الديمقراطية لا تحدث فجأة
محمد بوبكري
يرى بعض «المثقفين» في بلادنا أن الديمقراطية يمكن أن تأتي في المغرب هكذا طفرة واحدة. ويبدو لي أن تمثل هؤلاء للديمقراطية يكشف عن عدم فهمهم لهذا المفهوم وكذا عدم استيعابهم لتاريخنا ومجتمعاتنا، لأن الديمقراطية لا يمكن أن تحدث في بلدنا فجأة. لكنني أرى أنها مشروع وسيرورة تنتج صيرورة تفضي بدورها إلى نمط حياة حضاري…. فالديمقراطية سيرورة تنتج عن عمل نظري وممارسة اجتماعية وسياسية…. كما تقتضي أن نصبح منظمين ومتقدمين ومتحضرين نحترم بعضنا بعضا. وهي أيضا نمط ثقافي حضاري يسود الأسرة والمدرسة والفضاء العمومي وكل مؤسسات المجتمع والدولة في أن واحد. إن الديمقراطية تقتضي أولا، تكوين الفرد وتأهيله للانتقال به إلى مرتبة المواطن. لذلك، يغدو ضروريا طرح الأسئلة التالية: هل الطفل والزوجة مواطنان في الأسرة المغربية؟ وهل يمكن الحديث عن مواطنة كل من التلميذ والطالب في المؤسسة التعليمية المغربية؟ وهل نعي أن المواطنة تبدأ داخل هاتين المؤسستين؟ هل تنهض المؤسسة التعليمية عندنا، على مشروع تربوي ديمقراطي؟ وماهي طبيعة الثقافة السائدة في مجتمعنا؟ أليست في العمق ضربا من ضروب ثقافة القرون الوسطى؟
وإذا كانت الديمقراطية تتطلب تحولا ثقافيا يطال كافة مؤسسات المجتمع والدولة، فإن بناءها يتطلب زمنا غير يسير وعملا دؤوبا ومثابرة.. لذلك، فإنها لا تحدث بشكل فجائي، أو على حين غرة. وما دامت كذلك، فإنها لا تحدث في صيغة طفرة واحدة، لأنها ليست نتيجة لعملية كيماوية عضوية، إذ ما يحدث داخل مختبر الكيمياء وكيفية حدوثه يختلفان عما يحدث في المجتمع وكيفية حدوثه. وعليه، يبدو لي أن الذين، يعتقدون أن الديمقراطية تحدث فجأة، هم كمن يزرع اليوم بذرة في الأرض ويعتقد أنه سيأتي غدا، فتساقط عليه ثمارها رطبا جَنيا. إن الديمقراطية تحول مستمر يكون في صيغة طفرات وقطائع مستمرة، الأمر الذي يتطلب تطوير ثقافة ومؤسسات ديمقراطية، وهذا ما يتطلب وقتا وفكرا وعملا.
إضافة إلى ذلك، هل يوجد في بلادنا فرد بمعناه الحداثي؟ وهل يوجد في بلادنا مجتمع مدني بمفهومه الكوني؟ وهل يمتلك مجتمعنا مؤسسات تعليمية تنهض على ثقافة حداثية ديمقراطية؟…. فبدون ذلك، أرى أنه من المستحيل على مؤسستنا التعليمية أن تطور مشروعا لتربية الأطفال واليافعين والشباب على الديمقراطية. إن الجواب عن الأسئلة أعلاها وغيرها، يجعلنا نتساءل عن وجود مشروع ثقافي ديمقراطي في مجتمعنا يمكننا من التخلص من رواسب ثقافة القرون الوسطى المتأصلة فينا والتي تعوق التحول الفكري والثقافي الديمقراطي. إن هذا شرط ضروري لتطوير مشروع إصلاح تربوي حداثي يمكننا من تكوين فرد ومجتمع ديمقراطيين. فالمشروع الفكري هو الذي سيتحول إلى مناهج وبرامج ونصوص قانونية ومؤسسات لترسيخ الديمقراطية وحمايتها وتمكينها من التطور المستمر كلما اقتضى الأمر ذلك، إذ لا يوجد نمط للديمقراطية صالح لكل زمان ومكان، والمبادئ والقيم الديمقراطية هي التي تتمتع بالثبات.
فضلا عن ذلك، هل يوجد في بلادنا مجتمع مدني بمفهومه الكوني؟ وهل يمتلك مجتمعنا ثقافة سياسية ديمقراطية؟ إن الجواب عن هذين السؤالين يفضي بنا إلى طرح أسئلة أخرى من نوع: هل توجد في بلادنا أحزاب حداثية ديمقراطية؟ ألا تطغى على أغلب الأحزاب المغربية ثقافة الطائفية والقبلية…؟ ألا تعاني أغلب هذه التنظيمات من عاهات فكرية تجعلها تنتمي إلى ثقافة قرون غابرة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فإن ثقافة أغلب الأحزاب لا يمكن أن تسير ببلادنا في اتجاه بناء مجتمع حداثي ديمقراطي. وبذلك، فإنها تشكل عائقا في وجه التحديث والبناء الديمقراطي.
وتجدر الإشارة إلى أن ما دفعني إلى كتابة هذه الورقة القصيرة هو تلك الهالة التي أُعطيت ولا تزال تعطى لما ُسمي ب “الربيع العربي”، الذي روج له البعض بأنه كان يشكل مدخلا للبناء الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الأمر الذي كان فاتحة بلاء على هذه المنطقة.
لقد وصف بعضهم أحداث هذا “الربيع” بكونها “ثورة”. لكنني أعتبر أنها كانت مجرد احتجاجات تم الاستيلاء عليها، حيث تم توظيفها ضد كل مطامح مجتمعات المنطقة، بل إنها استعملت لتدمير بعض أوطانها.
لقد غدا معلوما اليوم، أن تلك الأحداث قد تم التخطيط لها من قبل بعض القُوى الدولية من خارج هذه المنطقة، كما تم تمويلها إقليميا من رأسمال بعض الدول النفطية التي فعلت ذلك بدافع إرضاء هذه القوى الأجنبية. علاوة على ذلك، قامت هذه القوى الإقليمية والدولية بتوظيف جماعات الإسلام السياسي المتشددة لخدمة استراتيجياتها في هذه المنطقة، فأصبح المسلمون يقتل بعضهم بعضا. هكذا تمت تقوية هذه الجماعات المتشددة، ما أدى إلى ترسيخ ثقافة الكراهية والرجم والذبح والسبي والرق. وهذا ما شكل نكوصا شاملا نحو العصور الوسطى، فتم مسخ صورة الإسلام والمسلمين بسبب ممارسات “داعش” وغيرها من الجماعات التكفيرية الإرهابية. هكذا، فقد بدأت جماعات الإسلام السياسي المتشددة تشكل وجها آخر للاستعمار، كما أن ما تشيعه من ثقافة قد عطل التحول الديمقراطي، فدخلت هذه المنطقة في عصر ظلمات التعتيم والتجهيل… وبسبب هذا كله وغيره، فإننا لم نبلغ بعد بر الأمان، إذ يتطلب الأمر تطوير مشروع ثقافي ديمقراطي ينبغي تجسيده في برامج وقوانين ومؤسسات، ما يجنبنا العنف ويمكننا من الانخراط في البناء الحداثي الديمقراطي وعدم الزج بنا في مسلسل الانقراض.
قد تدعي بعض جماعات الإسلام السياسي أنها قد قامت بمراجعة مواقفها، وأصبحت معتدلة. لكم يبدو لي أنها في أعماقها لا تزال مسكونة بأهداف وقيم “داعش” وغيرها من التنظيمات الإرهابية. وبالتالي، فإن ما تدعيه من اعتدال هو، في نظري، ضرب من ضروب التقية، حيث تقول كلاما اليوم، ونقيضه غدا، وذلك من أجل تحقيق أهدافها السياسية….
قد يفهم البعض من كلامي، أنني أدعو إلى إرجاء البناء الديمقراطي إلى أجل غير مسمى. إنني لا أقول ذلك، ولن أقوله. فما دمت أقول إن الديمقراطية سيرورة وصيرورة مستمرتان، فإن هذا يتطلب الشروع في ذلك بدءا من اليوم، ولا ينبغي تأجيله إلى الغد.
الكاتب : محمد بوبكري - بتاريخ : 03/12/2020