المشهد العام، بين أزمة القيادة و رهان التنمية

سعيد المسكيني *

من زمن مضى كانت القيادة من اختصاص كبار القبيلة وأعيانها، وكانت كل أمور القبيلة من منازعات وتسويات وتوافقات تمر عبر هذه الفئة، التي كانت تحظى “بشرعية” كبيرة داخل بنية المجتمع المغربي، وكان لكل جماعة فقيهها ومسجدها، وقائدها “رجل القبيلة” أو رجال القبيلة (الشيخ)، وغالبا ما يتم اختيار الشيخ بناء على توافق الآراء بعد عمليات تشاورية، ويكون كبير السن، ويحظى بمكانة اجتماعية عالية عند أفراد القبيلة.. وترجع إليه كلمة الفصل في جميع الأمور الخاصة بالقبيلة.
لقد أدى هذا النوع من القيادة و ظيفته، وساهم في بناء منظومة من القواعد والأعراف لتدبير الجماعة وجعل كلمة القائد، فوق كل مساءلة أو طعن أو تشكي، خاصة وأن المسحة الدينية للقيادة،يسرت القبول بأحكام وقرارات القيادة لدى الجماعة وتنظيمها الاجتماعي، لكن اليوم، لم يعد هناك مجال للقبيلة بكل قيمها ونظامها وتوازناتها، فقد تطورت الحياة، وانتقلنا من مفهوم القبيلة بما هي تنظيم اجتماعي مؤسس على بنية إثنية ونظام شفوي، إلى القبيلة السياسية بقوانينها ودساتيرها المكتوبة، أي الانتقال من مفهوم الولاء لثقافة القبيلة بما تكرسه من انتصار للعرق و للدم والفخدة و الدوار… إلى القبيلة السياسية المؤسسة لنوع من الارتباط و الولاء لقضايا مرتبطة بالمواطنة السياسية المنتجة لآليات و قيم و مفاهيم مدنية جديدة لتدبير الاختلاف وفرز لقيادة. قادرة على تحقيق الاندماج الاجتماعي داخل المجتمع الحديث.. إلا أن هذا التطور، لن يمنعنا من الوقوف على بعض المظاهر، التي تميز المشهد العام الوطني، عبر عودة مؤسسة القبيلة، بشكل متواتر، داخل المجتمع بين الفينة والأخرى مما يعيق البناء المدني للمجتمع المغربي، و يعرقل محاولته الانتقال من مجتمع القبيلة الذي يرفض أن يختفي، إلى مجتمع المواطنة و القيم المدنية الحديثة…
مناسبة هذا التقديم، هو محاولة البحث في موضوع القيادة في المجتمع المغربي، هل البيئة الثقافية والتربوية والسياسية، قادرة على استنبات مفهوم للقيادة بمعناها الحديث؟ أي هل المؤسسات الوسيطة والتنظيم الاجتماعي المغربي قادر على فرز قيادات محلية، جهوية وطنية تمتلك شروط ومقومات وصفات القائد؟ أم أن أمر صناعة القيادات بالمغرب واستنباتها، أمر غير ممكن و صعب التحقق.. فمن هو إذن القائد، و ما هي مقومات وشروط القيادة، و ما هي أهم العناصر المعيقة لظهور جيل جديد من القيادات، بعد تلك التي أفرزها سياق وطني وزمن سياسي مختلف عن حاضرنا ؟
• القيادة، الدلالة والمفهوم:
يسجل التاريخ مجموعة من الوقائع الساطعة، لدور القيادة في صنع التاريخ، وما قام به مجموعة من القادة في تغيير مجريات الأحداث ورسم مسارات جديدة له.. بما تميزوا به من خصال و قيم منفردة جعلتهم زعماء أو أبطال تاريخيين أو قادة يصعب على المؤرخ تجاوزهم أو عدم الحديث عنهم.. في كل المجالات السياسية، العسكرية، العلمية أو الاجتماعية، حيث أصبحت خطواتهم وعمالهم موضوع دراسات ومصدر إلهام للأجيال اللاحقة.. فماذا تعني القيادة و ما هي أهم شروطها؟
إن تحديد مفهوم القيادة وتسييجه نظريا أمر صعب للغاية، نظرا لكثرة التعاريف وتعدد الزوايا..، فالقيادة بمعنى من المعاني، هي روح المسؤولية التي يتفرد بها شخص ما، و يمارسها على جماعة من أجل توجيهها نحو تحقيق أهداف مشتركة تهم جماعة ما.. فهي بالتالي مجموعة من السمات والمهارات التي يمتاز بها القائد، والتي تساعده على التأثير على الناس أو تعديل سلوكهم من أجل تحقيق هدف ما، إن اختلاف وتعريفات القيادة، مرتبط بتباين المنطلقات والمرجعيات الفكرية المؤطرة، فهناك من يربط مفهوم القيادة بالمدخل الغائي الذي يرتكز على الغاية و البعض يرتكز على المنهج الإجرائي أو الوسيلة التي تحقق الهدف، وآخر يرتكز على ماهية القيادة وكيفية وجودها واستمرارها، لكن أكثر التعاريف واقعية، هو المرتبط بالقيادة كعملية تفاعلية بين القائد واتباعه وليست في اتجاه واحد.
إن القيادة نوعان، قيادة رسمية وغير رسمية، فالقيادة الرسمية هي التي تستمد شرعيتها من انتخاب أو تعيين، في إطار قوانين ومقتضيات منظمة، وقيادة غير رسمية، و هي جوهر القيادة، لأنه يتم بمعزل عن السلطة، بل على التأثير الشخصي في المحيط، هذا النوع من القادة، غالبا ما تحاول السلطة اقتفاء أثرهم واستقطابهم بحكم قوتهم التأثيرية، من أجل تمرير رسائلها داخل المجتمع.
• القيادة السياسية: التأصيل النظري
رغم تعدد التعاريف و النظريات في موضوع القيادة، فمن يعتبرها فنا وعملا مهاريا، وهي خصائص تولد مع الناس بالفطرة، و هناك إحصائيات ودراسات تبين أن 2% من الناس يولدون قادة بالفطرة ولا يحتاجون لمساعدة خارجية، فهي بالتالي، ظاهرة نفسية، اجتماعية، وفردية بامتياز، إلا أنه رغم ذلك فاكتساب صفة القائد الحقيقي أمر دقيق يحتاج إلى ملكات فيزيولوجية نظرية تولد مع الشخص وإلى ملكات مكتسبة وتجارب وخبرات وتراكم، من التجارب المعاشة..
مفهوم القيادة السياسية:
يمكن تعريف القيادة السياسية، بأنها القدرة العالية للقائد السياسي بمعية النخبة السياسية في تحديد أهداف المجتمع السياسي، واختيار الوسائل الملائمة لتحقيق هذه الأهداف، بما يتلاءم مع الإمكانيات الحقيقية للمجتمع، وبهذا المعنى، فإن القيادة السياسية لا يمكن أن تكون فردية، بل يمكننا القول إنها تتضمن العناصر التالية:
• القائد
• النخبة
• الموقف
فالقيادة الحقيقية هي التي تضمن التفاعل بين كل هذه المكونات، مما يتيح ذلك التأثير المتبادل المنشود، في هذا الصدد يقول بايلي بأن القيادة هي “قدرة القائد على اتخاذ القرارات في مواجهة الموقف وإقناع الآخرين من أعضاء النخبة السياسية والجماهير بهذه القرارات “وبالتالي ، فإن القيادة بهذا المعنى هي عملية إقناع، أي أن القيادة، كعملية، هي قدرة وبراعة القائد السياسي بمساعدة النخبة السياسية في تحديد أولويات المجتمع وترتيبها حسب أولوياتها، واختيار الوسائل الملائمة لتحقيقها مع ما يتفق وإمكانيات المجتمع الحقيقية..ورغم أن القيادة، وفق هذا التعريف، هي عملية تفاعلية بين مجموعة من العناصر المتداخلة، فإن ذلك لا يخفي قيمة القائد من خلال ملكات اتخاذ القرار والجرأة في الطرح والمهارة في التجميع، وهو بهذا كما يقول وليام بين”إذا لم تستطع قيادة نفسك، فلا تحاول قيادة الآخرين، فالقائد السياسي متى تملكه الخوف أو الجبن لن يكون كذلك”، يقول جان جوك روسو” في هذا الصدد” حيث يكون الرجال جبناء يتلذذ الحظ بتفجير سلطته وبالعكس، فإنه يبتسم للجريئين…” إن القيادة، دائما موكولة للشجعان والأقوياء، الذين ولدوا ومعهم موهبة قيادة الآخرين .أولئك المؤهلين لأن يدركوا بنظرة سريعة الفرصة الملائمة ويمسكون بها في الوقت المناسب..
2 – المشهد العام وسؤال القيادة، الرهانات والمعيقات
عشية كل استحقاق سياسي أو انتخاب تظهر الحاجة إلى وجوه جديدة و نخب وقيادات قادرة على تحمل المسؤولية وضخ دماء جديدة بالمشهد العام، الذي أصيب بعقم كبير على مستوى استنبات نخب جديدة، تمتلك مهارات وكفايات القيادة وتمتلك رأسمال رمزي لتعزيز مستوى الوجاهة الاجتماعية بالمغرب، الهدف من هذا التذكير، هو مواجهة مقاربة إشكالية التنخيب بالمغرب وصنع القيادات بكل مستوياتها، محلية، إقليمية، جهوية أو وطنية قادرة على القيادة والتأطير والتجميع الذكاءات الفردية في إطار بناء ذكاء اجتماعي مشترك داعم لبناء الذات الجماعية، اقتصاديا، سياسيا ثقافيا واجتماعيا، فماهي أهم معيقات استنبات وفرز قيادات جديدة بالمغرب؟
في تقديري، هناك عدة أسباب متداخلة تساهم في تفقير المشهد العام وتعقيم مؤسساته عن إفراز قيادات جديدة في مستوى رهانات الواقع الوطني و متطلباته الآنية والمستقبلية..
• المعيقات النفسية لبناء القيادة:
كثير من الناس يعتقدون أن القادة يولدون ولا يصنعون، وذلك بالنظر لصعوبات اكتساب الصفات القيادية العظيمة، فالشخصية القيادية هي نتاج تفاعل مجموعة من العناصر الذاتية الخاصة، فليس كل من يشغل منصبا يمتلك شروط القيادة ذلك أن كاريزما القيادة لا ترتبط بالموقع، بقدر ارتباطها بالقدرة على الفعل والاداء والكفاءة لقيادة الجماعة والتأثير فيها من أجل غاية مشتركة أو بناء موقف ما، فالتوازن، والإبداع و المهارة والثقة في النفس و روح المبادرة و ضبط النفس هي أهم سمات القائد الحقيقي، هذه الخلطة من المقومات هي عبارة عن خيوط متشابكة تحتاج دائما إلى التوازن حتى تنتج قائدا حقيقيا داخل المجتمع.
لكن، وكما يقول الشهيد عمر بن جلون، “لايمكنك رسم خط مستقيم في فضاء معوج”، فالقائد هو نتاج بيئته، ومحيطه الثقافي و التربوي والنفسي، فلا يمكننا بناء قائد في بيئة مهزومة ووسط أسري أو تربوي كابح للروح الإبداعية، مفتقد لأصول تربوية مغذية لتثقيف الشخصية القيادية، فالأجيال الجديدة تعيش اليوم على وهم مسيطر على العقول كابح لكل بناء قيادي داخل المجتمع، وغالبا، ما تحاول الأسر المغربية إعادة إنتاج نفس القيم عبر نقلها إلى جيل الجديد بغض النظر عن المتغيرات القيمية والتحولات سواء داخل الأسر أو داخل المجتمع، وهو ما يحصل مع هذا الجيل، جيل منكفئ على نفسه، مهزوز الثقة بالنفس، فاقد للتوازن خائف وفاقد للقدرة على المبادرة، إن محاولات احترام التقاليد والقيم الجماعية الموضوعة من كبير العائلة، ومن خلال اسقاطات يمارسها الأب تجاه الابن، تشكل محاولة لإعادة إنتاج نفس الشخصية. و كل تجاوز لهذه المسالك، المسنود بعدد من النصوص الدينية أو من الأعراف الاجتماعية تكون تكلفته باهضة على مستوى البناء النفسي للطفل أو الشاب.
• المعيقات الثقافية والاجتماعية:
يشكل الموروث الثقافي وسوء قراءته وتأويله عنصرا من العناصر المعرقلة للبناء الفردي والجماعي، وتجد دائما من يردد ويروج داخل المؤسسات وداخل المجتمع أفكارا معيقة بل ومشيطنة لكل المبادرات والتجارب، والسبب في ذلك أن بوادر القيادة التي تبدو على البعض من خلال انخراطه في تنظيم جمعوي، سياسي، ثقافي دائما ما تقابل في الوسط الاجتماعي و السياسي باستهجان كبير، من طرف أغلبية، لا تزال تعتقد أن كل ما هو تنظيم فهو مرادف للمروق والخروج عن الملة ومدعاة للانحراف، ودائما ما نلاحظ بعض التمثلات لدى الآباء وأعوان السلطة أو مربين، تدعو الأطفال والتلاميذ والشباب إلى مقاطعة الانخراط في الجمعيات والأحزاب بدعوى أن ذلك مجرد عبث ومضيعة للوقت و هدر لفرص النجاح في المستقبل، هذا النوع من التفكير أصاب الرحم المنتج للطاقات والقيادات بالعقم و لم يعد بالإمكان فرز مشاريع قيادات إلا لماما، وبشكل منفلت عن النسق السياسي والاجتماعي. هذه النزوعات التبخيسية لكل فعل منظم، غالبا ما تتخذ أشكالا أكثر عنفا وراديكالية عبر خطاب التخوين والرغبة في فك الارتباط و التبرؤ من كل المؤسسات ومهاجمة كل آليات و مخرجات كل فعل جماعي منظم .
• المدرسة ورهان صنع القيادة:
لقد صار من البديهي الحديث عن علاقة التلازم بين المدرسة وبناء الإنسان، فلا يمكن الحديث عن تعليم جيد إذا لم يساهم في بناء الفرد وصناعة قيادات قادرة على ترسيخ معارفها في الدائرة الاجتماعية، فالمدرسة كانت ولا زالت تمثل أم المؤسسات التي تساهم في تأهيل الإنسان وتحديث المجتمع والتربية على الحرية والمسؤولية المواطنة ومبادئ العقلانية والنقد، أي بمعنى آخر المدرسة هي المحرك الأساسي لتطوير المجتمع لأن وظيفة المدرسة اليوم لم تعد عند حدود تنفيذ المشاريع التربوية، بل تساهم في صناعة قادة قادرين على الاستيعاب والتكيف والاندماج والقيادة، لكن السؤال المطروح اليوم، هل مدرستنا وفضاءاتها التربوية في مستوى الرهانات؟ رغم كل المجهودات الإصلاحية المبذولة للارتقاء بالمدرسة المغربية وتجويد مخرجات النظام التربوي؟
يبدو أن الإجابة عن هذا السؤال، يتكفل به الواقع العنيد الذي يؤكد أن مختبر صناعة القيادات، أي المدرسة لازالت بعيدة عن تحقيق هذا الطموح وذلك لأسباب أهمها:
• المعيقات الموضوعية :
تعاني المدرسة المغربية اليوم من التراجع في مكانها داخل المجتمع و في سلم اهتمامات المواطن المغربي، وذلك بفعل تقليص و ظيفتها و عمق الهوة التي أصبحت تفصل المدرسة عن المشاريع المجتمعية المرتبطة بالتنمية وبناء الفرد وذهنيته العلمية الحرة المنتجة والسوية المتوازنة. وذلك بفعل اعتمادها على ممارسات تربوية متجاوزة مبنية على التخويف والرضوخ و”الشحن” المعرفي غير المجدي، كما أن البرامج التعليمية لاتزال تتضمن نصوصا تساهم في غرس ممارسات غير تربوية وغير اجتماعية .
• إن المدرسة المغربية اليوم، تعاني نوعا من التردد الواضح، فهي لاتزال فضاء لتعايش عوالم مختلفة، عالم ينهل من ماض بعيد، عالم حاضر متدبدب، ومستقبل غامض، هذا التداخل للعوالم، وعدم إعمال القطائع وعدم الرغبة في الإجابة عن من نحن وماذا نريد؟يجعل من مدرستنا فضاء للتخريب والفوضوية، هذا التردد أفضى إلى اهتزازات مازالت ارتداداتها تتكرر، لأننا لم نستطيع الحسم في نظام عيشنا ولا في نوع المجتمع الذي نريده، هل نريد أن نجعل من العقل منطلق كل شئ؟ والقطع مع مراحل الميتافيزيقا والغيبيات والتمييز بين التقاليد وعباداتها ومن أجل جيل من الاطفال و الشباب مؤهل، له بنية فكرية وذهنية عقلانية تربط بين الأسباب والمسببات، أم نريد جيشا من التلاميذ يستكين لثقل العادات والتقاليد و هيمنة الأساطير..؟
• الاحزاب السياسية: بين هاجس الكسب الانتخابي ورهان التأطير السياسي.
لا شك أن الأحزاب السياسية هي رهن الفعل الدمقراطي، باعتبارها تجمعا للمواطنين يتقاسمون نفس الأفكار والمبادئ ويجتمعون من أجل وضع و صياغة مشروع سياسي جماعي و العمل على تنزيله إلى أرض الواقع عبر المشاركة في الانتخابات والوصول إلى السلطة و ممارستها وقيادة الشأن العام. لكن مقابل ذلك، وفي سبيل الوصول إلى تحقيق هذه الأهداف، لابد من وجود قيادات ونخب سياسية قادرة على حمل هذه المشاريع وترجمتها عبر تحمل مسؤوليات تدبيرية داخل المجتمع ومن أجل هذا الغرض أوكل الدستور 2011، عبر مقتضيات الفصل 7منه للأحزاب السياسية المغربية مهمة تأطير المواطنين والمواطنات وتكوينهم السياسي وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية وفي تدبير الشأن العام، إلا أن واقع الحال، يؤكد حاجة الأحزاب السياسية، باعتبارها مؤسسات وسيطة، إلى مراجعات جوهرية حتى تستعيد وظيفتها الدستورية، إضافة إلى ذلك هناك معطى آخر يساهم في عدم فرز قيادات ونخب في مستوى التحديات التدبيرية و التمثيلية والاستشارية، وهي محددات السلوك الانتخابي للمواطن المغربي.
• الأحزاب السياسية: ضعف التأطير والتكوين
سؤال الفعل الحزبي اليومي لا يوازيه إلا سؤال التنظيم و الدمقراطية الداخلية و ما يمكن أن يلعبه من أدوار ومهام في إطار من التأطير و التكوين.
فالحزب السياسي، باعتباره بنية مؤسساتية مرتكزة على وجود أجهزة محلية، إقليمية، جوهرية ووطنية مهمتها الأساسية خلق شروط من التأطير للمنتسبين للحزب وتسليحهم بقيم و مبادئ الحزب والتربية على الاختلاف والمساواة والمواطنة، عبر تقوية المشاركة السياسية للمواطنين والمواطنات. إن الاستثمار في الكفاءات والطاقات داخل الأحزاب السياسية يقتضي وجود بنيات تنظيمية متعافية من كل الأعطاب ولعيوب التي قد تعرقل أداءها، إلا أن ما نلاحظه اليوم، داخل المشهد الحزبي، يؤكد أن الجسم الحزبي يعاني من مجموعة من الأعطاب الداخلية التي تحد من تأثيره في صناعة الرأي العام وفي صنع قيادات قادرة على المشاركة المواطنة الواعية، ويمكن سرد بعض هذه الأعطاب كالتالي:
• غياب عدالة تنظيمية داخل الأحزاب السياسية
• غياب التداول على المهام والوظائف القيادية داخل الأحزاب السياسية
• صورية الأجهزة التقريرية
• ترجيح كفة الزمن التنظيمي على حساب الزمن السياسي والتأطيري والتكويني
• مسؤولية السلطة في تبخيس وظيفة الحزب السياسي، من خلال الحياد السلبي وتشجيع المتطفلين على العمل الحزبي بدعوى المساواة، كما لو أن المساواة لا تقتضي توفر الشروط الخاصة و ليس فقط الشرط العام.. !
• ترجيح كفة الفعل المدني على حساب الفاعل الحزبي من طرف فاعلين عموميين على مستوى الجماعات والأقاليم….
• غياب الدعم المالي للأحزاب السياسية الفاعلة في مجال التأطير الميداني وحصر الدعم في المحطات والاستحقاقات الانتخابية..
• هيمنة الهاجس الانتخابي على الفعل الحزبي، أفرغ، الفعل السياسي باعتباره عملية تربوية تأطيرية ، من كل حمولة أو أفق منتج.. !
إن الواقع الحزبي، بكل أعطابه واختلاله، يبرز حقيقة واحدة و هي أن حجم الاستثمار في الطاقات والكفاءات والقيادات المتواجدة داخل المجتمع لايزال دون مستوى ربح الرهان الحزبي، وأن المستقبل يقتضي إعمال مقاربة جديدة تأخذ بعين الاعتبار، ترجيح الاستثمار في العنصر البشري وتقوية الأداة الحزبية بما يخدم صناعة قيادات مؤهلة لتدبير الشأن العام.
• رفع مستوى الوعي لدى الفاعلين الحزبيين قيادة وقواعد بأهمية ودور التنظيم والتأطير السياسي وتجاوز الأعطاب المعيقة لكل فعل حزبي جاد.
• ترشيد وحكامة تدبير العنصر البشري وتنميته داخل المنظومة الحزبية، بعيدا عن “الترف القانوني” الذي لن يساعد إلا في إغراق الأحزاب السياسية و فقدانها لوظيفتها الوجودية.
• السلوك الانتخابي والقيادة: ملاحظات أولية
لاشك أن الدمقراطية عبارة عن كل مركب، و لاشك أن الانتخابات تعتبر جزءا من هذا الكل، فهي بالتالي آلية من آليات الوصول إلى السلطة، وكل محاولة للفصل بينهما يؤدي بالضرورة إلى استحالة بناء أي دمقراطية حقيقية و عجز العملية الانتخابية عن تقديم تفسيرات في أداء و ظائفها، في هذا الإطار مجموعة من الدارسين حاولوا فهم سلوك الناخبين و النخب السياسية في المجتمع، ونتيجة لذلك، تم التراجع عن الاعتقاد السائد في تفسير الانتخابات وفق النموذج الانتخابي، والانتصار لفكرة ومقاربة جديدة تنطلق في دراستها للتأثير من خلال الاستعمالات ضمن الإطار المرجعي و السياسي التي تمارس فيه، إن السلوك الانتخابي، لايمكن فهمه دون المرور عبر فهم وتحليل الانتخابات و الخصائص التي تميزها و يمكن حصرها كالتالي:
• الطابع غير الإيدولوجي للحملات الانتخابية
• الطابع الشخصي للحملات الانتخابية
• الطابع الاحتفالي للحملات الانتخابية
هذه الخصائص، التي تميز الاستحقاق الانتخابي، باعتباره لحظة سياسية للتنافس الايدولوجي والقيمي، والاختيارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولأن الأمر غير ذلك، فإن مخرجات المحطات لابد وأن تكون دون الارتقاء إلى فرز قيادات وكفاءات جديدة في إطار التداول على السلطة وعلى تدبير الشأن العام.
إن السلوك السياسي غالبا ما يتأثر بمجموعة من المعتقدات والسلوكات الاجتماعية، نتيجة الأعراف والعادات السائدة، وهو ما يساهم، إلى حد كبير، في تعطيل آليات الإدماج، والثقة في العمل الحزبي والسياسي عموما، وهو ما يصيب المشهد العام بفقر كبير في إنتاج كفاءات واستنبات قيادات جديدة.

* طالب باحث بسلك الدكتوراه
مختبر الحكامة الأمنية
والفعل العمومي
وحقوق الإنسان

الكاتب : سعيد المسكيني * - بتاريخ : 26/12/2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *