المنهجية الديموقراطية والتسليم التقنوقراطي
عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
من المفيد للغاية أن يكون رئيس الحكومة، كشريك دستوري أول في التدبير التنفيذي للبلاد، حريصا على التذكير بالمنهجية الديموقراطية، بل من الجميل للغاية أن يذكرنا بها في كل لقاء يكون له خارج الدائرة الحكومية.
هو نتاج هذه المنهجية وهو مدين لها، ومن العرفان أن لا ينكر الجميل…
ما ليس مطمئنا هو أنه لا يذكرنا بذلك أبدا من تحت سقف الحكومة، ولا من داخل المؤسسة والقرارات الصادرة عنها.
1- إنه يحصر المبدأ ويسجنه في أفقه السجالي /البوليميكي أكثر منه في أفق آخر، كالذي من أجله تمت دسترتها وقامت من أجل ذلك معركة ….. يابس والخضراء!
وبذلك تفقد المنهجية، كفلسفة سياسية من بُعدِها البنَّاء والتأسيسي لمغرب بأفق جديد.
فعلى لسان السيد الرئيس تكون أقرب إلى شعارات سجالية ضد الأعداء المفترضين، في حقل السياسة لا في حقل آخر، فقد سمعناه يتحدث عن الذين لا هم لهم سوى نحن، وعن الذين يبحثون عن صيغ سياسية أخرى غير نحن.
وسمعنا من قام بتأويل ذلك بأنه، يحاول إحراج من يعتقد أن المنهجية تحرجهم باسم استمرار الحكومة كما هي …إلخ.
وقد يكون ذلك كله من صميم مهمته ومن صميم الدفاع عن النفس، أى غير ذلك، لكن ليكن ذلك ضمن مفهوم آخر يبرع فيه غير مفهوم المنهجية الديموقراطية…
لماذا؟
لأن المنهجية الديموقراطية، كما وردت في أدبيات الاتحاد الذي صاغها وكما كُتبت بمداد قيادته، يجب أن يكون الحرص عليها بالأساس ضد النزعات التقنو-سياسية التي قد – وقد تفيد الشك- تتولى مكانته الدستورية، وتقلص من هامشه المؤسساتي، تلك التي ترسم السياسة الميدانية، والمالية والصحية وغيرها، وتفرض أن يكتفي في النهاية بالتوقيع عليها وتزكيتها المؤسساتية…
المنهجية الديموقراطية، لا بأس من الإعلاء منها في كل وقت وحين، حتى وإن لم ندفع ثمنها، لكن لا بد من أن نتعرف عليها ونجيد فلسفة الدفاع عنها…
هذه إشارات بالفعل متناقضة عن هرم المؤسسة الدستورية الحكومية، بقدر ما نحترمها في الرئيس، ونقدره من هذا الباب، بقدر ما نسائله:عن من الذي يسعى إلى تقويض المنهجية الديموقراطية بالخلفية التي سجلناها أعلاه وبيناها في تراثها النضالي الديموقراطي الحي؟
من يريد أن يجعل الحل من داخل البنية السياسية، ومن الذي تزكي بنياته الحلول التقنية؟
إن الجواب هو: إن الدفاع عن المنهجية الديموقراطية لا يتم بالتسليم التقنوقراطي!
2- إن المنهجية الديموقراطية، لم تكن مع وجود دستور ينص عليها، وهذا توضيح لا بد منه.
لقد تم الدفاع عنها، في العمق، مرافعة في وجه دستور كان يعطي الحق في تعيين وزير أول من خارج الأحزاب، دستور 1996، لكن المنهجية الديموقراطية التي تمت دسترتها في 2011، كانت تعني العكس.
والذين يدافعون عنها يجب أن يعرفوا أنها جاءت لنقص في الدستور ونضج في السياسة، وكانت موقفا سياسيا قبل أن تكون ارتكانا إلى نص دستوري وممارسة مؤسساتية!
وهو ما يفرض أن يستحضروه في كل وقت وحين.
واليوم لنا أن نسأل الحقل السياسي بكل فاعليه: أية سياسة مالية واجتماعية في زمن التضخم في الحديث عن المنهجية الديموقراطية، تتم خارج حقل امتحانها واختبارها، والذي هو الحكومة كبنية وكقرار سياسي؟
لسنا متأكدين حقا أن إضفاء الطابع السجالي على إشكال من هذا القبيل، يمكن أن يعطيه قوة، اللهم إلا إذا كان ذلك «فلتة أخرى لا نعرفها…
3- من تناقضات المرحلة الضبابية، العودة إلى قاموس قديم في تدبير زمن لا مرئي تماما، وغير متوقع بالمرة، هو زمن كورونا وزمن الانتخابات الكورونالية !
العودة إلى حديث التقليص في المشاركة في الانتخابات بمضمرات لا تبعث على الثقة في التطبيع السياسي، وفي تطور المؤسسات وتنمية الحس السياسي..
لا نريد الدخول في تفاصيله، فهي شأن لم يتحمل أحد مسؤولية إعلانه لكي يصير نقطة في جدول الرأي العام العملي، لكن لنسأل:
من سيحدد ضرورة أو عدم ضرورة هذا النقاش حقا؟
هل هو الذي يقبل الترشيحات المفترضة أو طرف آخر لا نعرفه؟
وهل البلاد والمؤسسات – المفروض احتضانها للمنهجية الديموقراطية – بهذه الدرجة من الهشاشة إلى حد التفاوض مع حزب ما، مهما كانت قوته من أجل أن يترك هامش لعب للآخرين؟
إن هذه لعبة مضمرة مليئة بالنوايا السيئة من قبيل:
– أن التطبيع السياسي لم يتم طوال تجربتين حكومتين تحت مظلة المنهجية الديموقراطية التي يدافع عنها رئيس الحكومة!
-أن الحزب الذي يتفاوض قادر على أن يحكم لوحده، إذا هو لم يقلِّم مشاركته!
-أن ذلك معناه أننا نوجد عشية انهيار النظام الحزبي المغربي بكليته، الذي ظل قائما منذ الاستقلال ثم زيد فيه ونقح في الثمانينيات، ثم استقر على ما استقر عليه منذ التسعينيات، وبالتالي انبثاق نظام جديد يستدعي الدخول إليه بشكل كامل تفاوضا قبيل الانتخابات! ولا نعتقد بأن الحزب المومأ اليه ، والمعني بهذه السيناريوهات غير واعٍ بهكذا لعبة وخطورتها عليه وعلى منظومة الفعل السياسي..
في زمن الضباب تنال اليقينيات ضربات قاسية، والحال أنه لا يمكن أن نتقدم بدون يقينيات، بل لا يمكن للحياة الاجتماعية أن تكون بدون ثقة في حقائق وفي تصورات وآفاق تهيكل سلوكنا العام.
اليقينيات هي مواضعات متعارف عليها، مجموعة من التوافقات وأنظمة للحقيقة، منتجة في لحظة تاريخية واجتماعية معينة..
اللايقين هو زرع الهشاشة في الثقة، إن لم يكن إعادة النظر فيها..
والهشاشة لا تقف عند المجال الوحيد الذي كان وراء ظهور اللايقين والشك والحيطة والتوجس، بل تنتقل عدواها إلى القيم والمؤسسات التي تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن المشكلة المطروحة.
ختاما، لقد كتب لوران دوسي، أستاذ الأنتروبولوجيا ومدير الدروس في المدرسة العليا للدراسات الاجتماعية والاستراتيجية بفرنسا وصاحب كتاب «من أجل أنتروبولوجيا للايقين»، أن »الجواب على الجائحة، يعني ولا شك القدرة على إيجاد الحلول الصحية والاجتماعية من أجل إنقاذ الأفراد والعائلات، غير أن الجواب قد يعني كذلك -وبالأخص – الأخذ بعين الاعتبار واقعا يتجاوز المستوى الفردي، وهو ليس بالضرورة المستوى الصحي أو مستوى الأزمة الاقتصادية الناجمة عنه، بل يعني أيضا الوعي بأن اللايقين أيا كان، لاسيما في حالة شاملة كما هي الحالة الآن، يعيد النظر في مجموع البنية الاجتماعية بمساءلة الذهنيات والقيم التي تؤسسها»…
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 12/09/2020