«حنظلة» في الحاضر
محمد الحبيب طالب
كتبت الكلمات التالية، في أوج المعمعة الاحتجاجية على الرسومات الكاريكاتورية المسيئة للرسول الأكرم، و على الحادث الإرهابي الذي وقع إبانها. ولأن البداية كانت رسما كاريكاتوريا مسيئا ومستفزا، خطر على بالي تلقائيا، رسومات الفنان والمناضل الراحل ناجي العلي، واستعادت مخيلتي تلك الوقفة الثابتة لـ «حنظلة»، الرمز والشاهد على مسيرة تحرير فلسطين. ولابد وأن اغتيال هذا الفنان الفلسطيني العملاق على يد مجرم إرهابي، كما اغتيل بعض فناني «شارلي إبدو» في السابق، وبنفس الإرهاب، كيفما اختلقت دوافعه الآنية، كان عاملا مشتركا وراء استحضاري لـ «حنظلة» في هذه اللحظة الحزينة وفي هذه النازلة بالذات.
واختصارا للقول، ومن باب «حرية التعبير» الذي يُشرعه، بلا حذر، المدافعون عن الكاريكاتور المسيء للرسول، من حقي أيضا، أن أدخل من نفس الباب، لكي أصدر حكما قيميا على الرسم الذي شاهدته صدفة. وحكمي أن ما رأيته هو فن هابط، لا قضية إنسانية وأخلاقية له. ولا يعبر إلا عن خواء روحي ينطوي على نزوع سياسي فوضوي، ولا أكثر. ومنظوري هذا، ينبني على، أن فن الكاريكاتور، كما أتذوقه، هو الفن الذي يكشف بأسلوب رمزي ساخر ونقدي، عن المفارقات التي تكتنف حياتنا اليومية. إنه الفن الأكثر التصاقا بحياتنا العملية، اليومية، السياسية والاجتماعية والإنسانية. وبالتالي، يكفي السؤال، ما هو الأثر السياسي الذي كانت تتوخاه الرسوم المسيئة لنبي الإسلام؟! لأن السؤال السياسي، وخصوصا في فن الكاريكاتور، هو الذي يكشف عن القيم والخيارات والأهداف التي يتوخاها ويرمز إليها. وهنا تحديدا، يظهر الفرق النوعي بين رسومات ناجي العلي الحاملة لقضية تحررية وإنسانية نبيلة، وبين رسوم لا هدف إنساني لها سوى التلذذ السادي الفوضوي. بما قد يُحدثه للمتلقي المسلم من إساءة وجروح وإهانة، وخلفيتها السياسية ليست أكثر من نزعة فردانية فوضوية.
في فرنسا، «كاريكاتوريون» كبار يتقنون المقاصد الرفيعة لهذا الفن. ومازلت إلى اليوم أحتفظ في ذاكرتي ببعض الإبداعات من جريدة لوموند على سبيل المثال، ومن بينها تلك الصورة الكاريكاتورية الرائعة عن الصدام العسكري على الحدود بين الجيشين الفيتنامي والصيني.. ولا بأس من نقلها في كلمات قليلة رغم إفقاري لجماليتها: يحتوي الرسم على دبابتين متواجهتين، فيتنامية وصينية، يطلقان النار صوب كل منهما، وبينهما كارل ماركس، جاثم على ركبتيه، ورافعا يديه إلى السماء، جامعا كفيهما وكأنه يطلب المغفرة، وهو يقول «يا عمال العالم سامحوني» ! عوض ندائه المعلوم «يا عمال العالم، اتحدوا». وكذلك صورة أخرى، لأول استفتاء شعبي في إيران بعد الثورة. فكان الرسم، أن طابور المصوتين، الواحد بعد الآخر، في صورة الخميني، والمراقبان الجالسان خلف صندوق الاقتراع، أيضا، في صورة الخميني. وعلى جدار مكتب التصويت صورة معلقة للخميني. فلا وجود إذا إلا للخميني ! صورتان لاذعتان وفي منتهى الذكاء، لكنهما أمينتان للمفارقة التي تعبر عنها اللحظة التاريخية كما هي، وإن كانت خلفيتهما السياسية النقدية ليبرالية، فللمتلقي حرية التأويل كما يشاء. إنه إذا كاريكاتور يحرض على التفكير النقدي الموضوعي لمفارقات الواقع، وليس رسوما من صنع خيال مريض ومهجوس بالسادية الفوضوية لا غير.
