البطل الذي عاش غريباً مرتين
أحمد المديني
لو لم يتدخل الرقيب المقيم في رأسي لسمّيته الثائر، بدلَ البطل، للرجفة التي تثيرها الصفةُ في بعض الفرائص، فتنقضّ على الكلمة بأنياب دراكولا وتهيج منتشيةً بالدم. رغم هذا، استعمال اسم البطل عندي كناية ٌعن الثائر، فهكذا عاش الرجل وكان. لست حفار قبور، ولا قارئ سُوَر على النعوش، إنما لا يليق بي، بكثير منا، ولو جهلوه، أن يتركوه يمضي وحده بدون وداع، رغم أنه بمخاطرته الكبرى في الدرب المستحيل عاش وحيداً، غريباً عن الوطن والزمن والإخوان، وكذلك رحل غريبا، هو البطل. البطولة ليست في النصر ولا الهزيمة، أكبر تَجلٍّ لها هو المأساة والإحساس بالمأساوي، وهذا أفق عُلويٌّ لا يبلغه إلا المنذورون لخوض مصائر كأنها ملحمية لأن أقدامهم في الأرض ورؤوسهم أبصارهم تخترق السحاب لتجلو السماء وتبدد الظلماء وترى الغد ولو بعين الخيال.
هذا ما قرأت في عيني محمد آيت قدور وأنا أجالسه قبل أربعين عاما خَلت بباريس في مقهى بالدائرة 14 أوّل ما حططت الرحال، كان اللقاء به والحديث ولو وجيزاً لأبناء الاتحاد في ذلك الزمن الآفل، الوافدين على باريس والعابرين، كذلك، أشبه بطقس صوفي في حضرة شيخ، لم نكن نزوره لالتماس بركة، ولكن لنرى بأمّ العين كيف يقف المهندس المحكوم بالإعدام منذ 1972 على قدمين، وعلى وجهه تشمخ جبال وسفوح الأطلسين، ومن عينيه المتلألئتين، وراء نظارتين سميكتين، يسري كما بين شقوق الصخور ماء هو دمع ساكن من حنين إلى الوطن، لا يفضحه إلا صوت هادئ كالخرير حين تسمع صاحبه يتكلم تعْجَب أنه لمن أراد أو اتُهم بقلب نظام الحكم مع مجموعة ضباط المحاولة الانقلابية الثانية في تاريخ المغرب الحديث.
شبيبة اليوم لا يعرفون هذا التاريخ ولا أعلامه، لأنه غير مقرر في المدارس، ورجالاته في عداد الراحلين. كثيرٌ منهم ما عادوا يحفلون، إلى مشاغل ومطامح أخرى أضحوا يميلون، عليها يحرصون، يخافون، وإما يقدمون أجسادهم قربانا للبحر عسى حياة أخرى يعيشون؛ لن أقارنهم بطموح آيت، فقد أراد عَمْرا وأراد الله ساعدة. ولقد شطبتُ ومَحَوْتُ من الزمن والذاكرة أحداثا جساما وكثيراً من الأسماء، ستبقى في التاريخ ليوم موعود، وبما أني لست مصابا بالعيّ رغم أن التذكر قد يصبح أيضا تهمة، قلت لا أتيه عنه ونحن في زمن التيه، لن أسلوَّه طلبا للسلامة، فذكر بعض الأسماء ضرْبٌ من هلاك كالوباء، أي سلامة بعد الغرق؟! ثم كم عنادٌ هو الإمعان في نكران الحقيقة وطمس التاريخ رغم «مزيفي النقود» كأن تقول، المهدي بن بركة لم يوجد، لم يُختطف، أنتم إذ تجتمعون كل 29 أكتوبر أمام شاهدة مفترضة بمدخل (مقهى ليب) بسان جرمان ممسوسون تطالبون باسترجاع روح تائهة بين الأرض والسماء؛ أم نتنازل للقتلة بأن عمر بن جلون لم يقتل في واضحة النهار بشارع كميل دي مولان؟! كذلك هل أكتفي بالقول مات آيت قدور، وليرحل بلا عزاء؟ كلاّ، سأستعير شكسبير فأقول» إن سماءً مثقلةً لهذا الحدّ لا تنجلي بدون عاصفة»، وإن هبوبي فيها هذه الكلمات.
عاش آيت في المنفى ولم ينس مشروعه أسكنه في قلبه، ورغم أنه ظل يؤمن أن الزعيم لا يكون إلا واحداً فقد ساير التيار، شحذته الغربة ومنطق الواقعية بعد انتقال الحزب إلى ضفة السياسة، كان الفقيه البصري وأتباعه في متاهتهم، منهم اليوم من يسرفون في الكذب والبهتان، وهو في باريس ربان، قد كان للمغرب فيها سفارتان، من بعيد ثمة رجال حاضرون، ومن قريب أشداء في الخفاء، وغالبية طلبة دار المغرب في ( la rue des écoles) المقر القديم، قبل المدينة الجامعية صنعوا فيها كومونتهم، تتفرع الخطوط والخيوط الحزبية النضالية وبين أصابعه تمرّ كالبرشمان، كذلك التي تمتد إلى الخارج كما حضرتها أمام أبو عمار في بيروت وسواه من القادة الكبار، ولم يكن دعيّا ولا حامل لواء الثوار. عيشُه ومسكنُه وسيرتُه على بساطة مثيرة واضحة للعيان، وجميع طلبة المغرب وأبناء الحزب وكل منفيٍّ عنده بمثابة ابنه وأكثر من أمقران. ما اغتني أبداً من المنفى ولا تاجر أو شيّد البنيان، ووعى أنه خسر الرهان!
رأسي مشتعل بالذكريات، سأقطف منها وردة النصر المؤزّر الذي حققه الاشتراكيون بفوز متيران، احتفلنا به في شقتي بالدائرة الخامسة ليلة العاشر مايو 1981 وصلنا الخبر مباشرة من مقر الحزب في سولفرينو، أخذه آيت، ومرّره لعليوة والقرشاوي، هاجت مشاعرنا وضجّ بيتنا لم يسعنا من الفرحة ولا أجسادنا وانتقلنا كلنا ربما نمشي في الضوء والأثير إلى ساحة الباستيل يتقدمنا آيت قدور، رأيت في وجهه ومن نشوته أنه هو من فاز والليلة ينتقم لماضيه.
في الشهور والسنوات اللاحقة ظل الخيمة و(الزاوية) والمحج، لكن استفحل فيه داء الغربة والحنين إلى الوطن، لم يعد يرى معنى لاستمرار منفاه خاصة وقد آمن بيقين بالخط الجديد بعد المؤتمر الاستثنائي للحزب الذي هو عضد فيه، متى يُذكر المغرب تغرورق عيناه، يرانا يغبطنا أنا طلقاء ولو في» سراح مؤقت»، وإخوة المكتب السياسي يهيؤون وينتظرون الوقت المناسب، لم ينتظره، بل بعناده الثوري ركب الطائرة وحطّ في تراب الوطن مهما كان الثمن. أظن أنه تصالح على مضض مع ماض أدانه، وسكن إلى نفسه وأهله، لم يغادر مركب الحزب ولا قال أنا الزعيم، لكني الذي عرفت شخصيته ودخيلته ووقرته، احترمت صمته وانكفاءه، فقد ظل في وطنه أيضا غريبا، وهذا قدر الأبطال، قدرنا جميعا نحن من بتنا غرباء!
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 05/01/2021