الشَّاعِرُ مُحَمَّدِ الشِّيخِي فِي ظِلَالِ الْمَعْنَى

 

في بدء الكلام:

تَشْرَع تجربة الشاعر المغربي محمد الشيخي أفق التّرحال في المفاوز الشعرية، التي تبْتدع صوتها الشعري وتنحت عوالمها بلغة فيّاضة وذات نفَس إبداعيّ، وتقتضي اجتراح مسالك للقراءة تستجيب لدفق الرؤى وانزياح الدلالات المتولّدة من رحم النّص المخلوق والمعجون بخميرة التأمّل، والغوْص عميقا في غوامض الذات والعالم، لأن «النص باعتباره شبكة من العلاقات التي تنتظم في ما بينها استنادا إلى قوانين بنيوية خاصّة يُعدّ التعرّف عليها شرطا رئيسا لتحديد» معنى «النص» -كما يقول سعيد بنكراد- وبالتالي لابد للقارئ من امتلاك الوعي بهذه العلاقات المنسوجة من لَدُنِ الشّاعر مع كائناته اللّغوية، وتجربته في الكتابة والوجود.
فالنّصّ عنْده لا يقول معناه بِيُسْرٍ وبساطة، بل يدخلك إلى دهاليزه المربكة والمُحيّرة ، ولا يعود الدّاعي إلى التباسه أو حجبه لدواخله النّصيّة، ولكن يعود الأمر إلى تلك القدرة التي يمتلكها الشاعر في اقتناص اللّحظة الشّعرية، وَبَلْوَرَتِها وفْق زاوية النظر، ممّا مكّنه من تحقيق إرْث شعري، له جدارته في الشعر العربي المعاصر، وقيمته الجمالية والفنية. والشّاعر مازال يبدع بتؤدة وروية، مقيما في عزلته هناك، متوحّدا مع زهرة الموج، يرعى أشجاره الشعرية، في انتظار جَنْي ثمار الإبداع الممتعة، والطازجة بخطاب شعريّ يؤسس لوجوده، من خلال، اللغة والإيقاع والمتخيّل، وبطقوس شعائرية ذات دلالات وإيحاءات محمّلة بصفاء الشعر، ومنسوجة على نَوَلِ الخيال عن طريق التّفاعل الحاصل بين عناصر النّصّ ،ويمنحها صوتها النّابع من بنياته الداخلية حيث «الرّؤيا تتحرّك انطلاقا من الذاتي في اتّجاه الكونيّ دون أن يغيب عنها الاجتماعيّ» -بتعبير خالدة سعيد- .

(1) الرُّؤْيَةُ التَّمُوزِيَةُ
وَظِلَالُ الْمَعْنَى:

أعتقد أن التّجربة الشّعرية في ديوان «الأشجار» تؤسس لخطاب شعري لا يغيّب برانية التجربة، حيث صوتها حاضر بقوة، لكن ليس انعكاسا أو محاكاة، وإنّما، من خلال، الانغماس في القضايا الملتصقة بالانتماء إلى مجتمع يمور بتحوّلات؛ ويعيش منعطفات كان لها الأثر على تجربة الكتابة، بعبارة أخرى تجربة تَنْحَتُ صوْتَها الشّعري من نَبْضِ الانهمام بوجع الأرض والأسئلة الحارقة، فالزمن بالنّسبة للشّاعر موسوم بالمعاناة والمكابدة وبالأحلام، إلا أنه زمنٌ ستتمخَّض عنه الحياة في مواجهة الموت الذي تعبّر عنه العلامات الآتية: العسر، المتمطّط، غفوة، الفجيعة، الشجر المتعفّن …، وهي علامات تُحيل على واقع الجَوْر و الألم، وملامح الموت الرمزي التي تَعْتَوِرُ المجتمع، ومع ذلك نجد حضور الرؤية التموزية مُؤَثِّثَةَ للخطاب الشعري ومهيمِنة عليه، من خلال، مؤشرات نصية ( يا أيها الشجر المتعفّن في الطرقات/ لك النهر…/ يومئ في أصبع الموت../ فانسحبي..آية الهجْر عن ساحة الحلم/ وانشري سورة القُرب فوق بساط التّواصل../ نوّرْ أيا زمن الخِصب عُسْر الولادة..). فالمقول الشعري بيان واضح كاشف عن هاته الرؤية الحاملة لدلالات الخصوبة والانبعاث، فَمِنْ عُسْر الولادة تُولد أشجار الحياة التي ترتوي من جُنون الينابيع وتحقّق الاستمرارية، وهذا ما يعبّر عنه الشاعر بقوله( أيتها القدَم المسرعة/ سدّدي طلقة الصحو، أيتها اليقظة الهاربة/ قُصّ رؤياك..ياليل ..قَدْ/ يصهل الشجر المُتفرّع / من هذيان المدينة/ يخضرّ في جسد اليُسر/ لا ينحني الغصن ..للعاصفة.) ففي صهيل الشجر واخضراره تدليل على رؤيا البعث والحياة، وهنا تتبدى مهارة الشاعر في تلبيس الأشياء والكائنات لبوسات ذات إيحاءات رمزية تثير العديد من علامات الحيرة والدهشة، وهذا ناجم عن الخلفية المعرفية والثقافية المؤطّرة للكتابة الشعرية لدى الشاعر خلفية متجذّرة في الفكر الإنساني المؤمن بالتغيير والاحتفاء بالحياة، وحالمة بأفق شعري منفلت من الآني ومعانقا ديمومة الإبداع .
هكذا يتوحّد صوت الشاعر مع آلام العالم في زمن رديء، حيث الحصار والسّقوط والجراحات لسان حال الفجيعة، التي تفتح بابها تعبيرا عن اليأس المداهم للذات، ومع ذلك تصاب كل الأشياء بالشللية والنّكوص إلا قلب الشاعر المتّقد بالجمر كعلامة موحية بالاحتراق والعذابات يقول( باب المدينة مُقفل/ مُدّي ذراعك / فوق أسوار الهزيمة/ وافتحي في القلب نافذة / لقد وَهَنَت عظام الصدر/ وانكمشت مساحات التّوهّج/ (…) / قد يشيب الرأس..لكن/ لا يشيب الجمر.. في القلب/ باب الفجيعة مُشرَع/ غارَت نصال الغدر/ في جسد الدقائق ..) . إنّها صرخة الشاعر المدوية في وجه واقع عربي تكاسل وتهاون عن تلبية نداء بيروت المدينة ذات الحمولة الثقافية والسياسية والمدنية، في زمن الحصار. وزمن الارتكاس الحضاري. إن جمْر الواقع أكثر توقّدا واشتعالا أمام الفجائع والتراجيديات المكتوبة بمداد المكائد والخيانات، ومع ذلك تبقى بيروت الحبيبة مكان الحلم والأمل ( بيروت! فيك تمدّد الحلم الذي/ يفتضّ شارات الوقوف../ يغزرُ في بُؤس البحار../ وفي رميم الأرض..) مادامت هي البوح والرمز والسبيل للتحرّر من هذا الانكماش التاريخي والانعتاق من «الزمن الرّديء» . وتظلّ الرؤية التّموزية حاضرة بالتواشج مع رؤية الشاعر للعالم، وهي رؤية مشوبة بغياب الفعل وحضور الانفعال، إلا أن «النهر» كعلامة لغوية مثقلة بدلالات الخصوبة والانبعاث يضيء ما ادلهمّ من هذا الواقع ( إنّه النّهر..!/ يسيحُ في ارتعاش الصّمت../يحفر السّواقي/ في توهّج المسافات../وفي تشنّج الطّرقات..) إنه نهر الرفض والعصيان والتمرّد مادام يثوي في أوصاله الغرس والحلم والجمر والفجر والخصوبة، دليل على التحوّل والانفجار ( تحوّلي شموسا/ قمرا/ عشقا../صراخا/ فمن البكاء ..ما يفجّر الأنهار..) فالنبوءة الشعرية نبوءة نهرية ترمز وتوحي بالتغيير والتجدّد، وتَسْتَكْنِهُ الأعماق وتنْسج كينونة شعرية هويتها الإنصات لنبض الواقع. إن سؤال الشعر عند محمد الشيخي لا ينفصل عن «التمثيل» كما طرحه أرسطو، إلا أنه لا ينتصر لمرآوية الكتابة، وإنّما يُسْبِغُها بِمنْحى تأويلي، يُخصّب اللفظ ويُوسّع المعنى، ومن ثمّ يغدو الشعر عنده «تشكيل للكلام وفق نسَق بِمُوجِبِه تتحرّر الكلمة من المعنى الواحد الذي تُكبّلها به طريقة استخدامها في الاستعمال العادي، وتمثّل في مهبّ الدلالات…» – كما يقول محمد لطفي اليوسفي- لذا تبقى الصياغة الجمالية والفنية من بين الهواجس الإبداعية التي يروم الشاعر إلى تحقيقها لضخّ الخطاب الشعري بدماء التجديد والخَلْق.
إن الملمح التّموزي يظل حاضرا في منجز الشّاعر،بل يشكّل ميسما إبداليا وإبداعيا، إبدالي من حيث الرؤية الاستشرافية التي تُخرِج الشّعر من راهنيته، وتُوسِمُهُ بأبعاد جديدة تستقي وجودها من المستقبل يقول:( إنها الأنهار../ تجري فوق جغرافية الحلم/ وإنّا لنرى الأحباب../يولدون من توهج الجمر الذي/ يكبر في ذهول هذه الخرائط..(…) ورتّلي طقوس الخصْب في تمتمة الأرض../ (…) استضيئي/ من توهّج الشّوارع/فقد يزهر هذا الدّم…)، هكذا تكون الولادة سبْط الحلم والجمر والخصوبة، والتضحية من عمق استفاقة الشوارع ونهضتها، إنها سيرة التحوّل الممتدة على مستوى الخطاب الشعري، فمن الموت تنبثق الحياة وبالحياة وفيها تستمر الكتابة الإبداعية، وهذا ما يتجسّد في منطوق الشاعر متسائلا بلغة إنشائية طلبية ( من ينفث تحت لساني../فنّ الهجاء../وصاعقة الإعصار/ فلعلّ ارتجاف الطّين الموات/ ينمو في حقول الصّمت/ يتحوّل ..عشقا/ نارا/ بردا/ سلاما..) و ( من يزرع في صدري/ شحنة الزمن الآتي؟! … من يغرس صاعقة البعث / في جسد الأجوبة ؟!) ممّا يقود إلى تّأكيد ،ما عبّر عنه محمد لطفي اليوسفي،على أن «للشعر أسئلته، وله خصوصياته باعتباره خطابا جماليا يتغاير مع بقية أنواع الخطاب، بما يطرحه من قيم جمالية تسهم في تلوين السلوك والوجْد والمتخيّل»، وعليه فسؤال الشعر متعلّق بسياق مرحلة تاريخية تتغيا نشدان التغيير وتجاوز واقع مشلول بفعل عوامل كثيرة.

(2) زَهْرَةُ الْمَوْجِ : النّفْخُ فِي نَايِ الْجَسَدِ

في ديوان «زهرة الموج» نلمس تحويلا واضحا على مستوى الكتابة الشعرية، إذ لم تعُد صدى للواقع، وإنما تعبيرا عن الوجود، عن الكينونة، عن الاحتفاء بالجسد في باطنيته، وعن الشعر كطرائق تعبيرية تمجّد مكابدات الذات في الحب والعشق والبحث الأبدي عن تلك الزهرة اليانعة في تنّور الماء. هي كتابة تكتب أعطاب الروح أمام جلال الصبوات، وتنهيدة الوقت في كبرياء القصيدة، لذا نجد محمد الشيخي ينفخ في ناي هذه الروح نار احتراقاته، التي تضيء لواعج القصيدة الملتاعة، إنها كتابة تقصي الظاهر المتلاشي وتفيض بالباطن الدائم.، وتُنصتُ لهذا النشيد المتوحّد مع إيقاع الحياة. يقول الشاعر:( تمشي الشّوارع / في جسدي) هكذا تختزل اللغة تاريخ الجسد وتكثّف العالم في صوغ شعري مفتوح على قراءات تصبّ في مجرى دلالات لانهائية، حيث تتحوّل الشوارع إلى ذاكرة تعجّ بأصوات الزمن وجلبة المكان ومتاهاته،بالإنسان في تيهه وضياعه، ويصبح الجسد رهين المكان، مغلولا بهواجس الشعر ووساوسه، مادام البياض يقتات من شهوات وأهواء الجسد. يقول 🙁 ها جسدي / يتفتّت في لوحة العمر / في دهشة اللّوْن/ في غُربة الماء!) . إن حالة التشظّي تجسيد لمكابدات الذات؛ وتثوير لتمزّق الجسد، وذلك لإبراز حجم الاغتراب والنفي، لكن تبقى القصيدة شبيهة الحلم الصاعد من خابية العمر الجميل، ليشهد على اخضرار الهواء بين أصابع الشاعر يقول: ( يخضرّ/ذلك الهواء/ بين أصابعي/ هو العشق المعتّق الذي/ يصعد من تنهيدة الأرض/ لتفتحي / أيا أنشودة الشمس/ كتاب اللّيل/ في محراب ذاك الفضاء). فالشاعر لا يعبّر عمّا يخالجه وإنّما يبحث عن وجوده في محراب العشق، إنها موسيقى نابعة من مسام الصبوات تعزف تراتيل الحياة على إيقاع شهوة الماء، والبحث عن الكينونة المفقودة «فالحضارة الإنسانية اليوم تنزع إلى حكم الإنسان حياة الوجود بكل ما تمكّنه قواه ومواهبه، وإلى ظهور الذاتية الإنسانية خلال ذلك كلّه ظهوراً واضحاً» بلغة حسين هيكل. فالعودة إلى الذات بعد هجرانها تعبير عن الانعطافة الكبرى التي شهدتها الشعرية العربية، والتي كانت بوادرها وإرهاصاتها مع التيار الرومانسي الذي أعاد الاعتبار إلى الذات كملمح من ملامح التجديد،وهذا ما يتّضح ، من خلال هذا الديوان، إذ نجد الشاعر يبتكر أسطورة الذات في محراب العشق الصوفي، مما يشكّل تحولا في مسار تجربته الشعرية، التي كانت مرتهنة لصوت المعيش والانخراط التاريخي في أسئلة الحاضر دون السقوط في المرآوية المبتذلة، بل تمكّن الشاعر من خلق صوته الشعري بلغة المواجد، التي أسهمت في تخصيب الكلمات بحمولات دلالية جديدة، يقول:( هذا البياض/تَراه/ يُؤسّس مملكة الشهوات،م يدبّ خفيفاً،،/يسيح على شارع الليل/ أو يستوي ورقا/يتنفّس في شمعة الصّمت،،/يرتاح فوق سرير القصيدة،،/هلّا تذوّقتَ فاكهة القلْب،،/هلّا شرعْتَ لذاكرة الجُرْح/نافذةَ العشْق،،/ قطّرت في أُذُن الفجْر/سوسنة الصّبوات…) فاللفظ تمّ شحنه بإيحاءات دلالية تخرج عن السائد،إذ تحوّل البياض إلى كائن بمواصفات أخرى فهو خالق الشهوات والسائح والمتحوّل إلى قرطاس لكتابة العشق وتحقيق اللذة عن طريق الصبوة، من هنا نقول إن تجربة الشاعر انزاحت عمّا هو مرتبط بالهم الجمعي إلى الانهمام بالذات الشعرية كأسلوب للتعبير عن انشغالات الذات وهي في حضرة العشق، وهذا الأسلوب- بتعبير رولان بارت: «ماهو إلا استعارة، أي معادلة ما بين النّيّة الأدبية والبِنْية اللحمية للكاتب( يجب أن نتذكّر بأن البنية هي مستودع ديمومة ما) والأسلوب هو دائما سرّ (…) والفضيلة التلميحية للأسلوب ليست ظاهرة سرعة( …) بل هي ظاهرة كثافة لأن ما ينتصب مستقيما وعميقا تحت الأسلوب، مجموعا بقسوة أو بحنان في صوره، هو شذرات واقع غريب تماما عن اللغة» ، ومن ثمّ فهو يجعل اللغة تُبطّن اللغة، وتفجّر جداول العشق، تنساب عبارة عن تراتيل السّفر في أعماق الذات والوجود، تستلهم كينونتها من عناصر الطبيعة والانغماس في مياه الصبابة العميقة الغور، عازفة أناشيد الحب في عالم تنهار فيه القيم، وتزداد أعطابه واختلالاته شراسة وحدّة مما جعل هذه الأناشيد جريحة الإيقاع ونازفة لدواخلها الباطنية وغارقة في مكامن الأسرار والسرائر.

خاتمة الكلام:

إن تجربة محمد الشيخي الشعرية من التجارب الشعرية التي تحتاج من النقد المغربي الالتفات إليها، نظرا لغناها في ما تطرحه من إبدالات على مستوى التيمات والبُنى الأسلوبية، وماقمنا به نعتبره محاولة قاصرة لم تقترب بالشكل العميق من غنى هذه التجربة وامتدادها في الذاكرة الشعرية المغربية، وأيضا قراءة غير مكتملة لكون سعينا منحصر في فتح كوّة على عوالم الشاعر المدهشة والفاتنة، وإضاءة بعض عتمات التجربة والاقتراب من تخومها النّصية.


الكاتب : صالح لبريني

  

بتاريخ : 13/11/2020