على هامش غلاء المهور وتكاليف الزواج

زبيدة بورحيل

يطلعنا علم الأنتروبولوجيا الاجتماعية على أن الجماعات البشرية نسجت لحمة حياتها المجتمعية ونظمتها على مدى العصور متكيفة مع البيئة الطبيعية الموجودة فيها ومع عدد الأفراد الذين تتكون منهم ومع تجاورها مع جماعات أخرى. وهذا التكيف يظل متواصلا من أجل المحافظة على البقاء بحيث تتغير وتتحول مؤسساتها وتقاليدها وقد يؤدي بها الحال إلى الاندماج في جماعات أخرى كأفراد أو مجموعة من الأفراد. وقد كانت المجتمعات تظل شبه منغلقة على نفسها وتتكيف مع تيارات التغير، على مدى زمني طويل وبالتدريج ما عدا بالطبع في حالات خاصة كالتعرض للحرب أو الأوبئة أو الكوارث الطبيعية أو غير ذلك. فالحاجة الأساسية للإنسان هي واحدة ولكن تنظيم الحياة المجتمعية لتحقيق تلك الحاجة يختلف من بيئة إلى أخرى، ومن ثقافة إلى أخرى، ومن عصر إلى آخر، غير أن العصور الحديثة لم تعد تدع مجالا ليحصل هذا التغير أو التكيف في إيقاع ووتيرة بطيئة، ودون هدر للطاقات الإنسانية والموارد الطبيعية ، لم يعد مجالا للانكماش لأن وسائل الاتصال الحديثة تختصر في كل ثانية مسافات المكان ومسافات الزمان، وتخترق المجالات العديدة في حياة الإنسان حتى أكثرها صميمية، ولم يعد هناك إمكانية للانفلات من سحرها وتأثيرها.
إلا أنه يجب الانتباه إلى أن هذا التأثر والتأثير لا يحدث بشكل موحد وبنفس القوة وبنفس التواجد، فالمعادلة: « المرسل، الخطاب، المرسل إليه، السياق» ليست معادلة سكونية بل هي تفاعلية جدلية معقدة. وكل عنصر من عناصرها هو فاعل ومنفعل، في ذات الوقت. والفاعلية والانفعال تختلف قوة التأثير والتأُثر فيهما.
ومجتمعنا العربي يخضع بدوره لتأثير التواصل والاتصال، وبدوره اختلفت أجزاؤه في التغير والتعامل مع التغير حسب سياقات الأحداث المختلفة التي تعرض لها منذ فترة الاستعمار التي لحقته، مرورا بالتحرر منها وانتهاء بوضع دعائم حياة تنسجم مع الحاضر ولا تستطيع الإفلات من الماضي لأنه جزء من الهوية.
ونظرة سريعة على واقع هذا المجتمع تطلعنا على أن أجزاء هذا الوطن عبارة عن فسيفساء من التنظيمات المجتمعية والسياسية والاقتصادية رغم القاسم المشترك وهو الدين الإسلامي، والحضارة العربية الإسلامية.
فمثلا في المجتمع المغربي نجد أنماطا اجتماعية متعددة تتواجد في نفس الآن، فما زال النمط الإقطاعي يوجد إلى جانب النمط القبلي إلى جانب الرأسمالي والصناعي، ليس هناك إلغاء نمط لآخر، هناك تواجد وتعايش. وينتج عن هذا أن نفس الفرد ينتمي إلى عدة مجتمعات في آن واحد . فهو واقع متعدد الأنماط ، وكل فرد أو جماعة فيه مستدعى إلى خلق التوازنات بين هذه المجتمعات المتنافضة داخله. وكل نمط منها له إطاره المرجعي، له تقاليده، له لغته، وله مصطلحاته.
ونحن ليس لدينا الخيار في الإفلات من هذا التعدد فهو جزء من هويتنا ومن غنى تراثنا الثقافي، ولكن علينا في نفس الآن أن نصل إلى نمط أو أنماط من السلوك تجعل حياة الأفراد لا تضيع هباء، علينا أن نحافظ على الطاقات الإنسانية التي تضيع في المجهود العصبي والنفسي والفكري من أجل إشباع الحاجات الأساسية، لكي يتوجه الجزء الأكبر من هذه الطاقات إلى حياة تكفل تحقيق الذات والإبداع والإسهام في حضارة المجتمع وتطوره بل في حضارة المجتمع الإنساني.
