أزمة « ديمقراطيتنا» و ثالوثها المحرم

ذ: محمد بادرة

الديموقراطية بمفهومها العام هي العملية السلمية لتداول السلطة بين الافراد او الجماعات وتؤدي إلى تحديث المجتمع ودمقرطة وبناء الدولة المدنية، دولة الحق والقانون والمؤسسات مع إقامة نظام اجتماعي عادل يؤمن به ويسير عليه المجتمع ككل على شكل اخلاقيات اجتماعية.
والديموقراطية السياسية بجذرها العلماني ونسغها الانساني، تعني انبثاق السلطة عن الشعب بالانتخاب الحر المباشر او غير المباشر(وعن طريق نظام للتصويت والتمثيل النيابي)، كما تعني حرية الرأي والفكر والانتماء والاعتقاد، وحرية الصحافة والنشر، وحرية تشكيل الاحزاب السياسية والجمعيات وصيانة حقوق الانسان التي نصت عليها المواثيق الدولية، وهي اذ تعني حكم الاكثرية وحرية الاقلية وحقها في المعارضة، ويعني ذلك كله التداول السلمي للسلطة وتمدين السياسة والمجتمع.
لكن في الوقت الذي يمكن فيه ان يكون للمجتمع الديموقراطي حكومة ديموقراطية فإن وجود حكومة ديموقراطية لا يعني بالضرورة وجود مجتمع ديموقراطي. والحال انه في الآونة الاخيرة كثرت النقاشات والتحليلات والعديد من الدراسات حول «ديموقراطيتنا» الفتية، أضاءت لنا هذه الدراسات مختلف جوانب هذه « الديموقراطية» بمفاهيمها التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لكن كثر الحديث اساسا عن «أزمة الديموقراطية» لدينا و البعض من هذه الكتابات كانت محكومة بنظرة اكاديمية تجزيئية عجزت عن ادراك المسالة الديموقراطية وابتعدت عن ربط هذه المسالة في سياق جدلية التطور التاريخي وكذا غياب الإشارة إلى أزمة الأحزاب وأزمة الفكر السياسي وأزمة المجتمع المدني وإخفاق كل المشاريع الاصلاحية في تحديث المجتمع ودمقرطة وبناء المؤسسات.
ان «ديمقراطيتنا» اليوم تمر بأزمة لا شك فيها ومؤشرات هذه الأزمة الكيفية والكمية متعددة ومتنوعة ومن المؤشرات الكيفية لهذه الأزمة شيوع ظاهرة السلبية السياسية واللامبالاة بالعمل السياسي الذي يكشف عن ظاهرة أعمق في المجتمع هي ظاهرة الاغتراب والجمود السياسي.
ومن المؤشرات الكمية العامة نسبة الناخبين الفعليين سواء في الاستفتاءات الدستورية او في الانتخابات الجماعية والبرلمانية مقارنة بالعدد الاجمالي لمجموع الناخبين. كما ان من المؤشرات الكمية قلة عدد الاعضاء المنخرطين أو المنضوين في الاحزاب السياسية سواء في احزاب الاغلبية أو احزاب المعارضة مما يكشف عن أزمة حادة في المشاركة السياسية مع اجتياح موجة كبيرة من خيبات الامل وسط الرأي العام المغربي على ان ديموقراطيتنا خيبت امالهم.
لماذا؟؟
هل بسبب خيانتنا للممارسة الديموقراطية؟ هل بسبب الفجوة بين النصوص التشريعية والممارسة الفعلية على أرض الواقع وسوء تطبيق القوانين؟ هل بسبب قوة وهيمنة الايديولوجية الرسمية المسيطرة على كل حركات المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية؟ هل بسبب تعارض الاحزاب السياسية فيما بينها؟ أم أن هذه الأحزاب ليست لها اهداف غير نفسها حيث التنظيم الحزبي اصبح علة وجود التنظيم فجميع هذه الاحزاب تدعي الرغبة في الدفاع عن الصالح العام لكن الكل في الواقع لا يدافع الا عن قوته الخاصة ولا يعطي الأولوية في تفكيره إلا لمسألة توسيع مجال نفوذه.
