هل استطاعت الحركة الوطنية بالشمال اكتساب عناصر الإبداع والتميز في مواجهة آفة الاستعمار الإسباني خلال مطلع القرن 20؟ وهل استطاعت هذه الحركة ترسيخ هويتها الكفاحية داخل مسار العمل الوطني التحرري العام؟ وما هي حدود الثبات والتغير داخل تجاربها التجديدية في مواجهة الطموحات الكولونيالية الإسبانية الجارفة؟ وكيف يمكن التأريخ لتحولات هذه التجارب بدون العودة لاستنطاق الفاعلين المباشرين في الأحداث قصد الإنصات لرواياتهم ولمحكياتهم حول تفاصيل «ما جرى»؟ وأخيرا وليس آخرا، كيف يمكن تحويل هذه الروايات والمحكيات إلى عناصر ارتكازية في الكتابة حول تاريخ النضال الوطني التحرري بشمال المغرب، بعد تفكيك مظانه واستنطاق شواهده واستثمار وثائقه؟
أسئلة مدخلية موجهة، تفرضها قراءة الكتاب التصنيفي الهام الذي خلفه الأستاذ محمد الخطيب، أحد أبرز قياديي حزب الإصلاح الوطني بالشمال، وأحد أبرز مهندسي الاندماج الاستراتيجي بين الحزب المذكور وحزب الاستقلال سنة 1956 في سياق تاريخي عرف تجاذبا متعدد الأقطاب بين دوائر صنع القرار لتوجيه الأحداث وللتحكم في الانتظارات المرتبطة بمخاضات الاستقلال السياسي خلال النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي. وقد صدر الكتاب عند مطلع سنة 2020، تحت عنوان «الحركة الوطنية في شمال المغرب»، في ما مجموعه 375 من الصفحات ذات الحجم الكبير، بمراجعة وبإعداد رفعين للأستاذين محمد العربي المساري ومحمد معروف الدفالي. والحقيقة.
إن العمل يشكل إضافة هامة لمجال الإصدار التاريخي المتخصص في التوثيق لتحولات عطاء الحركة الوطنية التحررية بالمنطقة الخليفية، ليس –فقط- بالنظر لدور صاحب الكتاب في توجيه الكثير من مسارات تجربة حزب الإصلاح الوطني، ولكن –أساسا- لاعتماد السرد على رصيد غزير من الوثائق المادية ومن الشواهد الرمزية المرتبطة بخصوبة عطاء تجربة الحركة الوطنية بالشمال. وإذا كان الأستاذ والإعلامي محمد العربي المساري بادر للاشتغال على متن الكتاب، فإن وفاته سنة 2015 قبل إكمال العمل وإخراجه للنور، قد وضعت مسؤولية مضاعفة على عاتق الأستاذ محمد معروف الدفالي الذي كان يقاسمه مهام الاشتغال على المخطوط وإخراجه إلى العموم. لذلك، ظل الأستاذ الدفالي يشعر بثقل هذه «الأمانة»، احتراما لذكرى رفيقه المساري، والتزاما بالبعد الأخلاقي الذي ظل يؤطر هذه الذكرى. يقول الأستاذ محمد معروف الدفالي موضحا عمق هذا البعد الأخلاقي: «بقي أمر الكتاب بين يدي أمانة، التزمت مع نفسي بأدائها حين تسمح الشروط، ساعيا أن يكون في الأمر نوع من الوفاء لصداقة تمنيت لو عمرت أكثر، ونوع من المساهمة في تحقيق أمنية لم تراود صاحبها فقط، بل كانت، إلى جانب ذلك، هما من الهموم العلمية التي طالما شعر بضغطها، وطالما انتظر ساعة التخلص منها…» (ص. 5).
وبخصوص طبيعة التدوين الذي خلفه محمد الخطيب، يقول الأستاذ الدفالي: «أصل كتاب «الحركة الوطنية في شمال المغرب»، نسختان مرقونتان، ضمتهما مكتبة الأستاذ محمد العربي المساري الغنية. لم تكن أي من النسختين جاهزة للنشر، حيث اعتراهما الكثير من التداخل ومن أخطاء الرقن، وافتقار كل منهما لبعض ما تضمنته الأخرى بخصوص عدد من المواضيع، كما تكررت بعض المواضيع بين ثنايا بعضهما البعض، مما يرجح كفة الاعتقاد بأن الكتاب كتب على فترات متباعدة، أو كتب في ظروف لم تسمح لصاحبه بمراجعته وبإعادة ترتيب فصوله وتهييئه للنشر… ومن هذا الواقع في مجموعه، إضافة إلى ما يتميز به مضمون الكتاب من أهمية، جاءت فكرة نشره وتعميم فائدته…» (ص. 6).
ويمكن القول إن الكتاب يقدم قراءة مجددة لمسار الحركة الوطنية بالشمال، بجمعه بين سقف الكتابة التاريخية من جهة، وبين مناحي المذكرات الشخصية والسير الجماعية والشهادات المباشرة والوثائق الغميسة من جهة ثانية. وقد سمح ذلك للمؤلف بتقديم رؤى متكاملة حول جذور نشأة الحركة الوطنية بالشمال، وحول رموزها المهيكلة لخطاباتها ولمبادراتها، وحول مضامين حمولاتها الفكرية والإيديولوجية، ولمعالم منجزاتها وانكساراتها، وحول دورها في ترصيص هوية العمل الحزبي المهيمن على مرحلة فجر الاستقلال، وحول الاختراقات الكبرى التي وزعت العمل الوطني بالشمال خلال عهد الاستعمار، وخاصة مع الصراع الحاد الذي اندلع بين الحزبين الرئيسيين بالمنطقة، وأقصد بهما حزب الإصلاح الوطني بزعامة الأستاذ عبد الخالق الطريس وحزب الوحدة المغربية بقيادة الشيخ محمد المكي الناصري.
تفاصيل كثيرة اشتغل عليها الأستاذان محمد العربي المساري ومحمد معروف الدفالي من أجل إخراج الكتاب في حلة علمية أصيلة، لا شك وأنها تطلبت من الباحثين الكثير من الجهد ومن الصبر ومن الأناة، ترتيبا للسياقات، وتنظيما للفصول، وضبطا للجزئيات. كل ذلك، ساهم في إعادة إحياء مخطوط الأستاذ محمد الخطيب، عبر بث الروح بين أسطره وبين مكونات متنه الشيق والغني. وبتواضع الباحثين الكبار، ظل الأستاذ محمد معروف الدفالي ينبه إلى بعض أوجه القصور التي ظلت تعتري عمله، فاتحا المجال أمام كل جهود التقويم والتطعيم والتدارك والتصحيح. يقول الأستاذ الدفالي: «إن النسختين المعتمدتين تخلوان من معالجة الفترة ما بين سنة 1952 و1955، وهي فترة نعتقد في غناها وفي ما تميزت به على مستوى العلاقة بين حزب الإصلاح والإقامة العامة الإسبانية، وبين حزب الإصلاح وبين القوى الوطنية السياسية الجديدة التي ظهرت في الشمال، وكذا بين حزب الإصلاح وبين فصائل المقاومة المسلحة التي جعلت من الشمال قاعدة خلفية توفرت فيها مجموعة شروط، كانت وراء انتعاشها ووراء تأسيس جيش التحرير. ولأهمية الفترة، فرض علينا سؤال عدم الاهتمام نفسه عبر احتمالين، فإما أن خصوصية الفترة جعلت المؤلف يؤجل الحديث فيها ليفرد لها مؤلفا خاصا، أو أن فكرة الحديث حولها ضاعت في خضم ما تفرضه الفصول الأخيرة… وبما أن المرحلة قد عولجت، غير أن النسختين المعتمدتين تخلوان منها، وفي حالة صحة هذا الاحتمال الثاني، نتمنى أن يمدنا من يتوفر على نسخة أشمل، بهذا الفصل، مساهمة منه في إصدار طبعة ثانية، تتدارك ما فات…» (ص ص. 7-8).
وعلى هذا المنوال، استطاع الأستاذ محمد معروف الدفالي تقديم عمل محترم من الناحية الأكاديمية، لا شك وأنه يساهم في تقديم قيمة مضافة لحصيلة منجزه العلمي الموزع عبر مختلف المنابر العلمية التي اشتغل/ويشتغل فيها، داخل الجامعة وخارجها، عبر مؤسسات علمية متخصصة وهيآت تواصلية ودوريات رصينة، مما أكسبه صفة الريادة في مجال حصيلة البحث الوطني المعاصر المتخصص في رصد إبدالات تجارب الحركة الوطنية المغربية التحررية داخل المنطقتين السلطانية والخليفية خلال مرحلة عقود الاستعمار.