الوداع الممنوع واللقاء المحتمل

تواصل ﭬﻳروس كورونا ممارسة سلطته الصامتة والغامضة على البشر، وتُواصل الجماعات العلمية البحث عن كيفيات محاصرته والحدِّ من جبروته. وبجوار ذلك، تمتلئ المستشفيات العمومية والمصحات الخاصة والأماكن التي أُعِدَّت لاستقبال الأعداد المتزايدة للمصابين، حيث يواصل كوﭭﻳد 19 الفتك يومياً بآلاف الأرواح، من الصغار والكبار وفي مجتمعات الغنى والترف ومجتمعات الفقر والعوز. وقد أدَّت إجراءات رفع الحجر الصحي التي اتخذتها كثير من المجتمعات بعد مرور أشهر على إقرارها، إلى تدارُك جوانب من مسلسل الخَلَل الذي لَحِق مختلف أَوْجُه ومظاهر الحياة في المجتمعات البشرية، وألحق أضراراً بالغة بمتطلبات العمل والإنتاج، التي بفضلها ينتظم العيش المشترك، توقف مسلسل الخلل الذي لحق مقاولات ومؤسسات المجتمع، لكن استمرار حضور اﻟﭭﻳﺭوس بيننا لم يُسعف المجتمعات الإنسانية باستعادة روح المبادرة القادرة على تدارك التداعيات، التي لحقت المجتمعات في النصف الأول من سنة 2020.
ساهم رفع الحجْر المُصاحَبْ بالتعايُش الْحَذِر مع الوباء في مزيد من ارتفاع عدد الإصابات باﻟﭭﻳﺭوس، كما ساهم في مضاعفة عدد الأموات. وجعل المجتمعات تقف على مختلف صوَّر الخصاص في البنيات والمؤسسات المرتبطة بمؤسسات التطبيب والعلاج. ورغم أن الحكومات التي أعلنت وَقْف إجراءات الحجر الصحي، تحاول تكييف خيارها في موضوع التعايُش، فتقيم تمييزاً بين الجهات التي يزداد فيها انتشاره، والجهات التي تعرف نسبة حضور أقل وأخف، ******فتباشر تنفيذ الحجر مجدداً في الجهات والمدن التي يحصل فيها اتُّساع الانتشار، وتترك نمط الحياة الاعتيادي جارياً في باقي الجهات، مع مواصلة الاحترازات الضرورية المانِعة لإمكانية تصاعد انتشاره.
إن وضع معادلة بين مطلب الصحة وخيار إنعاش وتحريك المؤسسات المُنْتِجَة، التي توقفت طيلة أشهر الحجر، يضعنا أمام خيار صعب، ذلك أن المفاضلة بين الصحة والاقتصاد، بين الموت والحياة لا يستقيم. ويبدو أن درجات تعقيده أكبر مما نتصوَّر، إضافة إلى ارتباط طرفي المعادلة بكثير من المعطيات التي يتداخل فيها الاقتصادي بالاجتماعي، ويِتَدَاخَل فيها النفسي بالميتافيزيقي، الأمر الذي يجعلنا نشعر بأن الوباء وضع البشرية أمام امتحان كبير، فقد ألحق أضراراً عديدة بمختلف أوجُه الحياة، وساهم في كَسْر وتائرها وإيقاعاتها..
نتج عن إجراء توقيف الأفراح وإغلاق الجامعات والمعامل أشهر الحجر الصحي، جملة من الكوارث شملت شروط ومتطلبات العيش المشترك، وأُوقفت بعض شروط ومستلزمات التنمية في المجتمعات، التي تعاني مثل مجتمعنا من كثير من مظاهر التأخُّر المركَّب. كما أن توقيف الجنائز وطقوسها الاجتماعية والثقافية والنفسية، أصاب الأهل والأقارب بكثير من الأسى، وألحق بهم أحزاناً مضاعفة، نتيجة فقدان أقاربهم ولعدم تمكُّنهم من رؤية المصابين منهم قبل وفاتهم.
يُحْمَلُ المصابون إلى المستشفيات أو إلى ما يقوم مقامها، مما تستطيع الحكومات تهييئه من أمكنة، لمعاينة ومتابعة أحوال المصابين، وفي حال الوفاة تقوم أطراف معيَّنة بمهمة دفن الضحايا بعد إخبار الأقارب، حيث لا يكون هناك وقت لرؤية المريض ولا توديعه عند موته، ولا المشاركة في طقوس دفنه، الأمر الذي يضاعف أحزان الأهل ولوعتهم.