واسترجاعا لصفحة من تاريخنا السياسي الحديث، قامت الدولة في فترة من فترات الحجر السياسي بإزاحة حزب من الاحزاب الوطنية الديموقراطية( الاتحاد الوطني للقوات الشعبية – الاتحاد الاشتراكي ) من مركز اتخاذ القرار مما ادخل الاحزاب في مرحلة متدهورة كمؤسسات سياسية وطنية، فتحول بعضها إلى « جماعات مصالح « او» ائتلافات شخصية « تبحث عن مصالح ضيقة ولم يعد لها اي دور سياسي واضح غير الموالاة والتبعية للتوجهات وللقرارات السياسة الرسمية فضاع زمن سياسي غير يسير ضاعت فيه الامكانيات الكبرى لصياغة مدخل تأليفي للتصدي لأزمة الديمقراطية في بلدنا بسبب تدخل الجهاز الاداري في توجيه المسار السياسي.
إن الانتقال المنشود من مرحلة الديموقراطية الشكلية إلى مرحلة الديموقراطية المؤسساتية ،تتطلب القيام بإصلاحات دستورية وسياسية حقيقية لأن الديموقراطية ليست مجرد اسلوب حياة او نظام حكم فهي قبل كل شيء مؤسسات وتنظيمات وعمليات في التنشئة الاجتماعية والسياسة تسمح للجماهير بأن تشارك وتعبر عن آرائها مهما اختلفت وتنوعت.
فماذا يمنعنا عن ذلك؟ هل هناك محرمات سياسية واجتماعية تحول دون تحقيق ديموقراطية سليمة ؟
إننا قد نستعرض عددا من المسببات التي ادت وتؤدي إلى حدوث هذا النكوص او السقوط «الديموقراطي» ومنها :
استعمال الرشوة و المال الحرام يفقد الديموقراطية مصداقيتها
ان القوانين المنظمة لكل الاستشارات الشعبية في الانتخابات والاستفتاءات تحمل ثغرات وعيوبا تسهل على خصوم الديموقراطية ممارسة الغش والتزوير والتلاعب بإرادة الشعب
بسبب استفحال الرشوة والتوظيف المكثف للمال الحرام في الاقتراعات الانتخابية وهذا اخطر من ان يعالج بشكل سطحي او بواسطة اجراءات ومؤسسات شكلية، وهذا ما يبرر غياب الارادة الجماعية من الدولة ومن الاحزاب في احداث قطيعة مع ظاهرة الرشوة المنتشرة بشكل نسقي. ومن شأن استفحال هذه الظاهرة ألا يشجع ذلك على المشاركة الفعلية في الاستحقاقات الانتخابية وتوطيد مشروعية المؤسسات التمثيلية.
إن النصوص القانونية والتنظيمية التي يتم اعتمادها نصا لا تطبيقا او تلك التي تنتظر الخروج من ثلاجة الحكومة والبرلمان، قد ساعدت في تأبيد وتمديد حالة الجمود السياسي وضعف مردودية المؤسسات التمثيلية…وهي مؤسسات لا تستطيع ان تتحمل اي مسؤولية في تطويق الازمات المتتالية على بلادنا، وهي ازمات يعرفها الشعب قبل ان تتحدث عنها المؤسسات التمويلية الدولية، ويعرفها الشعب قبل المسؤولين لأنه يكتوي بنارها.
أن يكون المال من الاولويات عند اي مرشح حزبي للانتخابات في نظام ديموقراطي ليبرالي او غير ليبرالي، فهذا ما نعرفه في نظام الانتخابات الامريكية والغربية عموما سواء اكان المرشح هو مالك هذا المال ام كانت الاحزاب تعبئه لصالح المرشحين .. لكن ذلك يكون تحت مراقبة مؤسسات دستورية حتى لا يهيمن طرف على آخر بقوة نفوذه المالي لا السياسي. غير ان الذي يحصل هو أن النفوذ المالي يهيمن على المناخ السياسي والانتخابي ويحول اللعبة الديموقراطية إلى صراع المالكين للمال والنفوذ ضد غير المالكين وبذلك نكون وكأنه تعود بنا اللعبة الديموقراطية إلى عهدها الاغريقي (الاسياد والعبيد).
ولقد لخص سيرج كريستوف كولم هذا الوضع بالصيغة القاسية التالية ( حتى يتم انتخاب المرشح بأغلبية الأصوات فأضمن سبيل أن يتم انتخابه أولا بأغلبية الفرنكات).
إنه إذا كانت جهات ما تعتمد المال للتأثير في العملية الديموقراطية وبالتالي توجيه العمل السياسي، فمن المؤكد ان هناك امكانية لتعويض الحضور المادي والمالي في الانتخابات بالنشاط النضالي خصوصا لدى الاحزاب التي تنشط على مستوى القاعدة الجماهيرية وفي صفوف العمال والفئات الاجتماعية الهشة كالأحزاب اليسارية (العدالة الاجتماعية) والراديكالية التي تحمل افكارا متشددة او جذرية. ولقد لاحظ سيرج كريستوف كولم انه ( كلما اتجهنا يسارا او تطرفنا يمينا ويسارا وجدنا اشخاصا مستعدين لوهب أموالهم وأنفسهم دفاعا عن رأيهم ).
ومن البديهي أن يرافق الفساد الانتخابي والفضائح المالية وضعا يكون فيه المال هو المتحكم في الاستشارات والانتخابات، بل هناك من يحاول ان يبرر ذلك بالقول بأن مزية الديموقراطية تكمن في أنها تسمح بتفجير الفضائح مما يمثل دليلا على ان الإعلام في مناخ ديموقراطي يكون (حرا)، والواقع ان هذا الأسلوب غريب تعتمده (الديموقراطيات لتجعل من عيوبها امجادا )، ومن الممكن ان نتساءل ايضا عما اذا لم تكن التشريعات والقوانين الانتخابية بطبيعتها هي ما يساعد على قيام هذه الفضائح، وقد أكد مونتسكيو(ان الديموقراطيات مهددة بالفساد اكثر بكثير من غيرها من الانظمة نظرا لأن السلطة في الديموقراطيات أكثر خفاء وبالتالي فإن عدد المفسدين هو بالضرورة أكثر)- عظمة الرومان وانحطاطهم – الفصل 3
ويقول الكاتب ذو النزعة الماركسية – فرانسوا بيرو- إن (المال هو الذي يملك السلطة في الديموقراطية الشكلية وستبقى ديمقراطية القرن العشرين حبرا على ورق مادامت لم تتجاوز الاقتصاد الرأسمالي والاشكال البورجوازية لليبرالية البرلمانية).
إن رهان الديموقراطية في بلدنا أن تكون المؤسسات التمثيلية منتخبة بكيفية نزيهة وحرة بعيدة عن اي تأثير للمال الحرام الذي يفسد اللعبة والممارسة الديموقراطية ويخونها.
الجمود السياسي …بداية انحطاط الديموقراطية
الجمود السياسي ظاهرة سلوكية في تخلف العمل السياسي تساعد على نمو التطرف والتعصب، ويقول موريس جونس في هذا الشأن إنه ( كلما انحطت الحياة السياسية بدا العنف والارهاب وكأنهما الوسيلة الفضلى لإيقاظ الرأي العام المخدر الذي لا قدرة له على التدخل في المجريات وبذلك يصبح الجمود دعامة فعلية للتطرف).
ومن النتائج السلبية للجمود السياسي استحواذ واستحكام المستحوذين الفعليين على السلطة فيعملون على عرقلة قواعد واصول الديموقراطية، ويختلسون السلطة ويقيمون انتخابات شكلية ويحولون طقوسها إلى حفل وإلهاء نفسي واجتماعي لا تعكس الوجه الحقيقي للتصويت السيادي، فيزداد فقدان الثقة بالاقتراع وبالأحزاب وبالمرشحين، والدليل على ذلك أن عدد الممتنعين عن التصويت يتكاثر فترة انتخابية بعد اخرى، وقد يفوق احيانا عددهم اعداد المصوتين. فماذا يعني هذا؟ إنه اللامبالاة بالعملية السياسية وبالتجربة الديموقراطية وهو مدخل إلى اليأس والجمود.
إن اولئك الذين يعملون على نشر( اللاتسييس ) إنما يهدفون إلى تحويل الديموقراطية إلى نموذج تكنوقراطي لا يخضع فيه القرار السيادي للمقاييس الشرعية الديموقراطية، وهم بعملهم هذا يستثيرون ردود فعل رافضة لا يمكن لأحد أن يتوقع نتائجها فقد يؤدي الحجر على الديموقراطية إلى نهاية الديموقراطية، وفي هذا السياق صرح ميشال دوبري في احد استجواباته مع مجلة فرنسية ( إن أكثر ما أعيبه على الطبقة السياسية الحالية هو إجبارها الافراد الذين يؤمنون بالديموقراطية على طرح تساؤلات حولها…) لأجل التشكيك.