علينا أن نتوقف كل مرة ونعيد النظر في التعامل مع المتغيرات الراهنة، وأن نضع الصعوبات المجتمعية التي تعترض حياة الأفراد في السياق العام لمرحلة تطور المجتمع أو غيره، وفي السياق الخاص لذاك التطور في البيئة المحلية الخاصة. علينا أن نضع في اعتبارنا دائما الحركة
الجدلية التفاعلية بين ما هو عام وما هو خاص ، بين ما هو عرضي وما هو بنيوي.
في هذا المنظور يجب أن يطرح مشكل مثل مشكل المهر وتكاليف الزواج . فالرغبة في الزواج هي رغبة عريقة في القدم لدى الإنسان، لارتباطه بتحقيق وإشباع حاجات أساسية لدى الإنسان. وقد تفننت المجتمعات في وضع أسس وطقوس تحقيق تلك الحاجات « المحافظة على البقاء على النوع» وغلفتها بمعتقدات وتأويلات وموانع وعقوبات أحيانا.
فقضية غلاء المهور وتكاليف الزواج يجب وضعها في السياق العام للمجتمع العربي، وهو في التضخم الاقتصادي والأزمة الاقتصادية الدولية، وفي السياق الخاص وهو مرتبط بالأول وهو تخلف التشريعات المتعلقة بالأسرة من ناحية والتشريعات المتعلقة بتوزيع الثروة القومية بين أفراد المجتمع من ناحية أخرى.
لقد حدد المهر في المجتمع العربي عموما حسب الأعراف والتقاليد السائدة ولم يكن عائقا لإبرام عقد الزواج. وهذا يعني أنه كان في مقدرة المعنيين بالأمر دفعه دون إرهاق. وقد حددت الشريعة الإسلامية نصاب الزكاة والإرث في مقادير حسابية واضحة، أما المهر فشاع القول: صداق المثل.
إذن ظهور دعوات لتحديد الحد الأعلى والأدنى للمهر يحمل في باطنه نوعا من التعامي عن الواقع الاقتصادي بدرجة أولى وهو سبب ظهور أزمة الإقبال على الزواج ، فضلا عن أنه تكريس لدونية المرأة ومعاملتها كسلعة تخضع للارتفاع أو الانخفاض كسائر السلع، ثم إن الدعوة إلى إلغاء المهر قانونيا يعني الحرمان من تلقي هدية كتعبير عن رغبة في عشرة تآخي وود.
إن الأزمة التي تتعرض لها الأسرة العربية بوجه عام لا يجب فصلها عن عاملين أساسيين:
ظروف اقتصادية عادلة، وتوعية جذرية على مستوى التنشئة الاجتماعية. ففي ظروف اقتصادية عادلة لن يوضع مشكل المهر وفي تنشئة اجتماعية سليمة لن يعيد الأبوان إنتاج الاتجاهات المكبلة لنمو الشخصية وتفتحها بالنسبة للولد والبنت على السواء بمجرد أنهما في دور الوالدين.
وأعتقد أن طرح المشاكل المتعلقة بالأسرة يجب أن يفتح بابا آخر في مجال البحث، فإلى جانب إجراء الدراسات حول الاتجاهات والمواقف تجاه العلاقات الأسرية بوجه عام يجب فتح باب البحث في مستوى أعمق، أي إجراء دراسات على الدراسات المقدمة في هذا المجال من طرف الرجال أو النساء الباحثين. وأعتقد أن السكوت عن المأزق إنما سيؤدي إلى صراع دائم وإلى تلاشي الأصوات في الهواء، يجب أن يحدث تواصل عن التواصل لمعرفة أين ينقطع خط اللقاء.
إن ما يمكن تسجيله حاليا عن واقع المناقشات بين الباحثين والباحثات هي سيطرة علاقة المتهم والمتهم – بالفتح-، علاقة المطالب والمطالب، المدافع والمدافع عنه، الخاطئ والمصحح. وهي علاقة قد تقبل في مستويات أخرى، لكن تواجدها بين الباحثين والباحثات هو ما يجب إعادة النظر فيه، وهذا يحدث حتى إن كان الباحث أو الباحثة من دعاة تحرر المرأة و المؤمنين به مع اختلاف الحالات أي حسب وجودهما في منصة المناقشة أو في منصة البيت.
وعلى العموم يحتمي الباحث وراء التأويل الذكوري للشريعة الإسلامية، وأعتقد أنه آن الأوان ليتقبل الرجل التأويل النسائي للشريعة الإسلامية.

الكاتب : زبيدة بورحيل - بتاريخ : 19/12/2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *