«أيها الشيطان ارحم بؤسي الطويل (…)
أنت يا من، من المنية عشيقة العجوز القوية، أنجبت الأمل الفاتن المجنون
أنت يا من تمنح المحكوم بالإعدام
النظرة الهادئة المتعالية التي تدين شعبا كاملا يلتف حول مشنقة» شارل بودلير
وأنا المشنوق بعد برهة، من سينكس رأسه بعد حين، وسيكون متدليا بعد ثوان من حبل المشنقة هذا، جسدا بدون روح، هذه طلباتي الأخيرة:
مظلة تقيني الآن من ضربة الشمس، عطر يمنحني قوة الغزو وتأشيرة عبور قلب بكر..
نزع ملابسي كلها لأصاب بنزوة برد، تكون دليلي على الحياة قبل الشنق.. جرعة من النبيذ لا الجعة، كي لا أموت بغصة في الحلق.
أريد أن أركض لحظة لأصطاد فراشات السراب.. لمن سأمنح ظلي بعد الشنق؟
أنا قصير، فأعلوني قليلا إلى الحبل.
أيها الساهرون على موتي، أنا المربوط بحبل وثيق وأنتم المربوطون بي، لا أموت بكم، ولا تحيون إلا بموتي.. «وأنتم الأحياء المزدهون بالتفرج على موتي: أي حدث فذ أن يرى المرء العجول والخراف معلقة في دكان الجزار، ساكنة لا تبدي حراكا، تنكس رؤوسها قليلا لتنصت إلى نهر عميق في جوف الأرض».
وحدي أعرف أني سأموت حتما..
لي ما نبت من كرز على شفاه العذارى الحاضرات لمشهد شنقي، لي إيمان الذاهبين إلى حتفهم بكامل اليقين، شهداء حلم.. لي ما تبقى من وعود حبل المشنقة.. اختلاس النظرة الأخيرة للحشود وقراءة وصاياي.. قبلة محالة على خد الحبيبة، حظ الذاهبين إلى مواعيد حالمة بدون اشتهاء، معرفة أني وحدي سأموت وسط فرجة الأحياء، هل هو امتياز أن يكون لي أنا كل هذا الموت، لي وحدي أنا دون سواي، ولي وحدي استحضار كافة الذكريات:
الخد الذي أسند فراغي، الفخذ الأول الذي هزني.. الكأس الأولى التي أوقفتني على ما يشبه حافة الغناء.. نشوة السيجارة الأولى، والبوح الممكن للنساء اللواتي ضاجعتهن في سري، دون أن ألتقي بهن لحظة.
لا أريد أن يطل قمر حزين على سمائي هذا المساء..
لا أعشق رماح المراثي ولا موج الدموع في جنازتي، أشتهي رنين الزغاريد لعلي أرحل ببعض الأنوثة إلى صحراء الغيب.
أقدم اليوم اعتذاري لكل الحماقات التي لم أركبها.. للجنون الأقصى الذي لم يركبني.
قلق على ما انصرم من سبحة الحياة في زمني، لما لم أورده موطن الهلاك.. وباقي عربات الأماني السريعة التلف.
لما انتصر في وعاش بعيدا عني.. للوعة المروعة والجراح المتخثرة المختلفة الأشكال والأحجام الصاعدة من قفير النحل في شجر حياتي.
أشك أن يكون لي وحدي كل هذا الموت.. اليقين الوحيد الذي أملكه الآن، هو أني سأموت شنقا.
كيف لم أفقد لذة التوقع بعد؟ أليست هذه قلة «حياة»؟.