دفاتر الطفولة : سعيد بوكرامي: أينك يا ابن حزم؟

تَفتحُ جَريدَة «الاتّحَاد الاِشترَاكي» عينَ القارِئ المَغربيِّ علَى فترَةٍ أسَاسية منْ عالَم الطُّفولة، يَسترجعُ فيهَا أَصحابُها لَحظاتِ عُبورهم الاسْتثنائِي مِن “عَالم الطَّبيعَة” إلَى “عَالم الثقَافَة”، عَبر اللِّقاء الأَوّل بعَالمِ الكُتّاب أوِ المَدرسَة وَمُروراً بمُختلَف الحكَاياتِ المُصاحبَةِ: الدَّهشَة الأُولَى فِي الفَصل؛ الاِنطبَاع الَّذي يُخلِّفه المُعلِّم أوِ «الفَقيه»؛ تَهجِّي الحُروفِ الأُولَى؛ شَغَب الطُّفولَةِ وَشقاوَتهَا وَأشكَال العِقَاب غَيرِ المُبرَّر أَو المُبرَّرِ بمَا لَا يُعقَل؛ انْتظَار الأمَّهاتِ أمَامَ بابِ المَدرسَة؛ زَمَن الرِّيشَة والدَّواة وَالقصَص الَّتي تسْتَتبِعُ لَطخَات الحِبْرِ في الأصَابعِ وعَلى الدَّفاترِ وَالمَلابسِ؛ مُقرَّرات الرَّاحلِ بُوكمَاخ الشَّهيرَة، وَغَيرِهَا منَ التَّفاصيل الَّتي كانتِ الْبدَاياتِ الأُولَى التِي قَادَتْهم إلَى مَا هُم عَليهِ اليَوم وَالَّتي بكلِّ تَأكيدٍ، سَتتحكَّم، قليلاً أوْ كَثيراً، في مَا سَيكُونُونَه غَداً.

 

 

تخيل معي أن هذه اللحظات المستعادة لم أستطع يوما توظيفها في أحد من نصوصي القصصية، فقد كانت تتراءى لي بعيدة المنال كنبع سرابي في فيافي وقفار هذه الحياة المتلاطمة كما حمم بركان.
لا أتذكر تحديدا لحظات الاستعداد ولا ما رافقها من طقوس لاقتحام فضاء المدرسة لأول مرة. ولا بد من التذكير للتاريخ فقط أني درست سنة في مدرسة للراهبات، وسنة عند معلم يدعى بوجمعة أعتقد أنه من أوائل من أسسوا مدرسة خصوصية ثم كنت أزور المسيد خلال عطلاتي الصيفية في أبي الجعد. كانت هذه السنوات التمهيدية سلسة ومرنة وحلوة، إذ كنت أترك لأفعل ما أشاء دون ضرب أو تعنيف من أي أحد.
بل إن سنتي الأولى في مدرسة ابن حزم بنين بحي العنق التي أصبحت اليوم خربة مهجورة، كانت سنة حالمة.
كل ما أتذكره من عامي الأول أني وجدت نفسي في فصل فسيح مملوء عن آخره بتلاميذ لا يطيقون الجلوس على طاولات خشبية محدبة سوداء، تتوسطها حفرة مغروسة في فراغها دواة بلاستيكية حائلة اللون، تميل إلى البياض وتميل أكثر إلى اللون الأزرق الداكن. في الحقيقة لم تكن تهمني صور الحيوانات المعلقة ولا الضوء العارم المشع في القاعة البيضاء، ولا هدير البحر المتناهي إلى مسمعنا خلال فصل الخريف والشتاء، كل ما كان يهمني في الواقع ابتسامة الوقار وطريقة استقبال المعلم الفاضل “لبينة” لنا – الذي وهبه الله هيبة واستقامة وابتسامة تهدئ النفوس وتمنحها طمأنينة غريبة.
أحببت الدراسة والتمثيل إذ كان في لحيظات الاستراحة يقترح علينا تمثيل اسكيتشات هزلية من اختراعنا. كنا نرتجلها وكان هو يصححها ويضيف تعديلات عليها.
ثم جاء اليوم السحري الذي تعرفنا فيه على السينما. يرجع الفضل في ذلك إلى المعلم الجليل بنحيدة الذي كان يأخذ التلاميذ المتفوقين إلى فرجة ضاحكة على شارلي شابلن في مقالبه الهزلية الصامتة.
كنا نجلس محدقين في هذا الرجل القصير القامة النحيل الجسم، وهو يمرغنا على الأرض من شدة الضحك. فقط آلة سوداء دوارة وإزار أبيض كانا يفعلان بنا ما لا يمكن أن يفعله أي شيء آخر. كنا نخرج إلى الكانتين لاستلام حصتنا من الكومير والفروماج والحليب والدنيا أمامنا تشع متلألئة بدروب مضيئة من الأحلام والآمال.
كانت تلك الصور الزخمة والكثيفة تدفعني لإطلاق العنان لمخيلتي. فكثرت أسئلتي ونكاتي ومقالبي حتى أضحيت حكاء جيدا للنكات والأحاجي، بل إني كنت أستحوذ على انتباه أسرتي وعائلتي بأسلوبي الضاحك في الحكي الفكاهي. لم أكن أعلم وقتها أني سأتحول مع تعاقب السنين عن حسي الساخر إلى حس فجائعي في الكتابة. لعل موت أبي في سن مبكرة كانت الشرارة الأولى التي أضرمت النار في روحي الفكاهية.
كانت السنة الأولى وما تلاها من سنوات خمس في المدرسة، عالمي السحري الذي أثر في شخصيتي وميولاتي الأدبية والفنية، لم يكن المعلمون يبخلون علينا بأي شيء، آباء وملائكة كما كنت ألقبهم حينها. طبعا لم يكن العقاب بعيدا عن عوالمنا السحرية. مع ذلك فقد كان العقاب جزءا لا يتجزأ من حياتنا. يوجد في المدرسة كما كان يوجد في البيت. كان رادعا لنا من الانفلات والانحراف. فكلما أخطأنا علمنا أن العصا ستلهب أصابع أيدينا وأقدامنا، كنا نأكلها راضين ممتنعين عن تكرار الأخطاء نفسها.
اليوم تغيرت المدرسة كثيرا، أصبحت المدرسة العمومية عبئا واجترار إرث من الفشل بدأ مع الثمانينيات وتفاقم في التسعينيات، وبعد الألفية انبجست أخطاء التسيير والتدبير وهدر المال العام من كل مكان وأضحت المدرسة اليوم آيلة للإفلاس. أما المدرسة الخصوصية فيغلب عليها منطق الربح واقتحمها أصحاب الشكارة من كل صوب وحدب ولابد أن يؤول مآلها إلى كوارث في المستقبل.
وداعا مدرستي الأولى “ابن حزم بنين” وأنت الآن تقاومين صدأ البحر وإهمال الوزارة المعنية وبعدما كنت فضاء للأحلام، أصبحت اليوم ملجأ للمشردين والخفافيش والقطط والكلاب الضالة.

(قاص ومترجم)


الكاتب : زهير فخري

  

بتاريخ : 22/12/2020

أخبار مرتبطة

‬بعد ربع قرن‮ ‬على العهد الجديد،‮ ‬لو سألنا السي‮ ‬محمد‮ ‬ما هو أهم شيء تغير في‮ ‬المغرب أو ما الذي‮

من الواضح أن العلاقة بين القارئ والكاتب شديدة التعقيد؛ ذلك أن لا أحد منهما يثق في الآخر ثقة سميكة، وما

ضرار نورالدين كائن متعدد : شاعر ، مترجم ، موسيقي وكاتب قصة للأطفال ، كما في جبته العديد من المشاركات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *