كبير بعمل ستيفان زفايغ :عالم الأمس.
يستعيد إدوارد سعيد المنفي بحنين تلك الحقبة، حينما : “تواجد بجانبي داخل المدرسة إيطاليون، يهود، إسبانيون، أو مصريون وأرمينيون….كان ذلك وضعا طبيعيا .أرفض بكل ما لدي من قوة تلك الفكرة القائمة على الفصل، وكذا التجانس القومي. لماذا لانفتح عقولنا في وجه الآخرين؟هنا يكمن مشروع حقيقي”.
نعم مشروع حقيقي، بل إحدى أجمل مبادرات السلام التي همت منطقة الشرق الأوسط، مصدرها إدوارد سعيد ودانيل بارينبويم، أقصد تأسيسهما معا لديوان الشرق-الغرب، توزعت أوراشه بين موسيقيين شباب،عرب وإسرائليين موهوبين.يلتقون مرة في فايمار، ومرة أخرى في إشبيلية أو رام الله.بفضل لغة الموسيقى الكونية، تمكنوا من اكتشاف بعضهم البعض، وتبادل التقدير، وتجاوز الأحكام الجاهزة، في سبيل فهم معاناة الآخر، والإفصاح بكيفية مشتركة عن قلقهما المتبادل.
بمبادرة إدوارد سعيد الفلسطيني، فقد سافروا جميعا إلى بوخنفالد(معتقل نازي)، بغية التفكير في ابتذالية الشر. هكذا، استحقا معا من ملك إسبانيا الجائزة المهمة التي تمنحها مؤسسة الأمير أستورياس من أجل السلام والوئام. يقول بارينبويم :”لقد كان إدوارد سعيد النقيض المطلق لنموذج ياسرعرفات.بحيث يجسد الدقة، والنزاهة الفكرية، والإيمان بالحقيقة خلال حقبة تسود فيها ازدواجية اللغات والخطابات. انطوى خطابه على حس نقدي، نحو كل شيء، ويتبنى تحديدا أمام الجميع، نفس الخطاب”. أيضا، عَكَسَ إدوارد سعيد مثالا مفارقا بالمطلق مختلفا عن مثقفي القرن العشرين الذين بادروا إلى تبني القيام بدور كتّاب السلطة، ومدَّاحي الأنظمة الاستبدادية، بحيث لايتخلون عن عقيدة جامدة سوى للارتباط فورا بأخرى، يتعقبون بلا تبصر الأسياد والأيديولوجيات:”هؤلاء الآلهة الذين يخطئون دائما”.
هل يكون مبالغا فيه مطالبة مثقفي وكتّاب اليوم باقتفاء آثار إدوارد سعيد،واستمرار اعتقادهم بأن الحقيقة الإنسانية واحدة غير مجزأة، ووفائهم بالمطلق للمثال الأعلى الكوني، وكذا الدفع نحو فهم أفضل لـ”الآخر”، ثم يستثمروا كفاءة قدرتهم على التمرد والسخط والمقاومة بأقلامهم، بهدف مواجهة الجهل، والأحكام القبلية والقوالب النمطية التي تشكل مضجعا لامبرياليات جديدة ونزعات متطرفة من كل جنس.

* رجع المقالة :
ENA mensuel :numéro hors-série ;2003.


الكاتب : ترجمة: سعيد بوخليط

  

بتاريخ : 04/09/2020