لقد كان من الطبيعي، وقد بلغت الأحداث ما بلغته من الذروة، أن تنفجر كل المكبوتات الثقافية والأيديولوجية والسياسية والاجتماعية، والتي تراكمت، ولم تجد بعد الحل الصائب لها، سواء في المجتمعات الأوروبية من جهة، أو في علاقة الغرب عامة مع المجتمعات الإسلامية من جهة ثانية. وفي هذه الأجواء ذات النكهة «الفتنوية»، بوسعي أن أدلي بمجموعة من الملاحظات النقدية، وسعيها جميعا أن تحذر من المنزلقات الأيديولوجية التي تضخها الفتنة بوعي أو بلا وعي، وأن تؤشر لما ينبغي أن يكون عليه الحراك الاجتماعي المشروع على الرسومات المسيئة للنبي، لكي لا يسخر مطية لأدوات وأهداف أخرى، ولكي يكون فعالا وناجعا في المنظور البعيد:
أولا: هل الإسلام دين عنف وكراهية وإرهاب؟ هكذا يشخص الغربيون ذوو النزعة الاستعلائية العنصرية، ومنهم بعض العرب والمسلمين، من دعاة التبعية المطلقة للغرب، ما يسمونه بأزمة الدين الإسلامي. وهم في جميع الحالات يخلطون عن عمد أو عن جهل بين الدين وبين الديانة في صيرورتها التاريخية وقد تحولت إلى أيديولوجيا في علاقاتها مع المصالح الاجتماعية والسلطة السياسية وجميع المؤسسات القائمة وفي خلال أوضاع تاريخية معينة. وبالتعبير الجميل والعميق لمعادلة الفيلسوف «إتيان باليبار»، تكون الأيديولوجيا هنا = (الثقافة + الدين + ×). ويرمز (×) إلى كل العوامل المادية السابقة المحددة للأيديولوجيا في علاقاتها بالداخل والخارج.
ومن مغالطات الخلط السابق، أنهم يجعلون من تأويل شاذ لقلة قليلة من الآيات ماهية للقرآن في مجمله، ومن أيديولوجية ذات لون ديني محدد ناطقة باسم الدين في حاضره وعلى مر عصوره، وناسخة لكل تراثه الضخم، والذي لا تَقْدر عليه إلا أمة حية ومتحضرة، ولها عطاءات للحضارة الإنسانية في شتى المعارف، وبما فيها ما أسسته للحضارة الغربية نفسها. والأنكى من كل ذلك، أنهم يتحدثون عن أزمة الدين الإسلامي بالمفرد، وكأن ديانات العالم وأيديولوجياته القديمة والحديثة، وبشعوبه المختلفة، كانت تنعم على امتداد التاريخ بالسلام والأخوة والمحبة والعدالة، إلى أن جاءها على حين غرة الدين الإسلامي ليهددها في تلك النعم الشاملة. ويتجاهل هؤلاء أن ما حصده الغرب من أرواح بشرية، وما فعله من استرفاق واستعباد، وفي عصر الحداثة بالذات، تفوق نسبته أضعافاً مضاعفة لما جرى خلال التاريخ الدامي للبشرية في مجموعه (!). وأن الحضارة الإنسانية إلى اليوم لا تزال بعيدة كل البعد عن «قيم حقوق الإنسان والمواطن»، والتي تقول الدول الغربية عنها أنها تمثل قيمها الثقافية والدستورية الأعلى. والحال، لا يُختزل الإنسان وحقوقه في المواطن الغربي وحقوقه، و باعتواراتها هي الأخرى. وكأن حقوق المواطن الغربي، في الدينامية الواقعية، لا تُكسب إلا في تعارض دائم مع حقوق الإنسان عامة، وخاصة في البلدان التي درجنا على تسميتها بالبلدان المتخلفة.
ولكل ذلك، لا يمكن لأية قراءة جدية لظاهرة الإرهاب في بلداننا العربية، أن تتغاضى قطعا عن الوقائع التالية: إن ظاهرة الإرهاب، كيفما كانت نسبية عواملها الداخلية، لم تأخذ هذا البعد المدوي الذي هي عليه، لولا استثمار الغرب الإمبريالي، وبتحالفاته الاستراتيجية الدائمة مع أشد الأنظمة العربية رجعية ومحافظة، في الصراع المتواصل ضد القوى التقدمية ولتخريب أي فرص متاحة لنهوض الشعوب العربية من جديد. ولعلها لحظة فارقة في نشأة ظاهرة الإرهاب، وفي ما نحن عليه اليوم؛ إنها لحظة التحشيد الديني الجهادي لمحاربة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان وبإشراف تعبوي وتمويلي وتسليحي من نفس التحالف الغربي (والأمريكي خاصة) العربي والإقليمي الرجعي. والحبل على الجرار في باقي التطورات اللاحقة… وصولا إلى نفس التعاون والتحالف والاستثمار المشترك في تدمير العراق وسوريا وليبيا والسودان واليمن ولبنان. إن كم عدد الدول المشاركة في هذه المؤامرات (وأشدد على كلمة المؤامرة) من ثلاثين دولة في الحرب على العراق، وسبعين دولة في دعم تنظيمات قتالية في سوريا، ومن دول حلف الناتو ومن معه في ليبيا، وما لهم جميعا من قوة مالية واقتصادية وعسكرية وإعلامية. إن هذا الكم وما لديه كاف لوحده لتبيان دور موازين القوى الخارجية في تغويل الظاهرة الإرهابية، إذ لولا هذا الدور الدولي والإقليمي وبتلك الكثافة والقوة لما استُثمرت عوامل التخلف الداخلية إلى هذا القدر المخيف، ولما تحولت إلى ظاهرة إرهابية. وأستخلص من ذلك، أن أي عزل لدور الغرب الكبير في ظهور الأيديولوجية التكفيرية والإرهابية في البقاع العربية الإسلامية هو تضليل أيديولوجي، غرضه تبرئة الغرب من مسؤوليته التاريخية الكبرى في كل ما جرى.
ثانيا: أدى حدث الكاريكاتور الاستفزازي، بعد أن أخذ أبعادا سياسية من جراء الموقف الفرنسي الرسمي لتبنيه العملي تعميم تلك الصور في المؤسسات العامة، وفي دولة لائكية، ويا للمفارقة !، (أدى) إلى موجة متصاعدة من الاحتجاجات الشعبية والرسمية المدينة للإرهاب وللموقف الفرنسي معا. ونادى بعضها عبر وسائط التواصل الاجتماعي لمقاطعة البضائع الفرنسية، بينما دعا آخرون إلى مطالبة المجتمع الدولي بتجريم الإساءة إلى المقدسات الدينية. ما يلفت النظر في هذه الاحتجاجات بأشكالها المختلفة، أنها صادرة عن المجتمعات الإسلامية بكل مكوناتها الدينية (جل المسيحيين العرب) والمذهبية والإثنية والقومية، ولا أستثني منها التيارات العلمانية… وفي هذا التنوع الإجماعي ما يكشف عن قيمة أخرى مباطنة لقيمة الرسول كنبي للإسلام. إنه فضلا عن ذلك قيمة تاريخية عليا لما يعنيه الانتماء الثقافي إلى الحضارة العربية الإسلامية، الجامعة، ولو في مستوى معين، بين تواريخ ولغات وثقافات تلك الشعوب والمكونات جميعا. هذه القيمة التاريخية الحضارية الجامعة، والتي يرمز لها الرسول الأكرم، مازالت حية ونابضة في مسارات تلك الانتماءات جميعا.
ولأن هذا الحراك الاحتجاجي، كان رد فعل على جرح وجداني بالدرجة الأولى، فإن مآلاته ستكون محدودة بالضرورة. ولا أرجح، أن مطلب تجريم الإساءة إلى مقدسات الأديان، وعلى أحقيته، قابل للإنجاز في الزمن المنظور، ما لم يكن حصيلة فرعية لتغيير في موازين القوى الدولية، أو لتغيرات في سياسات الدول الغربية تجاه المنطقة الإسلامية العربية الشرق أوسطية على الأقل. ولا يعود ذلك قطعا إلى ذريعة الخشية من المس بمقدسات «حرية التعبير»؛ فنحن نعرف أن جميع المبادئ تتحرك، ولها قيودها النسبية، تتحكم في حركيتها المصالح والأهداف السياسية في ديناميات الواقع العملي. وإلا كيف نفسر تجريم الدول الغربية لما يعتبرونه «معاداة للسامية» طالت بعدها، تجريم كل من ينتقد «الصهيونية ودولة إسرائيل والهولوكست». ألا يبين هذا مطواعية المبادئ والقوانين للمصالح السياسية؟ ! كلا، إن طلب تجريم الإساءة إلى المقدسات الإسلامية لا يعني البتة إبطال البحث العلمي ولا النقد الفكري الأيديولوجي والسياسي لكافة الديانات، فهذا شأن جار ومعمول به في الغرب وفي غيره، ومنذ القدم، وفي مراحل القمع أو في مراحل الانفتاح. ودور المثقفين والمفكرين العرب التنويريين في هذا الميدان شاهد على ذلك، وبالأخص في ما بين السبعينيات من القرن الماضي إلى اليوم. وإنما الغاية من تلك المطالبة التفريق بين ما هو من النزوات العنصرية الحابلة بالفتنة، وما هو حق مشروع في النقد الفكري وغيره من أشكال التعبير. ومن البديهي، أن تَمَّ إلتباسا كما هو الشأن في جل النوازل القانونية. وهي مسألة تجيب عنها تراكمات الممارسة، وتعود في النهاية إلى الحوارات المتجددة وإلى أهل الفكر وأصحاب الشأن في الاختصاص القانوني. لكن لماذا تحمُّل مخاطر هذا العناء، والدعوة له في هذا التوقيت بالذات؟ الجواب يستدعيه الميدان عند من يتفحص جيدا التناقضات العالمية الجارية، والتي من بينها النمو المتزايد التضخم «للثقافات» والتيارات العنصرية في العالم، وهي تنذر بحروب موقعية قادمة، وبظهور لفاشيات جديدة، لا أحد يستطيع، بعد، توقع حجم مخاطرها على الإنسانية جمعاء. إنه احتمال جدي يحذرنا من المستقبل المنظور. فالغرب يعيش في تخبطات داخلية، ويعاني من هواجس مرعبة له. فهو من جهة يرى تقهقره المتواصل عن مكانته الاقتصادية العليا، لتحل في مكانه قوى اقتصادية صاعدة، هي في جميع حالاتها ليست من ذات الانتماء الحضاري الغربي. ومن جهة ثانية، يخشى داخليا من التغيرات الاضطرارية في تركيباته المجتمعية، ومن نسبية النمو الديمغرافي المتسارع لأقليات مواطنة مسلمة (أو ملونة) ذات ثقافات شرقية، أو هي ليست من العرق الأبيض ولا تُحسب عامة من الحاملين الأصلاء للثقافة الغربية. والغرب في الحالتين، والعالم في ركابه، يعانيان، في أكثر من بلد، من فقدان النخب المحلية، وأنظمتها السياسية، لزمام المبادرة والقدرة على التحكم في مجريات الصراعات الاجتماعية المنفلتة، والناجمة جميعا عن تخلخل بنيوي لمنظومة العولمة القائمة وفي ظل الافتقار لبدائل عالمية ناضجة وواضحة. وهذه الوضعية المأزومة لا تزيدها تداعيات ومخلفات جائحة كرونا إلا عتمة على عتمة سابقة.
ثالثا: بعض المثقفين من جلدتنا، ومن دعاة الليبرالية والتبعية المطلقة، أمسوا عند أي احتكاك صدامي مع الغرب، يكررون على مسامعنا نفس الخطاب الجاهز، وليُذكروننا في كل مرة بنواهيهم إلى مجتمعاتنا، كفوا عن التفكير «بنظرية المؤامرة»، فالداء يكمن فينا، في تأخرنا ومعاندتنا الدائمة والمصرة على رفض الانضواء في التنوير والتحديث الذين يأتي لنا به الغرب. في هذا الخطاب المكرر بعض الحق، لكن يراد به باطل. فالمؤامرة واقع موجود في الصراعات السياسية منذ القدم، وبلا أية نظرية مزعومة. وجدلية الصراعات الدولية لا تُختزل في الجانب الثقافي والأيديولوجي، مهما كانت أدواره، لأنها صراعات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية-أيديولوجية، تتبادل الأدوار في ما بينها وتتكامل، في الداخل والخارج، يإيقاعات مختلفة ومتفاوتة في كل مرحلة معينة. ناهيك عن أن الطفرات الثقافية – الأيديولوجية لا تحدث بالضربة القاضية، إنما لها جدليتها الخاصة لزمن أطول من غيرها. الباطل في ذاك الخطاب والغاية منه عند كل احتكاك صدامي، أن نغض النظر كلية عما يفعله ويقوله «الغرب» فينا، بلا تمييز فيه، ولا في أفعاله وأقواله، فالغرب هكذا بالجملة هو دار التنوير (الذي ينبغي الاستسلام له)، ونحن لسنا إلا دار «الجهل والجهالة». أليست هذه القسمة شبيهة بالقسمة الأصولية المانوية، وعلى قياسها، بين «دار الحرب» و «دار السلام» ! الخطاب السالف تنتعش حيويته الدافقة عند كل احتكاك صدامي، وقد وجد في الهجوم العنصري على الإسلام ضالته المنشودة وبيئته المنشطة والملائمة.
رابعا : الخشية على هذا الحراك الاحتجاجي العارم، والمحق مبدئيا، أنه رد فعل وجداني أساسا، يفتقر إلى البعد السياسي الذي يمده بأفق الديمومة لإنجاز أهداف مادية على الأرض من شأنها أن تقلب موازين القوى لصالح قضايانا العادلة في كليتها. إن إسرائيل على سبيل المثال لم تكتفِ بإعلان القدس عاصمة لها، وهي المدينة المقدسة عند المسلمين والمسيحيين، بل واصلت تهويد معالمها كاملة، بتوسيع الاستيطان، وكسب التأييد لسياستها، وبجر الدول العربية للاعتراف العملي بأحقية القدس لها عبر التطبيع المجاني. ففي حسابات الصراعات الدولية، لا يكفي الموقف الوجداني، إذا لم يكن له نتائج ملموسة على الأرض. إن معركة القدس هي التي تكثف، وستحسم مكانة المسلمين، عقيدة وحضارة ودورا فاعلا في عالم المستقبل.
والخشية الأخرى على هذا الحراك الاجتماعي الوجداني أساسا، لاختلاط خلفياته السياسية والأيديولوجية، أن يكون بغير إرادة منه، فرصة مناسبة للبؤر الظلامية ولأعمالها الإرهابية، تقوي بدورها شرعية التيارات العنصرية في البلدان الغربية. وقد بدأت أحداث من هذا النوع، تزيد من جهة أخرى من مخاوف «الجالية» المسلمة في هذه البلدان، وهي التي تميل إلى معالجة مشاكل أوضاعها الخاصة بالحوار والتدرج والهدوء. ولا يقل عن ذلك، أن يُستغل هذا الحراك الذي انخرطت فيه مصالح دول ذات ارتباطات استراتيجية مشبوهة، لتُخلط الأوراق ولتُحافظ على ماء الوجه، وخاصة للتغطية على تموقعاتها وأهدافها الحقيقية مع إسرائيل.
خامسا: لا مراء في أن صاحب الكاريكاتور الاستفزازي لم يفكر في كل هذه التداعيات، وحتى الرئيس الفرنسي، في ما اعتبر «هفوة لسانية» منه ضد الإسلام، قد أراد ما يحصل.. وإن كانت الهفوة الحقيقية ليست زلة لسان لغوية، بعد أن تجلت في انحياز عملي لجانب إعلاء وتعميم الكاريكاتور المستفز في المؤسسات العمومية(!). قد يكون تفسير هذه الهفوة، غلبة اللاشعور لديه في أن يزايد على اليمين المتطرف لكسب أصوات انتخابية منه في الانتخابات الرئاسية القادمة. ولا عجب في ذلك، فهي حالة عامة تعبر عما وصلته «السياسة» لدى النخبة الغربية الليبرالية من انحطاط براغماتي تَخضع فيه المبادئ والاختيارات الكبرى للبيع والشراء في «السوق الانتخابية»، وليس من محدد آخر سواها.
إن قصور الوعي الفردي في الحالتين السابقتين، يعني شيئا واحدا، أن الأفعال عندما تخرج إلى الواقع تستقل عن أصحابها، لتتفاعل، إيجابا أو سلبا، مع ديناميكية الواقع الموضوعي الأرحب، فيحكمها منطق الصراع السائد فيه.
ومنطق الصراع هذا، يبين في نهاية التحليل، أن الحلقة المركزية فيه، تدور حول: لمن ستكون الغلبة من بين أنصار المقولتين، إما انتصار لدعاة الخلط بين مناهضة اللاسامية ومساندة الصهيونية الاستعمارية الاستطانية العنصرية. وإما انتصار لدعاة الحق الفلسطيني في تقرير مصيره. وليس صدفة في هذا الصراع العالمي على سبيل المثال، أن يحدث، وفي هذا التوقيت بالذات، قيام حزب العمال البريطاني بتجميد عضوية قائده السابق «كوربين» المناصر للحق الفلسطيني، وبنفس الذريعة معاداة اللاسامية ! وإذا كان المجال لا يسمح لي بالبرهان التفصيلي على مركزية القضية الفلسطينية في الصراعات العالمية التي ترتبط بمستقبل الشعوب العربية – والإسلامية، فلعل التذكير بتصريح نتنياهو، وهو يتفاخر، بأن إسرائيل قد أنهت مع «القومية العربية» (وفي ذلك شيء من الحقيقة وليس كل الحقيقة) يغنيني عن مشاق البرهان، لأختم، بأن الصراع مازال حيا، وسيظل مستمرا. ونتانياهو ينبهنا بغير قصد منه، أن طريق التآزر العربي الوحدوي، والإسلامي التضامني، هو خيار النصر والتحرر والنهضة والتقدم. إنه طريق «حنظلة» الشاهد على هذه الملحمة التحررية إلى أن تدرك غاياتها !
الكاتب : محمد الحبيب طالب - بتاريخ : 09/11/2020