نتصوَّر أن الأمر لا يتعلق بوداع فعلي، سواء في أزمنة الأوبئة أو في الزمن المعتاد، قَدْر ما يشير إلى الرغبة في مجالسة ومؤانسة المصابين، وتقديم الخدمات الخاصة بهم، والمتعلقة بالأدوية والتغذية ومتطلَّبات الاستمرار الآمن في الحياة معهم وبجوارهم. وإذا كان الأقارب والأصدقاء يجالسون في العادة المرضى، ويحصل أن يحدث الموت أثناء المجالسة في لحظات صمتهم دون وداع، بحكم أنه لا أحد يمارس الوداع، ذلك أننا نودع في العادة من سنلتقي بهم آجلاً أو بعد حين. لا نودع من استأنسنا بهم بل نتمنَّى أن تتواصل علاقتنا معهم. إلا أن لأزمنة الأوبئة مشاعر أخرى، مشاعر وأحاسيس يساهم الوباء في منحها طعماً آخر يختلف عن طعوم الحياة بدونها.. فلا أحد يعرف متى تحصل النهاية وكيف تحصل، ولا نهاية تشبه غيرها رغم تشابه واختلاف السياقات والنهايات.
ساهمت إجراءات منع القيام بمقتضيات الجنائز في البيوت وفي المدافن، في إضفاء هالة معينة على الطقوس الممنوعة، الأمر الذي أضاف إلى أحزان الفقدان عدم مشاهدة المريض بعد التأكد من إصابته، وتمكَّن اﻟﭭﻳﺭوس من العبث بجسمه، حيث يتم منع أهله من الاقتراب منه. كما أن الإجراءات المتخذة بعد حصول الوفاة تمنع استقبال التعازي الجماعية عنه، فتتضاعف أحاسيس الفقدان والخوف، ويتحدث الناس عن الوداع الممنوع والفراق دون طقوس، خوفاً من تَفَشِّي الوباء.. ويتحوَّل الموضوع إلى فاجعة إضافية بمسميات وآثار غير معهودة، فيزداد الهلع داخل المجتمع، يزداد اقتراب الموت من الحياة..
ازداد تداول الناس لمسألة الوداع بعد إجراء عزل المصابين والتكفل بدفنهم بعد موتهم، فنشأت حكايات الوداع الذي لم يحصل، وقد فوجئت بالحديث عن الوداع الممنوع زمن الوباء، ذلك أن تغييب المصابين بكورونا في قاعات خاصة صحبة أجهزة التنفس الاصطناعي، يتضمن أحاسيس تفوق في سوداويتها وأوجاعها الرؤية الصامتة بجواره، اللحظة التي يُفترض أنها لحظة وداع لا يقبله أحد حتى عندما يَرِدُ في أحاديث الناس.
يشير الوداع إلى نوع من اليقين الذي لا نتصوَّر أن الاقتناع به عامٌّ ومُعَمَّم، والأحاديث عن الوداع تندرج ضمن الأحاديث التي تتناقلها الأجيال.. إنها تندرج ضمن طقوس أزمنة الموت والحياة.. وتُعَدُّ لحظة ما قبل الرحيل في زمن الأوبئة لحظة فقدان قسري مُخيفٍ، لحظة تدفع إلى تصوُّر أحاديث ومونولوجات أخرى يُخاطبُ فيها المصاب مصيره وأهله ولا يودعهم، إنه يراهم بأعين لا ترى، أَعْيُن مفتوحة دون نظر.. وقد يحصل أن أحداً في وضعية مماثلة قد يطلب من الموت قليلاً من الانتظار، يخاطب الموت ويطلب منه الانتظار، وقد تَغَنَّى بذلك الشاعر الكبير محمود درويش حين قال:
أيها الموت انتظر! حتى أُعد حقيبتي:
فرشاة أسناني، وصابوني، ومكينة الحلاقة، والكولونيا، والثياب (…)
هل المناخ هناك معتدلٌ؟
وهل تتبدل الأحوال في الأبدية البيضاء
أم تبقى كما هي في الخريف وفي الشتاء؟
وهل كتابٌ واحد يكفيني لتسليتي مع اللاَّوقت، أم أحتاج مكتبةً؟
تشكل سرديات الوداع والحنين، سرديات الذكريات المتعلقة بموت الأقارب، والتي يتم استحضارها في أزمنة الأوبئة والأزمات، تُشَكِّل إطاراً لتحويل المآتم إلى مجرد طَقس مشابه لطقوس أخرى تمتلئ بها الحياة.. وفي الإجراءين معاً، إجراء الطقوس وإجراء منعها، تحضر القوة المرعبة ﻟﭭﻳﺭوس يعمل على إعادة تدبير وتحويل منازل عيش البشر، بالصورة التي تُنتج سياسات في التعايش وفي الفقدان، سياسات في القرب والبعد وفي الموقف من الموت والحياة.


الكاتب : كمال عبد اللطيف

  

بتاريخ : 13/11/2020