إن اخطر ما في النظم الديموقراطية هو تحولها إلى أجهزة ومؤسسات تعيد إنتاج سلطات تنفيذية وتشريعية لا تستطيع مواجهة المشكلات اليومية للمواطن وتقوم بتدوير هذه المشكلات بما يوحي للمواطن العادي ألا أمل في النظام السياسي لابتداع الحلول ولا قدرة للقوى السياسية على تجاوز مشكلاتها ووضع حد لتعارضات مصالحها.
حالتنا نحن تمثل نموذجا لهذه الظاهرة، فمع السقف العالي من التوقعات بغد افضل ومجتمع اكثر عدالة اجتماعية خلال بداية المسلسل الديمقراطي في منتصف السبعينيات ومنها –اقامة دولة المؤسسات – تقوية دور الاحزاب والنقابات – تقوية اجهزة المراقبة لحماية حقوق الانسان ..- وبعد سنوات القهر والجمر تولدت لدى المواطن آمال عريضة بحياة رغيدة وبمرحلة سياسية يكون فيها سيد نفسه ومصيره وتمكنه من مؤسسات نزيهة قائمة بإرادته الحرة بعيدا عن اي ضغط او تزييف حتى يعوض ما فاته، لكن سرعان ما وجد نفسه محاطا بكم هائل من المشكلات وضغط يومي من الخطابات السياسية والإعلامية التي تشعره بالعجز والاحباط، مضافا لها تعملق الفساد وسلطة المال والنفوذ، فكان حصاد ذلك خطيرا على الحالة النفسية للفرد زادته احباطا على احباط ،وأفقدته الثقة بالزعامات وبالأحزاب بل وبالعمل السياسي والمستقبل، وجعلته يفكر بخلاصه الفردي وبهموم يومه حيث لا أفق مفتوح ولا أمل منشود؟؟؟
إن المواطن بحاجة إلى خطاب سياسي وإعلامي واضح ومسؤول لا إلى الأماني والرغبات والأشواق التي تتردد على الالسن او تدبج في الكتابات والخطابات الشعبوية، لأن الديموقراطية لن تتحقق إلا إذا استدعتها موضوعية سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية تجعل منها ضرورة تاريخية تفرض نفسها على الجميع.
إن الخطاب اليائس الذي يتردد كل لحظة وكل حين عن « الاكراهات « وعن « ثقل اخطاء الماضي « يدفع إلى الاعتقاد بأن السياسة لم تعد مسألة اختيار وأن أفضل شيء يمكن أن يفعله الناخب أو المواطن هو أن يولي أمره للتكنوقراط، أي لأولئك الذين « يجيدون» تدبير الشأن الاقتصادي، وهكذا يتخذ رأي هؤلاء « الخبراء « وزنا هاما يتجاوز بكثير وزن الاحزاب والقادة وحتى الاقتراع ، ومن ثم يصبح الجمود السياسي عاما فيتولد عنه التصويت السلبي أو العزوف عن التصويت.
لهذا ينبغي (توفير شروط المصداقية للنشاط السياسي وضمان نزاهة القواعد المنظمة للمجتمع المدني والتي تتيح لكل هيئة او فعالية أن تعبر عن وجودها حتى تخوض معارك التنافس الديموقراطي الذي يفرضه التعدد…) عبد القادر العلمي – هاجس التغيير الديموقراطي.
كما ينبغي استنهاض الهمم ورسم خطوات العمل وإصلاح واقع الحال ووضع الاهداف الكبرى وتجاوز الخلافات وتقبل الاختلافات وتعايش الايديولوجيات والبرامج الاجتماعية…لكن ما يجري في بلدنا هو خلاف ذلك، فالصراعات السياسية والخصومات الحزبية بددت ثقة الناس بالقوى السياسية وأشاعت حالة اللامبالاة والعجز بما سيدفع إلى فشل العملية السياسية.
إن الجمود السياسي يؤدي إلى تصويتات أكثر فأكثر سلبية، وما دام أنه لم تعد هناك برامج تثير شهية وحماس المواطن، وبما انه لم يعد هناك رجال سياسة وإيديولوجيا وثقافة يؤسسون لقيم الحرية والمساواة والحقوق والواجبات والمسؤولية ..اي يؤسسون للديموقراطية، فإن الناخب والمواطن سيهجر ساحة العمل السياسي وساحة النضال الديموقراطي ومقاطعة الصندوق الانتخابي…وهذا ما سيسمح للفئات المعادية للديموقراطية بالتحكم والاستحكام.
الإعلام الموجه … آلية لاستمرار التحكم ومادة لنسف الديموقراطية
يتمز العصر الحالي بأنه عصر الاتصال الجماهيري حيث اصبحت كل وسائل الإعلام الحديثة من الادوات الاساسية في تزويد الافراد والجماعات والمجتمعات بالمعارف والمعلومات، وقد يمتد تأثيرها ليشمل تشكيل الآراء والاتجاهات وتغيير انماط السلوك، انه محاولة للسيطرة والتحكم في عقل الانسان وسلوكه. والحال أن الإعلام ليس معطى موضوعيا، فهو إما خاضع للتوجيه أو للتحريف وإما حامل لمجموعة من الافكار التي تحيد بعضها بعضا من زاوية دلالاتها.
ومفهوم الإعلام، هومن بين المفاهيم الاساسية في الاصول الاجرائية للديموقراطية لأنه هو القناة الاساسية لتزويد الناس بالحقائق وبقصد معاونتهم على تكوين الرأي السليم إزاء مشكلة اجتماعية أو اقتصادية او قضية سياسية، ودور الإعلام الصادق هو نقل ( صورة الشيء لا إنشاء هذه الصورة وبالتالي فالإعلام لا يرسم سياسة الدول بل هو معبر عنها فقط).
ولذلك اعتبر مفهوم المصداقية من أبرز المفاهيم التي راجت في الكتابات او الدراسات الإعلامية، وتزايد استخدام هذا المفهوم في كل المعارك السياسية والانتخابية تأكيدا لتوافر هذه المصداقية أو نفيا لها. وتفهم مصداقية الإعلام على أنها صدق الوسيلة الإعلامية بصدق الرسالة الإعلامية ودقتها وعدم تحيزها، اما المقياس الأيديولوجي لمصداقية الإعلام، فيعني عدم تركيز الرسالة الإعلامية على وجهة نظر واحدة وتجاهل باقي الاطراف ووجهات النظر الاخرى، اما مقياس المعرفة فيعني مدى شمولية او جزئية الاحاطة بالموضوع الذي تحمله الرسالة، واخيرا مقياس التزوير ويتعلق بمدى تحريف او دقة الرسالة الإعلامية.
لقد انشغلنا طويلا بمفاهيم مشابهة من قبيل «ديموقراطية الإعلام « – «حرية الإعلام»-»الحق في الاتصال « – إلى غيرها من المفاهيم لكن مفهوم المصداقية يرتبط بمدى ثقة او اقتناع الجمهور بصدق الوسيلة الإعلامية من حياد ونزاهة واخلاقيات صحفية وعلى نزاهة الإعلام تتوقف إلى حد بعيد نوعية القرار والاختيار، وعلى سبيل المثال لا يمكن في ظل الديموقراطية ان يتعرف المواطنون على الاحزاب والنقابات والجمعيات والمنظمات المجتمعية، ولا أن يصلوا إلى قراءة واستقراء تاريخ المؤسسات الحزبية وغير الحزبية والوثائق التنظيمية والايديولوجية للأحزاب الا بواسطة اجهزة ووسائل الإعلام الحكومية وغير الحكومية ، فالحزب الذي لا يتكلم عنه احد لاحظ له في ان يتم التصويت عليه او يفوز في الاستحقاقات الانتخابية، والحدث الذي لا تنقله وسائل الإعلام ليس حدثا فكانه لم يحدث.
ان وسائل الإعلام تملك سلطة هائلة لأنها هي التي تقوم بتكوين الرأي الذي سيعبر عن نفسه في التصويت، في حين ان اولئك الذين يقررون نوع الإعلام وتوجهه لا ينتخبون انتخابا.
فالناخبون والاحزاب نظرا لعدم توفرهم على الوسائل التي تكفل لهم تكوين رايهم يجدون انفسهم مرغمين على تولية امورهم للإعلام الموجه. والتحكم بالرأي العام تتم بطرائق قريبة الصلة بتقنية التسويق والتكيف الاعلاني وهكذا فان الارادة الشعبية قد تصنعها اليوم اكثر فاكثر تقنيات تكييف الرأي. يقول روبرت فيسك إن الإعلام المعاصر اصبح كالعصا السحرية التي تتعلق بالعقول وتوجهها لتبني مختلف المواقف، بل أصبح للإعلام قدرة على خلق واقع وهمي جديد لا يمكن أن تراه إلا من خلال الإعلام .
هكذا، يجد المواطن المغربي نفسه محاصرا أو مضطرا للتعامل مع وسائل الإعلام الحكومية و» الخاصة « كالقنوات الإذاعية والتلفزيونية بأيقوناتها المختلفة وهي وسائل تخضع بصورة مباشرة او غير مباشرة للسيطرة والتوجيه الحكومي رغم ضعف مصداقية بعض هذه الاجهزة الإعلامية لدى افراد من الجمهور « الواعي – المسيس « وفقدان ثقتهم بها في عدد من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والترفيهية وبعض هذه القضايا قد تتعرض لتوجيه اكثر صرامة وخصوصا السياسية منها والبعض الآخر قد يقل فيه هذا التوجيه – قضايا الترفيه والفن والرياضة – وبالتالي يجد المواطن نفسه امام موضوعات متحيزة وغير دقيقة ولا تلبي اهتماماته .
إن مبادئ الديموقراطية والحرية والتعددية التي لا تتجسد من خلال وسائل الإعلام الرسمية تبقى مجرد هامش محدود لتبرير الواجهة الشكلية للديموقراطية التي لا يمكن ان تحقق الغاية الجوهرية في تمكين الشعب من تسيير شؤونه وتحديد اختياراته بنفسه
إن الإعلام الديمقراطي يقوم على مبدأين اساسيين :
اولهما حق المواطن في التعرف على ما يجري في بلاده ..والارتقاء بمستواه الفكري والحضاري.
والثاني هو حق المواطن في التعبير عن قناعاته وابلاغ رأيه .. والإعلام الرسمي هو الأداة المشتركة بين عامة المواطنين وينبغي ان يكون مفتوحا أمام الافراد والهيئات والتيارات من مختلف المشارب والمذاهب ليصبح معبرا عن الواقع بإيجابياته وسلبياته – هاجس التغيير الديموقراطي – ع القادر العلمي – ص 51-52
وأما الإعلام الحزبي إذا كان يعطي الاولوية للقضايا الحزبية فان عليه ان يبتعد عن خطاب الانفعال لأن الانفعالات انما تتوجه كلها نحو ما هو ثانوي ( وقديما قال مكيافيلي إن الانفعالات هي التي تسير الانسان وليس العقل ) وعلى الاحزاب والمرشحين ألا يستغلوا العوامل الانفعالية او التفاهات « المذهلة» كأسلوب إعلامي للتعامل مع المواطن او الناخب، لأنه أسلوب إعلامي مستورد من النظام الانتخابي الامريكي الذي يقوم على الإعلام الفضائحي.
جسد الفيلسوف جان بورديار في أطروحته ( موت الواقع) الذي نعيشه اليوم والذي هو اقرب إلى الوهم منه إلى الحقيقة، فالكثير من المعطيات الحالية عندما نقارنها بارض الواقع، نكتشف ان الواقع مصطنع، لذا ما نعيشه اليوم ما هو إلا حروب وهمية تهدد عقولنا، وصنعتها آلة الإعلام لتخدم أجندات مختلفة تنصب كلها لصالح الأقوى الذي يقدم نظرته وفكره في ثوب الحقيقة تارة والحرية تارة اخرى.
ان ديموقراطيتنا اليوم تواجه ثالوثا مدمرا من إعلام موجه – ومال حرام – وجمود سياسي مما يزيد من استمرار الانسداد في الوضع السياسي والانتخابي أو حتى « اغتيال الديموقراطية « ولتحقيق ديموقراطية حقة لابد من التغلب على روح اليأس والاستقالة التي تميز نخبتنا الثقافية والسياسية الراهنة لدرجة أصبح معها الفساد والرشوة كائنا مقبولا وأمرا شائعا. فلْنقض على هذا الثالوث المدمر ولنبنٍ الوطن على ركائز الديموقراطية والحداثة والتقدم والخصوصية الثقافية والروحية.

الكاتب : ذ: محمد بادرة - بتاريخ : 11/11/2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *