لا يلوذ المكان دوما بيقينه، ولا يتمترس داخل بداهاته وإحالاته المنتهية. إن المكان سؤال مايني ينطرح علينا في علاقته بالجسد، بالفكر، باللغة، بالمادي والرمزي .لا ندرك المكان دوما كهنا- أمام- الوعي والإدراك، الذي يلزمه إدراكه والإحتفال به كمكان .ليس المكان الكائن سلفا الذي يدركه الفكر، تقوله اللغة ، يأسره المفهوم ويبنيه كموضوع للمفهمة أو للتمثل، بل هو ما يستدعيه الفكر/ اللغة ، ما ينخطف إزاءه، ما يحدسه وما تترجمه الصورة الشعرية، أحيانا أو تلم شتاته الشذرة الموحية، أو تروم مجاسدة كثافاته وترحيلاته الكلمات. المكان- البيت، ليس فقط الجوانية الملمومة على ذاتها، ليس المغلق الذي يسكنه المرء بشكل نهائي كجسد وكفكر ولغة، ولا الداخل الذي تتجمع فيه شظايا الوجود وتعثر فيه على المحل الآمن. لكن المكان- البيت هو أيضا البرانية المفتوحة على عنف الترحيلات وإسراف الانخطافات، والمفتوح الذي يعبره المرء وهو يرى بعين الفكر، أو يحدس على الأقل رعب تلك الفضاءات اللانهائية التي تحدث عنها باسكال، وينوشم به، والخارج الذي فيه تتذرر مظاهر الوجود وتختبر في جسدها، فكرها ولغتها، فداحته وخطره. يقول النفري في أحد مواقفه: (بيتك هو طريقك، بيتك هو قبرك). ليس البيت عند النفري، ما نسكنه / نسكن إليه ، بل ما نعبره، ما ينبت أسفل الخطو حين المسير أو الترحال، أي الطريق، وأيضا ما إليه ننتهي وفيه نثوي أي القبر .إنه العبور- المثوى في الأوان ذاته، ما نهبره كأحياء ونسكنه فقط كأموات .نحن لا نسكن البيت هنا- الآن، لا ندرك السكن كإقامة في/بجوار، إن ما نقوم به هو فقط العبور الدائم، كأن البيت فضاء رحب، شساعته لا متناهية، أمداء لا تحدها جدران نسكنها أي نعبرها ، تماما كما تسكن القبائل الرحل فضاءات لا محدودة هائلة الشساعة، وكما تسكن الطرق اللامرئية في صحارى وحده الحدس والدربة تسمح لها باجتراحها ومعرفتها. أن نسكن البيت، هو من منظور النفري،ـ أن نعبره، أن نزيل الجدران الفاصلة بين الداخل والخارج، الجواني والبراني، المنغلق والمفتوح، وهذا العبور هو بالتحديد ما ينتظم الوجود كسيرورة وكمآلية .إن البيت الذي يتحدث عنه النفري، هو ذلك الذي ينوجد ما وراء الكينونة باتجاه اللاكينونة. إنه بيت بلا أسس يتشيد في حيز ميتافيزيقا التخييل التي تزرع نوعا من الدينامية المباشرة فيه، فلا يبقى، بالضرورة البيت الذي نظن، بل اشتغال الكينونة داخل التخيل وانخطافها. إن ما يتكلم عبر/ داخل صورة البيت، ليس الذات كتجسيد للمدرك بل الذات/ الحالة في عبورها والمنفعلة معه .لذا فإنها لا تتكلم بصورة مباشرة وتلقائية عبر ضمير المتكلم، بل تتم مخاطبتها،أي أن ما تختبره باعتباره تجربة أنطلوجية (تأسيس الكينونة -عبر -الكلام)، تعيه بطريقة طيفية SPECTRALE عبر صوت الآخر المتكلم فيها. إنها حيز لاشتغال/ انعلان هذا الصوت الطيفي الذي يخبرها بمآليتها ويحددها. ويبدو كما لو أن هذا الصوت الطيفي الذي ينوب في الحديث عن «الأنا» الصامتة هو الذي يكشف أصل الذات المتكلمة عموما في «مواقف» النفري، عمقها الأنطلوجي كذات لاتقيم بل ترحل لتفنى .لا نسكن إذن، إلا وفق نوع من السكن الأنطلوجي الذي يجعل من «الهنا» في «الكينونة- هنا» حيزا متحررا من المرجعية الهندسية أو الطوبوغرافية للفضاء، عنصرا لا ينعلن بشكل فعال ودينامي إلا في «هنا» مفتوح على نداءات وضرورات «الهناك». إننا في العمق لانسكن البيت كشيء، كمكان بل كعنصر هو بالذات عنصر السكن نفسه الذي يتداغل نسيج دلالاته من السكن في…إلى السكن إلى ….إلى السكينة التي تلزم الروح كشرط شارط أكثر مما تعني الجسد. هنا بالذات يمكن أن نفهم قول باشلار Bachelard العميق في مقدمة (شعرية الفضاء): (إن روحنا مسكن). يتعالى هذا البيت الذي يصير طريقا وقبرا، هذا البيت «المسكون» على الفضاء الهندسي ويتجاوزه، ينسكن بالمتناقضات، بالحي والميت ، العضوي واللاعضوي، الجسد والجثة .إن حياة هذا البيت تسكن / تسير نحو موتها كما يسكن النضج الفاكهة سلفا حتى قبل أن يحين أوانه .إنه بيت الشساعة بامتياز ، بيت «الآخر» الذي لا حد له. لا تقاس الشساعة داخله بالأحجام والمساحات والخطوط بل باللامفكر فيه الهائل الذي يمخره. (إن السكن هو النمط الذي وفقه يكون الفانون فوق الأرض ويوجدون.) ، يقول هيدغر(1). لا نسكن لأننا «نبني»، لكننا نبني باستمرار في الإطار الذي فيه نسكن وفق سكن متعدد متنافر، تخترقه الترحيلات. إن السكن العارف، تماما كما السكينة العارفة، باب مفتوح على الأبدية . ليصير البيت طريقا يلزم الاضطلاع عميقا بالمساءلة والمجازفة.(تقدم وتحمل/ الفشل والسؤال / وفيا لطريقك المتفرد)(2). تذهب طريق النفري هذه، التي هي كينونة البيت من حيث هو كذلك، من السكن –الإقامة إلى السكن – العبور. إنها أشبه ما تكون بماء نهر يعبر، يندلق دون توقف عند براهين ما قد تكون أحيانا ظلال جسر تنرسم على سطحه.
إن صيرورة البيت طريقا هي الدينامية الدالة على فاعلية الحياة .إن الطريق هي التي تجمع/ تلم في سورة اندفاعتها الحيوية كل عناصر الوجود، لتعبر/ تذهب بها نحو حضور «الأبدي» .تجمع الطريق، وفق طريقتها الخاصة، تماما كما الجسر عند هيدغر (3)، إلى جوارها الأرض والسماء ، الأزليين والفانين. بهذا المعنى يمكن القول بأن بيت النفري لا وجود له قبل الطريق التي هي أوله وآخره.لا يحايث البيت الطريق بل يتخلق منها ويتماهى معها .لا وجود لحد بين البيت والطريق. ليس الحد المكان الذي يكف فيه شيء ما عن الوجود ولكنه، كما لاحظ الإغريق ذلك فعلا، النقطة التي انطلاقا منها يبدأ شيء ما في التكينن، أي ينبثق في حمى الوجود وجوانيته الحميمية. انطلاقا من بيت النفري تندلق الأمكنة، وداخله تتبلور الفضاءات الكبرى للرحيل في خضم الحضور (الطريق) وفي خضم الغياب (القبر).لا يمنحنا بيت كهذا حميمية الإقامة بجوار الذات، بل حميمية الانصهار مع فضاءات أخرى وعناصر مختلفة، كما لو أننا لانسكن سوى شظايا الكينونة، مزقها وسديمها. حين لا يظل هذا الهناك المتخيل طبيعيا وهندسيا (الطريق)، فإنه ينقذف تبعا لذلك في منظور شاسع، وينتقل من تخيل الحضور إلى تخيل الغياب.إن الشساعة مكون أساس من مكونات كينونتنا. إن التعارض بين الداخل والخارج مجرد تعارض شكلي ناهض على نوع من الاستلاب و التنافر بين الاثنين، لكننا نلفيهما في العمق متوحدين، وفق نوع من الوحدة الانطلوجية التي لا يستنفدها جدل التعارض. إن الخارج/ الهناك هو المادة التي منها تتخلق كينونة الداخل/ الهنا .إن الفضاء امتداد وترحيل، وليس دائرة مغلقة على نفسها.
يوجه النفري الخطاب لآخر قد يكون هو، نظرا لأن «المواقف» ناهضة على سرد أقوال ذات متكلمة (متعالية وميتافيزيقية)، انطلاقا من لازمة ما تني تتكرر: (وقال لي…)أي الانتقال من (قال) إلى ضمير المتكلم المفرد (لي) إلى انت (بيتك/قبرك/طريقك…إلخ)، بحيث يحصل التماهي المطلق بين الأنا والأنت. يوجه الخطاب إذن لذات يراد لها أن تسكن ولا تسكن. يقربنا هذا بقوة من شذرة شعرية لروني شار في مجموعته «أوراق هبنوس»: (تزوج مسكنك ولا تتزوجه) (4) .يتعلق الأمر هنا، سواء بالنسبة للشاعر الذي يرى (القصيدة عشقا متحققا لرغبة تظل رغبة)، أو بالنسبة للصوفي المضطلع بجوانية تجربة تفتحه على برانية عنيدة واختلافية ، أو بالنسبة للفيلسوف الذي يجاور اللغة من حيث هي بيت الكينونة، يتعلق الأمر بالنسبة لكل هؤلاء بتخيل/ تفكير في بيت كامل لايمكن أبدا زرع أسسه ودعائمه ولا التحقق من إمكانية تشييده. كما يسكن روني شار ألما، فإن النفري يسكن انخطافا إزاء المكان من حيث هو مكان الحدس الصوفي (التجربة الأنطو-ميتافيزيقية) ومكان الابداع الأدبي (تجربة الكتابة). أن تسكن (البيت)ولاتسكنه (العبور/ الطريق)، أن تزوجه ولا تتزوجه، تلك هي الحركة الدائمة التي يحكمها مبدأ التملك/ اللاتملك أو نوع من السيادة التي لا يأسرها سلفا سقف مشروع ما. إن للبيت دوما بعد صوفي عميق قد يتماهى أحيانا والمنظورين الكوني والميتافيزيقي، وهي الصوفية الهرمسية التي لا ترى في البيت دوما المكان الذي نعتقد الإحاطة به عبر بداهاتنا الهندسية اليومية وعلائق العادة والتكرار. البيت سكن وتيه، ذلك ما يعلمنا إياه درس أوديب الذي انذغم في العمى والتيه وانمنح لضيافة الغرباء في الأرض الغريبة بعد السكن في بيت السلالة، والنوم الايروتيقي في حضن الأم جوكاست .كل بيت مسكون سلفا بالفقدان الذي هو نوعا ما، اللامفكر فيه داخله، لذا فإن مسألة التأسيس تفرز دوما خطرها ومجازفاتها .نعثر على البيت لأننا سنفقده حتما .مبدأ الفقدان هو اللامفكر فيه داخل حيازة البيت.(هكذا يمتلك الفلاسفة والشعراء الأصليون البيت، لكنهم يظلون تائهين بلا محترف ولابيت) يقول روني شار في مجموعته « البحث عن السفح والذروة».
إن البيت الصوفي هو سلفا، بيت غائب ومفقود، يلاحق من طرف ذات منخطفة. إنه بيت يفلت من منطق الإدراك لينمنح لتجربة الحدس والمشاهدة .إنه انفتاح شساعة الموجود على أقصى الممكن. إن تجربة الحدس والمشاهدة هذه، هي بالذات معرفة «الثمالة» والفراغ اللانهائي للمتعذر التفكير فيه. إنه قول الهاوية وجماع الممكنات والتجربة العارية التي تتكينن في جوانية عريها .لا تروم تجربة كهذه التحقق في سقف مشروع فكري ما. منه قد تمتاح سيادتها ، لأن التجربة نفسها تنطرح هنا بما هي سيادة .إن وجود التجربة في ذاتها وتحققها هو علتها الكينونية، هو نفيها لكل غائية أو سقف معلوم مسبق للتجربة .لذا فإن هذه السيادة لا تتغيا التحقق في سقف بارانوي صلب ما، و سرعان ما تتلاشى مع تلاشي التجربة ذاتها .إن الأهم هو ألا تكون التجربة قيمة في ذاتها، وألا يصير الصوفي خادمها حين تتماهى ومعرفة خطابية بانية .بهذا المعنى تصير تجربة بيت النفري هي بيت التجربة لأن كلاهما ينسكن بالمحو والتلاشي والفقدان سلفا .حين يحفر هيدغر في العمق الإثالي/ الفلسفي لكلمة «سكن»، يرى فيه ما يشير إلى المابين اثنين الذي يوحد السماء بالارض، يفصل أحدهما عن الآخر .لا تندغم كلمة «سكن» في مدلولها، إلا إذا دلت في الوقت نفسه على حركة الذهاب والتيه. أن نسكن البيت وفق نمط الترحال هو أن ننفتح ككائنات منذورة للفناء على إمكانية انمحاء الطريق التي يصيرها البيت واندثارها .لا يتمظهر بيت النفري إلا في آثار العبور وذاكرة الترحال والصمت النهائي للجسد المنخطف العابر .إنه بيت بلا براهين لأنه مسكون سلفا بموته.لا يضطلع الصوفي بعبور البرهان بل بعبور العرفان .إنه لا يتوقف عند انجلاء البراهين، بل عند كثافات الحدس والانخطافات العارفة.لا تترك الكتابة الصوفية سوى آثار العبور لابراهين الإقامة في مكان معلوم .(الرؤية لا وطن ولا ذكر) (5) يقول النفري .إنه الوقوف في التيه حيث يرى الواقف كل المحاج مندلقة تحت الأرض .
في بيت كبيت النفري يكمن كل إسراف الكتابة الصوفية وطاقتها التخييلية، وغموضها المفتوح على ألق الرحيل/التأويل.
إن الآثار بما هي كينونة الانكتاب /الانمحاء، هي ما يتكلم/ ما يبقى من داخل هذه الكتابة. (إذا جئتني فألق العبارة وراء ظهرك وألق المعنى وراء العبارة) (6).
(بيتك هو قبرك) يذكرني هذا القول بآخر باللغة الدراجة لا يني يكرره الأحياء المندغمون في ضرورات اليومي وإكراهاته مفاده أن (البيت قبر الدنيا).يمتد مسار الحياة في الوعي الشعبي خلال المسافة التي قد تطول أو تقصر بين «قبرين» .إنها، نوعا ما، جنائزية الوجود أو منظوره الماورائي الذي يرى الموت وبيتها جزءا أساسا من الحياة وبيتها ، بهذا المعنى يقول باطاي: (لقد ولجت الموت بيتي)، ليبين بأنها دوما الحدث الذي يقتحم علينا خلوتنا، بيتنا ويفاجئنا داخله، ليعلن فينا/أمامنا اكتمالنا الآتي، وأننا لا نشكل في ذاتنا كلا لا يتجزأ. إنها المستحيل الذي، كما يقول عنه غوته، يتحول بغتة إلى واقع .
إن الإنسان هو فعلا الكائن الوحيد الذي يعلم سلفا أنه سيموت، وعيناه عكس الكائنات الأخرى ليست مفتوحة على الخارج بل ترى الداخل .إن جثة الميت هي بمثابة طلسم يحوي الحياة والخصوبة.هكذا تمثلت / وظفت الكثير من الثقافات والحضارات الجثة ونظرت للموت كشيء مقدس، كقوة لا نهائية يتم دوما إضفاء طابع الوداعة والحنو على رعبها وقسوتها.لقد تبلورت الثقافة دوما وتجسدت كقبر وكضريح، وليست هناك من ثقافة إنسانية بلا قبور ولا أضرحة، ولا أضرحة بدون ثقافة، لأنها الرمز الثقافي الأول والوحيد. إن صيرورة البيت قبرا هي بشكل من الأشكال صيرورة الجسد جثة .يسكن الفانون البيوت، يعبرون الطرقات، لكن وفق نمط من السكن/ العبور الذي يظل دوما بانتظار اللامتوقع. يسكن الفانون، لكنهم في الأوان ذاته يقودون كينونتهم الخاصة والمتجسدة في القدرة على الاضطلاع بالموت من حيث هي موت، أي إلى التحقق في هذا الواقع اللامتوقع.أن ينقاد الفانون داخل كينونة الموت، لا يعني هذا أبدا أنهم يجعلون من الموت هدفا يفهم (بضم الياء) كعدم فارغ، ولا ينزعون إلى إضفاء بعد تراجيدي على السكن نتيجة هذه النظرة الشاخصة إلى النهاية وحدها دون غيرها. إن القبر عند النفري، هو إمكانية البيت/ الطريق، الخط الذاهب نحو النهاية. يعتبر هيدغر الموت ملاذ الكينونة .إذا كانت الموت خارج العالم، فإن القبر عند النفري هو نفسه البيت، أي أن الموت ، كما يراها ، تنوجد بجوار الحياة كاستمرار لها، كما لو أن التجربة الصوفية تروم الاقتراب ما أمكن من الموت داخل الحياة .يختبر الصوفي تجربة السكن/العبور/الموت ويخترق الأمكنة الثلاثة : البيت /الطريق /القبر، عبر الانخطاف والمشاهدة والحدس الجواني الرائي من جهة، وعبر الكتابة الخلاقة للغتها ودلالاتها غير المسبوقة من جهة أخرى. يلزم القول في هذا السياق بأن النفري مثله في ذلك مثل ابن عربي وجلال الدين الرومي وغيرهما يعتبر من الأسلوبيين الكبار، ذوي العمق الفلسفي/ الشعري الصوفي المتميز الذين كتبوا نوعا ما في ضرب من اللغة الأجنبية.
إن عشق الكتابة عند الصوفي ليس عشقا عاديا، ولكنه عشق مفرط وفريد من نوعه، لأن الكتابة جزء من وجوده وتجربته.إنها الفضاء الذي يحكي فيه تلك التجربة ويخطها حتى لا تضيع. إن الكتابة بالنسبة للصوفي ليست فقط مبدأ مغايرة وانفصام ومنفذ يفتح على الألوهية والطبيعة والمرأة، ولكنها أيضا سلاح لمقاومة الزمن، أي المجال لتثبيت المعاناة .إنها لغة الحلم والموت، أي لغة الألم المضاعف، لأن الألم يجذر الإحساس بالحياة والاستمرار والخلود بخلاف فقدان الألم الذي يعني الجمود والتحجر.ولذلك كان الصوفي يتشبث كثيرا بالكتابة لأنه عبرها يعيش الألم إلى أقصى حدوده، يذيب ذاته وبقدر ما كانت الكتابة الصوفية فضاء للموت والألم (موت الصوفي و ألمه)، يجب أيضا أن تكون فضاء لموت القارئ وألمه) (7). يسكن الصوفي ألمه، بلغة روني شار، كما لو أن الألم شرط وجود .
تظل الكتابة الصوفية، نوعا ما، مفتوحة على علاقة ما قبل- رمزية تقودها بالضرورة الى التيه والترحال وإلى التنافر لتصير الذات الكاتبة ذاتا في حالة تكون دائم، في حالة صيرورة.وبدل أن تطرح الكتابة الصوفية أولوية كينونة متعالية أو معنى قبلي مسبق، فإنها تستدعي المعنى –في حالة – صيرورة ، «وتتمثل» الفعل الدال l’act Signifiant بشكل مغاير، بعد قلب وهز أس الوضع الاعتباري للمدلول وللأنا المتعالية.إن ما تطرحه كتابة النفري أو ابن عربي عبر اشتغالها الأسلوبي والدلالي، هو الكتابة كاشتغال مستقل بسيرورته الخاصة مفتوح على اللامتعين واللامحدد الذي يشيد العلاقة بين المعنى، بين اللغة والإيقاع وبين الرمزي والسيميوطيقي في المقام الأخير. بهذا المعنى يمكن القول إن الكتابة الصوفية تشتغل انطلاقا من فقدان الشرعية الرمزية والبلاغة التي نهضت عليها كتابات أخرى، وأنها نموذج دال على الأزمات والاستحالات التي تخترق تلك الرمزية المتعالية الموروثة. بهذا المعنى أيضا يلفي القارئ نفسه ملزما بتفجير وعيه الخاص المسكون بالمسبقات ومعايير أفق انتظار مؤسس للاضطلاع بما سماه الاستشهاد الوارد أعلاه (موت الصوفي وألمه) .إن الرهان الأهم هنا (أي في حيز اشتغال هذه الكتابة) هو تحديدا جعل الانغلاق المتعالي الذي تنهض عليه الكتابة البارانوية الدالة مستحيلا .إنها ربما تجربة في الكتابة تشتغل انطلاقا من استحالة هوية دالة أو مسكونة بمدلول ما . لربما كان ضروريا، في ما سيأتي من السياقات، استنطاق هذا العمق الانهمامي الذي يسكن الكتابة الصوفية كلاوعي أو كلا مفكر فيه، ويحضر عبر مجموعة من الآثار أو يعود كمكبوت، العمق الذي تتجاور فيه الإيروتيقية بالموت باللذة والمتعة بالعشق بالفقدان، وحيث تحضر مكونات هذا العمق كسيرورة سيميوطيقية تزرع التنافر في قلب ما يبدو منتظما ودالا.
إن خطاب النفري موجه لنا كقراء يلزم أن يضطلعوا عميقا بمحكه ويندغموا في تجربته، أي أن يمارسوا نوعا من القراءة العاشقة لنصوص (المواقف والمخاطبات)، القراءة التي تمتحن أسلوبها، لغتها ، مفاهيمها ونمط تأويلها ومدركاتها عبر الاضطلاع بكتابة المغايرة العنيدة والعنيفة في آن كما تجسدها التجربة الصوفية. إنها القراءة العاشقة التي تمتحن نفسها عبر الاضطلاع بالنص والاحتفال به، ومحاولة احترام بروتوكول ضيافته لا القراءة العالمة أو التي تظن نفسها كذلك، والتي يكون همها الأساس هما نظريا يروم تأكيد إجرائية منهجها ومفاهيمها عبر تطبيقها على ما يصير حين التطبيق نوعا من «النص- الذريعة». إن حد البيت الصوفي هو فقدان الذات (المحدود) في اللانهائي (اللامحدود)، و الأخطر في التجربة الصوفية، هو أن الصوفي لا يسكن في النهاية سقف بيت معلوم .إن التجربة الصوفية في العمق، متعلقة بالغياب لا بالحضور. إنها خطاب حول الغياب .لا يسكن الصوفي غير المحو، محو الذات / التجربة/ السياق. لذا فإن كتابته تنطرح دوما ككتابة/ طرس يتأرجح بين الانكتاب والانمحاء .إن أقصى ما ينفتح عليه البيت الصوفي ككتابة وكتجربة هو الفناء والحلول ووحدة الوجود، أي بمعنى ما النسيج الدلالي الذي تنتظمه مرجعية الموت الممكنة والمستحيلة .يكون الصوفي على وشك الموت لكنه لا يموت، كما عبرت عن ذلك القديسة تيريز دافيلا قائلة : (أموت لكوني لا أموت). إنها تجربة تخومية قصوى تبدو فيها الموت كانمحاء واندثار كلي وشيكة الوقوع ومتعذر بلوغها في الأوان ذاته. إنه الخروج من الذات، اختبار تجربة الموت، لكن دون الكف عن الحياة. إن البيت في العمق ليس سوى الحد الفاصل والملتبس بين الكينونة واللاكينونة ، وفي صيرورته قبرا تحقق دال للكينونة – باتجاه – الموت.
هوامش:
1- Heidegger, Essais et conférences, Gallimard, coll : tel, 1958.p.175.
2- Heidegger, Questions 3 et 4 , Gallimard, coll :tel, 1976.p.19
3- Essais et conférences, op.cit.p.181.
4- René Char, fureur et mystères, n r f , poésie/Gallimard, 1967.p.95
5- النفري، المواقف والمخاطبات ، تحقيق آرثر أربري ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985.ص.117.
6- نفسه.ص.154.
7- منصف عبد الحق، الكتابة والتجربة الصوفية، منشورات عكاض، 1988.ص.499-500،503